الحدث – القاهرة
ماذا تريد تركيا والسلطة التركية الحالية من العالم العربي؟ هل يشكل تركيا عامل أمان واستقرار للمنطقة أم عامل توتر واضطرابات وفوضى؟. متى يمكن لتركيا احترام سيادة الدول العربية و إقامة علاقات متوازنة مع المحيط والعالم؟
ماهي القضية المركزية في كل تحركات تركيا وعلاقات سلطاتها بالجوار والعالم؟
بعد احتلال لحوالي 600 سنة، تخلص الشعب العربي وشعوب المنطقة من أكثر المراحل تخلفاً وتراجعاً في حياة الأمة العربية بعد ماكان بغداد ودمشق والقاهرة والقدس في مكان العواصم الغربية الآن أيام الأمويين والعباسيين والعصور التي سبقت ظهور العشائر التركية من المغول والتتار و السلاجقة والعثمانيين في الساحة والفضاء الإسلامي .
لاشك أن أحد الأسباب الرئيسة للواقع الراهن المتأزم في المنطقة، يعود لتلك الحقبة العثمانية المظلمة في تاريخ شعوب المنطقة التي أضعفت القيم الفكرية والعلمية المتراكمة وهزلت البنية المجتمعية الأخلاقية والتي تم فرضها بالحديد والنار من قبل سلالات و قبائل رعوية تركية قادمة من أواسط أسيا، بعديدة عن الحضارة والبناء المجتمعي الأخلاقي وبعد معركتين اساسيتين غير متكافئتين تقنياً وتسلحاً ولوجود بعض المتواطئين و الخونة، هما معركتي مرج دابق عام 1516 والتي تم بها احتلال المشرق العربي وشمال سوريا وجنوب طوروس، والريدانية عام 1517 والتي تم بها احتلال مصر والدول العربية في شمال أفريقيا.
رغم أن مسؤولية البلدان كانت على عاتق العثمانيين كقوة سلطة واحتلال لكنهم سلموا الكثير من البلدان العربية واحداً تلو الأخر للبريطانيين والفرنسيين وحتى أنهم سلموا القدس وبدون أي شي وتحت حجج واهية للبريطانيين واليهود لزيادة تمركز اليهود فيها وللتمهيد للقادم.
ولم يكتفي العثمانيين بإعطاء العالم العربي للبيريطانيين والفرنسيين بل أكملها العثمانيين الجدد والقومويين الماسونيين من تركيا الفتاة و الإتحاد والترقي في بدايات القرن التاسع عشر كقوى وسلطات أداتية للنظام العالمي، بالذهاب إلى تشكيل الدولة التركية القومية الحالية كأهم حالة وظيفية للقوى الخارجية وقوى الهيمنة العالمية، يتم عبرها وبها التحكم بالمنطقة وشعوبها وذلك بإيجادها كنموذج قوموي نمطي للمنطقة بأيدولوجيتها العلمانية وحتى الإسلاموية بعد الثمانينات وإستعمال وإستغلال الجغرافية السياسية التركية المستحدثة حسب مصالحهم وليس حسب رغبة وإرادة الشعوب في تركيا.
بعد التقسيم الذي شهدته الشعوب العربية وبناء تركيا الوظيفية، تم إيجاد إسرائيل بعد التمهيد لها، وربط إقامة تركيا والإعتراف بها كدولة قوموية تركية من قبل النظام العالمي، بأن تعترف تركيا كدولة وسلطات متعاقبة بهيمنة إسرائيل على المنطقة وأن تكون هي الدولة الإسلامية الأولى التي تحتضن إسرائيل كنظام دولة وكأحتياجات ضرورية تؤمنها هي مهما دعت الحاجة. ولعل إعتراف تركيا كأول دولة إسلامية وبعد دقائق من إعلان إسرائيل عام 1948 تؤكد بعض من ذلك مع تزايد وتعميق علاقات تركيا بإسرائيل في مختلف المراحل والمجالات، رغم بعض الخطابات والشعارات الجوفاء والبيانات المتناقضة والمنددة بين تركيا وإسرائيل كما حصل في الهجمات الأخيرة وتشدق أردوغان مع عدم فعله اي شي عملي ملموس مع العلم الإسمنت والحديد الذي يبنى بها المستوطنات غالييته من تركيا الأردوغانية.
وبعد تبلور ملامح النظام الإقليمي وتمكين إسرائيل و بدء قيام تركيا بوظائفها في إضعاف المنطقة والمساهمة في تقسيمها وضرب القيم المجتمعية وتقاليدها الديمقراطية وتشويه صورة الإسلام والمسلمين والعرب، إعترفت بالدول العربية بعد توافقها مع قوى الهيمنة العالمية وعلى راسها بريطانيا وبعدها أمريكا حينها لحماية الجغرافية المتبقية بيديها ولإطلاق يدها في عمليات الإبادة الجماعية بحق شعوب المنطقة المسيحية وعلى رأسهم الأرمن والسريان الأشوريين والروم واليونان كمرحلة أولية وثم إبادة الشعب الكردي المسلم كمرحلة ثانية وهي مستمرة حتى اليوم.
ربما استطاعت تركيا القوموية من تنفيذ الإبادة وبتواطؤ وباسلحة دولية بحق الأرمن والسريان واليونان والروم لكنهم لم يستطيعوا تنفيذه على الشعب الكردي بالشكل السابق.
رغم حالة الإبادة الفريدة بحق الشعب الكردي والمحاولات المستمرة منذ مئة عام في إبادة الكرد والقضاء على مجتمعهم وثقافتهم وإلحاقهم بالقومية التركية ويقومية الدول التي تحكم أجزاء كردستان إلا أن مقاومة الشعب الكردي وجغرافيته وصموده وإصراره على حريته وحقه في الوجود جعلت تركيا غير قادرة على إتمام الإبادة على الكرد وبقيت تركيا أسيرة للسياسة التي ترى وجود الدولة التركية الحالية تقتضي في إنهاء الكرد وتصفيتهم وإجراء تغيير ديموغرافي بحق القسم الأكبر من كردستان الواقع في تركيا ومنع الكرد في اي مكان من الحصول على حريته وحقوقه الطبيعية كباقي شعوب المنطقة والعالم.
إن إنضمام تركيا إلى الناتو ورغبة تركيا بأيدولوجيتها العلمانية في الإنضمام إلى المعسكر الغربي والهروب من الموروث الثقافي الإسلامي كان يؤكد ويعكس النظرة الإستعلائية والهاربة من المحيط العربي بإتجاه الغرب، ولذلك لم يتطور علاقات إستراتيجية متينة ومتوازنة مع المحيط العربي رغم إقامة تركيا وبعد صعود البلدان العربية النفطية واقتصاداتها القوية لبعض العلاقات في مجملها إقتصادية وتكتيكية وليست ثقافية وإجتماعية واستراتيجية.
بعد صعود الإسلام الساسي في تركيا كحاجة لنظام الهيمنة في المنطقة بعد أحداث أفغانستان عام 1990 وأحداث إبران 1979، نظرت السلطات التركية الإسلاموية وخصوصاً حزب العدالة والتنمية ورئيسها أردوغان إلى العالم العربي كتركة وميراث عثماني لأجداده له الحق في السيطرة عليها وعلى مواردها وشعبها وإعادة بناء الإمبرطورية العثمانية. وهنا كان فترة 2002 وحتى 2010 فترة عمل عليها أردوغان وحزبه في إقامة علاقات مختلفة مع العالم العربي والتسلل إلى المجتمعات والشعوب العربية والتواصل بشكل خاص مع من يؤمن ويريد عودة العثمانية كنظام خلافة إٍسلامية حسب اقوالهم. و كانت عندها تركيا على تواصل وثيق مع حركات الأخوان المسلميين في البلدان العربية وجرى إقامة معسكرات توعوية وفقهية وعسكرية للعديد منهم في تركيا في عدة محافظات ومدن مثل إسطنبول وأنقرة و عنتاب وأورفة وإسكندرون واحياناً إزمير، هذا وبالجانب منه إستعملت تركيا القوى الناعمة وخصوصاً الإعلامية و الثقافية والإنسانية والإقتصادية الجمعياتية لزيادة أعضاء الإخوان وتهيئة أرضية مناسبة لها في البلدان العربية، وللأسف لم يعلم الكثير من الدول والتيارات العربية بمشروع ونيات والتوجهات المستقبلية لحزب العدالة والتنمية ورئيسها وكانوا يفتحون دولهم وشعوبهم لتركيا كما حصل في سوريا وغيرها.
ومع عام 2011 وحالة ما تسمى الربيع العربي التي كانت تنتظره تركيا وتعد له كونها كأحد أدوات مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد حسب ماقاله أردوغان في عام 2006، تفاجأ الكثير من الدول وحتى قوى الحركات الجماهيرية الثورية ذات المطالب المحقة بدور الأخوان المتصاعد وبقدرتهم على الترتيب والتنظيم والإعلام المؤثر. هنا تدافعت تركيا وقدمت نفسها وبأدواتها الإخوانية للقوى العالمية بأنها هي صاحبة التاثير القوي في المنطقة وحتى أن البعض من الدول العالمية سمع لها وسايرها في بعض الخطوات ، وعلى أثرها تم تمكين الإخوان وتسليمهم السلطة في بعض الدول العربية، ومع ممارسة الإخوان للسلطة في بعض البلدان العربية وتواجدهم في حركات الجماهير في بعض الدول الأخرى، أدركت الدول العربية ومجتمعاتنا وشعوبنا ولكن بعد فوات الأون ولو بشكل جزئي أن الأخوان وخطاب المظلومية والإسلام ماهي إلا أدواة و وسائل للوصول للسلطة المطلقة وممارستها بشكل إستبدادي وفاشي غير مسبوقيين بشكل ليس لها علاقة بالإسلام وأحكامه وقيمه.
وعلى أثر معارضة الشعوب العربية لهذه التيارات المنحرفة والضالة، كشرت هذه التنظيمات عن أنيابها وفرزت مجموعات جهادية وتكفيرية وإرهابية مارست تكفير الأخر مهما كان حتى لو كان مسلم وبدأت هذه الجماعات الإرهابية القتل والتخريب بحق المدنيين ومؤسسات الدول العربية. وظهر داعش والنصرة كمشتقات إخوانية جديدة وهاجمت على كل الشعوب والأديان دون إستثناء، وكل هذا وتركيا ورائهم وتدعمهم وتتعاون معهم وتسهل قدوموهم عبر مطارات وموانئ تركيا للدخول إلى البلدان العربية.
مما لاشك فيه أن لتركيا في السنوات العشرة الأخيرة وعلى أثر التدخل في محيطها العربي هدفين اساسيين:
1_محاربة الكرد وإبادتهم إينما كانوا حتى لو كانوا في البلدان العربية المجاورة تركيا وليس ضمن تركيا ومنعهم من الحصول على حقوقهم وخلق الفتن والفرقة بينهم وبين الشعب العربي.
2_السيطرة على الدول العربية وإنشاء حكومات إخوانية موالية وتابعة لها كحالة عثمانية جديدة بابها العالي الجديد في أنقرة وأسطنبول وخليفتها أو سلطانها المزعوم أردوغان.
لكن تطورات الأحداث وخطورة تنظيم داعش وعلاقته مع السلطات التركية القوموية الإسلاموية ومافعله، ربما جعل النظام العالمي يغير بعض من أولوياته وخططه وأدواته لذلك حدث أمرين هامين على صعيد المنطقة وهما إسقاطم النظام الإخواني في مصر 2013 والتحالف بين التحالف الدولي لمحاربة داعش ووحدات حماية الشعب والمرأة في كوباني في شمال سوريا.
هنا أدركت العثمانية الجديدة الأردوغانية أن مشروعها عبر الأدواة الإخوانية الإرهابية إلى الزوال، وتدخلت تركيا بشكل مباشر وبقوتها في عدد من البلدان في قطر وفي شمال سوريا وزات من تدخلها في شمال العراق والصومال وتدخلت في ليبيا و ربما زادت تدخلها بشكل مباشر ومستتر في أكثر من 20 دولة عربية.
وامام هذا الإحتلال التركي كان للشعب العربي ولدولها الكثير من العمل والجهد السياسي والدبلوماسي لمواجهة هذه الإحتلالات التركية وأحياناً كانت عسكرية ولو بشكل غير مباشر كما في ليبيا وبعض الدول، لكن في سوريا والعراق كان الشعب الكردي في ريادة وطليعة المقاومين لهذه الإحتلالات كما حصل في عفرين وسري كانيه(رأس العين) و كري سبي(تل أبيض) وكما حصل في حفتانيين وكاري ويحصل الآن في متينا وزاب وآفاشيين في جنوب كردستان ( إقليم كردستان العراق). وبذلك ظل الشعب الكردي وقواه من قوات سوريا الديمقراطية وقوات الدفاع الشعبي(الكريلا) تتحمل الجزء الأكبر من التضحيات ومسؤولية مقاومة الإحتلال التركي لمكونات وشعوب دولتين في الجامعة العربية.
إن الرغبة التركية في السيطرة وإحتلال محيطها نابعة من ذهنيتها وعقليتها الفاشية وعدم تقبلها بالحياة الطبيعية القائمة على التنوع والتعدد. ومن اهم قضايا تركيا هي القضية الكردية وكل سياسات السلطات وإستراتيجيات الدولة التركية هي لعدم حصول الشعب الكردي على حقوقه، والعقل الفاشي والشوفيني التركي يقول أن بقاء تركيا سيكون في خطر إذا تمكن الكرد من الحصول على حقوقهم وهنا تبقى الدولة التركية وسلطاتها في أزمة حقيقية وكل سلطاتها تقول أن وجودي في السلطة يفترض محاربتي وإبادتي للكرد. وهذه الإستراتيجية تجعل الدولة التركية وسلطاتها في حاجة ماسة إلى زيادة اوراقها وتدخلها ونفوذها في المنطقة وإعتمادها على الخارج والعمل على تشويه النضال الكردي ووصمه بالإرهاب وبل وصف الكرد المقاومين لها بالإلحاد والكفر والمفارقة أنها شكلت جيش من المرتزقة سمتها جيش محمد أثناء محاربتها لأحفاد صلاح الدين الأيوبي الشعب الكردي في عفرين ورأس العين وتل أبيض وتسعى جاهدة أن ينظر الجميع إلى الشعب الكردي من منظارها وعدستها المضللة.
وعليه لن تنتهي سعي تركيا إلى إحتلال الدول العربية وأراضيها وشعوبها ومكوناتها المجتمعية ولن تتمكن تركيا من إقامة علاقات متوازنة ومستقرة قائمة على الإحترام المتبادل مع المحيط العربي من دون حل ديمقراطي للقضية الكردية داخل تركيا وفي سوريا والعراق كون تركيا تعتبرها مسألة بقاء لها. ومن الصحيح القول أن حل القضية الكردية في تركيا ستجعل تركيا دولة ديمقراطية تحترم شعوبها ومحيطها وعندها ستكون قادرة على بناء وإقامة علاقات مستقرة ومتوازنة وقائمة على إحترام سيادة الدول العربية ودول المنطقة. يمكننا القول أن العلاقات في أي منطقة هي قضية تكاملية وكلياتية بمعنى لايمكن أن تقيم علاقات صحيحة وأمنة ومستقرة مع من يرتكب الإبادات بحق شعوبها ولديه رغبة في التمدد والإحتلال وبل يمارس التطهير العرقي في أماكن إحتلاله كمنطقة عفرين الكردية السورية. والعلاقات الصحيحة والإستراتيجية تكون مع الشعوب والقوى والمجتمعات والدول الديمقراطية التي تحترم القوانيين الدولية وتعترف بالأخريين وبمصالحهم وبأمنهم كما هي تسعى لمصالحها وأمنها في إطار وحدة ثقافية تكاملية لكل المنطقة ودولها وشعوبها وأممها على اساس حسن الجوار والاحترام و الإتفاقيات الدولية التي تصون سيادة الشعوب والدول وليس تجاوز ذلك تحت حجج واهية وصمت متواطئ كما يحص الآن في مناطق متينا وزاب وافاشين في جنوب كردستان(إقليم كردستان العراق).