الجمعة 11 يوليو 2025
القاهرة °C

المفكر الكردي الكبير محمد ارسلان علي يكتب :عبقرية المكان: كيف نحتت الجغرافيا ثقافة وادي النيل وميزوبوتاميا

الحدث – بغداد

لم تكن الحضارات العظيمة التي قامت على ضفاف النيل والفرات مجرد صدفة تاريخية، بل كانت نتاجًا مباشرًا لـ “عبقرية المكان”؛ وهو المفهوم الذي صاغه المفكر المصري الراحل جمال حمدان، والذي يرى أن جغرافية الأرض ليست مجرد مسرح صامت للأحداث، بل هي لاعب رئيسي يشارك في تشكيل هوية الإنسان وثقافته وفنه ولغته. إن قراءة متعمقة لتاريخ وادي النيل وبلاد ما بين النهرين (ميزوبوتاميا) تكشف بوضوح كيف أن النهر والجبل والصحراء والسهل والأشجار والحيوانات لم تكن عناصر طبيعية فحسب، بل كانت اليد الخفية التي نحتت شخصية الإنسان ورسمت ملامح حضارته.

في قلب هذا التأثير الجغرافي يقف النهران العظيمان: النيل في مصر، ودجلة والفرات في العراق. لقد كان النهر هو شريان الحياة الذي منح الأرض خصوبتها، ولكنه في الوقت ذاته فرض تحدياته التي صقلت شخصية الإنسان. ولكن السيد أوجلان وصف دكتاتورية الجغرافيا والمكان بأنها تعيش “القدسية واللعنة” في نفس الوقت. وهو ما كان في مدينة سيدنا إبراهيم “أورفا”، التي أخرجت نمرود الذي جعل من نفسه إلهً ورفض فكرة الحوار من الأساس وهو ما يمكن رؤيته في رمي سيدنا إبراهيم في النار. إنها اللعنة التي حلّت على سيدنا إبراهيم والذي تحول من خلالها إلى القداسةوالتوحيد وتحطيم الأصنام.

جدلية الثنائيات القاتلة التي ما زلنا نعيش في ظِلهما حتى راهننا ولا يمكننا حتى التفكير في العيش من دونهما. أن لا عشق من دون تضحية وفراق، ولا حرية من دون مقاومة. في ميزوبوتاميا تلتقي الرصاصة مع الكلمة والموسيقا، في كردستان يتعايش الانسان في جدلية ثنائية (اللعنة والقداسة). يدفن موتاه بالزغاريد والدبكة، وتتعايش الخيانة مع الكرامة، ويتحول المظلوم إلى جلاّد والعكس صحيح. فقط على هذه الجغرافيا يعيش الانسان من أجل حياة أخرى ما بعد الممات على حساب دنياه التي يفنيها في قدريّات، هو أيضاً لا يعرف لماذا ملتزم بها ويحيطها بهالة من القداسة.

في وادي النيل كان فيضان النيل السنوي، على الرغم من كونه مصدر الخير، حدثًا دوريًا منتظمًا يمكن التنبؤ به. هذا الانتظام والدورية انعكس على الشخصية المصرية القديمة، فصاغ فيها سمات الصبر والترقب والإيمان بالبعث والحياة الأخرى (كما يعود النهر ليخصب الأرض كل عام). الاستقرار الذي فرضه النهر الواحد المتدفق من الجنوب إلى الشمال على أرض محصورة بين صحراوين شرقية وغربية، خلق حالة من الانغلاق والانعزال النسبي. هذا الانعزال ساهم في تكوين شخصية متجانسة وحضارة مركزية قوية ومستمرة لآلاف السنين. لم تكن هناك حاجة دائمة للقتال من أجل البقاء ضد جيران طامعين، مما وجه الطاقات نحو الداخل: نحو التأمل والبناء والهندسة والفن الذي يخدم فكرة الخلود.

في بلاد ما بين النهرين كان الوضع مختلفًا جذريًا. تدفق نهري دجلة والفرات كان عنيفًا وغير متوقع في كثير من الأحيان، وفيضاناتهما كانت مدمرة. هذه الطبيعة القاسية للنهرين، إلى جانب الانفتاح الجغرافي لبلاد الرافدين على هجرات وغزوات من الشرق والشمال والغرب، خلقت شخصية قلقة، متأهبة، وفي صراع دائم مع الطبيعة ومع الجيران. انعكس هذا القلق في أساطيرهم، مثل قصة الطوفان التي تصور غضب الآلهة وقسوة الطبيعة. هذا الانفتاح والصراع المستمر جعل الحضارة في ميزوبوتاميا أكثر ديناميكية وتغيرًا، حيث تعاقبت الإمبراطوريات (السومرية، الأكادية، البابلية، الآشورية) كل منها يترك بصمته ويضيف طبقة جديدة إلى نسيج الثقافة المعقد.

إن الفن والعمارة هما المرآة الأكثر وضوحًا لتأثير الجغرافيا على الروح البشرية. حيث أن الفن المصري القديم تميز بالضخامة والثبات والخلود. الأهرامات والمعابد الضخمة التي بنيت من الحجر الصلب المتوفر في الصحاري المحيطة، لم تكن مجرد مقابر أو دور للعبادة، بل كانت تعبيرًا عن فكرة الانتصار على الزمن والفناء، وهي فكرة مستوحاة من دورية النيل واستمرارية الحياة. الرسوم والنقوش على جدران المعابد اتسمت بالثبات والهدوء والتوجه نحو العالم الآخر، وهو انعكاس مباشر للاستقرار والأمان الذي وفره النيل والحدود الطبيعية المحصنة. بينما الفن في بلاد الرافدين كان ولا زالعلى النقيض، استخدم سكان بلاد الرافدين الطوب والطين المشويكمادة أساسية للبناء لندرة الحجارة، مما جعل أبنيتهم أقل مقاومة للزمن. الزقورات المدرجة الشاهقة، التي كانت تمثل الجبل المقدس الذي يربط بين السماء والأرض، كانت محاولة للتواصل مع الآلهة المتقلبة واسترضائها. الفن الرافديني، خاصة في العصر الآشوري، امتلأ بمشاهد الصيد والحروب والبطش بالأعداء، وهو ما يعكس بدقة طبيعة الحياة القائمة على الصراع والقوة العسكرية التي فرضها الانفتاح الجغرافي وغياب الحواجز الطبيعية.

حتى أنه يمكن اعتبار اللغة والكتابة كصدى إيقاع المكانوالجغرافيا. وبكل تأكيد حتى اللغة والكتابة لم تكونا بمنأى عن هذا التأثير العميق. الكتابة الهيروغليفية في مصر كانت نظامًا تصويريًا معقدًا وجماليًا، تطورت ببطء على مدى آلاف السنين. هذا التطور البطيء والثبات يعكسان الاستقرار الطويل للحضارة المصرية. كانت الهيروغليفية لغة مقدسة تُنقش على الحجر لتبقى خالدة، مما يتناسب مع هوس المصريين بالخلود. بينما الكتابة المسمارية في بلاد الرافدين نشأت لتلبية حاجات عملية سريعة كتدوين المعاملات التجارية والقوانين في مجتمع مفتوح وديناميكي. طبيعة الكتابة نفسها، التي تعتمد على “دق” أسافين على ألواح الطين الطرية، توحي بالسرعة والعملية التي تفرضها بيئة تجارية وعسكرية متغيرة باستمرار. الشرائع والقوانين المكتوبة، مثل شريعة حمورابي، كانت ضرورة لضبط مجتمع متنوع وغير متجانس تشكل بفعل الهجرات المستمرة التي سهلها الانفتاح الجغرافي.

لهذا لطالما ما يقال أن الإنسان ابن بيئته. إن تحليل جمال حمدان لعبقرية المكان يقدم لنا إطارًا عميقًا لفهم الحضارات. فتكوين الشخصية الثقافية لشعوب وادي النيل وبلاد ما بين النهرين لم يكن مجرد نتاج لأفكار مجردة أو قرارات فردية، بل كان حوارًا طويلًا ومعقدًا بين الإنسان وبيئته. النهر الهادئ المنضبط في مصر خلق حضارة الاستقرار والتأمل والخلود، بينما النهران المتقلبان والأرض المفتوحة في العراق أنتجا حضارة الصراع والديناميكية والتكيف. وبهذا المعنى، فإن الجغرافيا ليست مجرد خلفية صامتة، بل هي المهندس الأول الذي رسم الخطوط العريضة للثقافة والفن واللغة، وشكل عبقرية الإنسان التي تجلت في أعظم حضارتين عرفهما التاريخ. ولربما تعيش هاتين الجغرافيتين حالة من الجذر والتراجع والمرض، لكنها بكل تأكيد هي مرحلة راحة لهذه الجغرافيا التي تستعد كي تلد مولدها الجديد الذي سيمنح الأمل للآلهة كي تعود من جديد وتطهر الأرض ممن كانوا يدعون الخلود أو أنهم من المختارون. قوة الجغرافيا هذه تكمن في عبقريتها المكانية التي تعرف متى تقول كلمتها بصوتها العالي، لينصت الأخرون للوصايا التي بها سيعيشون بكرامتهم وحريتهم.

فهذا ليس مجرد تأمل في عبقرية المكان، بل هو سيمفونية فكرية تشارك فيها النهر والجبل والصحراء والإنسان في حوار أبدي، تُعزَف أنغامه بلغة الثقافة والتاريخ والهوية. علينا قراءة الجغرافيا والمكان بشكل عميق وربط ذلك بالزمن والزمان، لنصل حينها إلى ماهية الزمكان، الذي يحثنا على إعادة النظر في معنى المكان. حينها فقط سنصل للقراءة المدهشة للجغرافيا كفاعل أول في تشكيل الحضارات، وهذه القراءة بكل تأكيد سترجعنا إلى روح جمال حمدان. وما أجملها حينما تتجاوز التحليل الجغرافي إلى فضاءٍ فلسفي شاعري. وقتها فقط سوف ننجح في أن نُجسّد جدلية اللعنة والقداسة، الحياة والموت، الخلود والفناء، لتُظهر أن الشرق لم يكن مجرد مهدٍ لحضارات الماضي، بل هو رحمٌ لا يزال ينبض بحلم التجدُّد.

فحين النظر إلى الرقُم الطينية التاريخية نشعر كلما قرأناها، أننا لا نقرأ كلمات، بل نستمع إلى نوتات فكرية تعزف على أوتار التاريخ، واللغة، والإنسان. يربطنا ذاك الانسان الذي كتب على الطين وكأنه يقول لنا؛ أننا لسنا الماضي، بل اللحظة التي تقروننا فيها وكذلك المستقبل.

وكما قال الكاتب المصري إلهامي المليجي في مقال له حول أهمية المكان أنه “نصيب كبد الحقيقة حينما نربط بين نطق الكلمة وتكوينها الموسيقي، وبين تعدد اللغات واختلاف “تلحينها”، وهو ما يفسّر فعلًا كيف تتغلغل الموسيقى، لا في الطرب فحسب، بل في البنية النفسية والثقافية للشعوب. فالموسيقى ليست ترفًا ولا زينةً للوجدان، بل هي منبع أول للقيم واللغة والميثولوجيا، كما هي أحد أركان توازن الإنسان مع نفسه ومع الطبيعة من حوله. وما أحوجنا، في زمن الفوضى والخراب، إلى أن نستحضر هذا التلازم الخلاق بين السلاح الذي يدافع، والكلمة التي توعي، والنغمة التي تعمّد الروح بمعناها العميق. وأن من لا يعرف قيمة الموسيقى لن يكتب له النجاح في سعيه نحو إنجاح الفكرة وايصالها لهدفها. الموسيقى ربما كانت الخطوة الاولى في ارتباط الإنسان بالطبيعة ومنها إنتهل كافة قيمه الثقافية بعد ذلك من لغة وأدب وميثيولوجيا.

نعم، لولا نغمة الماء لما وُلدت أول نغمة على البزق أو الناي أو الكنارة، ولولا أنين القصب على شطوط الفرات والنيل، لما نطقت الأرض حضارة ولا الإنسان عرف المعنى.

التاريخ يعلمنا أن لا حضارة من دون عبقرية المكان والأنهر التي تشق طريقها عبر الجبال والصحارى لتنبت أشجار الحضارة لغة ولحناً وعصاً لمن عصى. لربما تتواجد أنهر كثيرة وصحارى وجبال، ولكن يبقى المكان والانسان هو من يحدد كيف سيعلم البشرية الحضارة والمدنية. وهذا ما سيشدنا ونتأمل العمق في الفارق بين حضارات الأنهار – كالسومرية والمصرية – وبين الطفرات الصحراوية العابرة، يفتح بوابة لمقارنة جوهرية بين ما يُبنى على التراكم والتفاعل مع الطبيعة، وما يُفرض فجأة باسم المقدس ليختزل الإنسان في تابوهات الجفاف. وهذه فقط زرعها الله على ضفاف الفرات والنيل. ولتبقى الأماكن الأخرى أطراف اياً كان مافيها 

to top