أحلام صغيرة…/. قصة قصيرة
ليلى عبدالواحد المرّاني
في أحد أسواق بغداد الشعبية التي تكتظ بالباعة المتجولين وأكشاك الأطعمة الرخيصة، وروائح نتنة تنبعث من اسماك مرّت عليها ايام وهي مكدسة فوق بعضها ،وقطط وكلاب جائعة برزت عظامها تحوم حول المكان في انتظار يائس أن يرمي لها احدهم عظماً جافاً او قطعة خبز يابسة؛ تأخذ حليمة زاويةً صغيرة بالكاد تكفيها وصينيّة صدئة تضع فيها أكواماً صغيرة من حلوى ملوّنة، رخيصة، تتشرنق بعباءتها صيفاً، لا يظهر منها غير وجهها المتعب وعيناها المنطفئتان تبحثان عن شيء مفقود، تتابعان أقدام المارّة علّ احدهم يتوقف عندها ليشتري؛ شتاءً تتلفّع ببطانيّة تعجز ثقوبها عن حمايتها من لسعات البرد القاسية… تراقبه ذهاباً وإياباً عشرات المرات، ينوء ظهره المقوّس تحت أحمال ثقيلة ينقلها من ( العلوة ) إلى دكاكين الباعة، رأسه منحنٍ يكاد يلامس الأرض، وعرق غزير يتصبّب من كلّ خلايا جسمه، صيفاً وشتاءً؛ يشعر بنظراتها مشفقةً تصوّبها نحوه؛ فيزداد انحناءً، يتوقف عندها احياناً ليشرب جرعة ماء تقدمها له، يلمس يدها متعمّداً، تجفل باستحياء وترتجف خلاياها بنشوةٍ لذيذة، يجلس أحياناً اخرى إلى جانبها بعد أن يوصل البضاعة إلى أصحابها، ينظر إلى قطع الحلوى وقد علاها غبار أحذية المارّة..
— هل تحصلين على مصروف عائلتك اليومي؟
ينطلق من فمها مواء، تردفه بضحكةٍ ساخرة وألم مكبوت..
— وأنت ..؟
— بالكاد أرغفة خبز قليلة لا تكفي خمسة أفواهٍ جائعة..
تنظر إلى المارة، تعدّل من جلستها، وكأنها تحدث نفسها تهمس ..
— ثلاثة ينتظرون عودتي، صغار لا يفهمون أن الخبز أعجنه بدمي وعرقي..
— وأبوهم..؟
— أعطاك عمره منذ سنين.
تلتمع في عينيه نظرة إشفاق واشتهاء، ثمّ يهبّ واقفاً كالملسوع؛ فقد استنفذ الكثير من من وقته في الثرثرة معها، تضع في يده قطعاً من الحلوى، فيضغط على يدها بقوة، تتسارع دقات قلبها، وتبتسم… تجمعهما إلفة غامضة لا يفهمان ما هي، تتكرّر الجلسات، وتسرق دقائق أكثر من يومهما الثقيل، يستشعر حرمانها ولهفتها التي تخونها حين يلامس يدها وهو يتناول قدح الماء منها، وتستشعر رغبته المحمومة في أن يضمها إلى صدره ويلامس وجهها بيده الخشنة..
في مكان مهجور يتكرر اللقاء صاخباً بينهما، يحمل على كتفيه أعباء يوم مُثقل، أنهكه واستنفذ قواه، وتحمل حرمان سنين عجاف، ولهفةً محمومة إلى أحضان رجلٍ يحتويها..
— دعينا نتزوج…. قال لها يوماً
—لا أستطيعة ثلاثة أولاد صغار يتعلقون برقبتي..
— سأكون أباً لهم..
— لديك خمسة، من أين وكيف ستطعم ثمانية أفواه جائعة؟
وتنتصب أمامها صورة ابنتها البكر، مقعدة لا تفهم ما يدور حولها، صراخها ليل نهار، يملأ البيت المتداعي؛ فيزيده تداعيا، ويهرب الصغيران الآخران إلى الشارع، الحزن ينخرها من الداخل وهي تسترجع عجزها عن تلبية ما يلحّ في طلبه جسدها المنهك وروحها الممزّقة بين ما تتمنّاه وما يفرضه عليها واقع مرّ قاسٍ تعيشه…
يلحّ في الطلب.. وتوغل في الرفض..
لم يجدها في زاويتها ذلك اليوم الشتويّ الممطر، دون جدوى بحثت عيناه المتعبتان عنها، ابتلع ريقه علقماً… أيام أخرى مضت أضنته وتصخّر صبره ونهش صدره القلق؛ لمعت عيناه فرحاً بعد أيام حين رآها متلفعةً ببطانيتها ترتجف، وشحوب موتى يكسو وجهها..
— أين كنت؟ مزّقني القلق عليك..
دون ان تنظر إليه، خرج صوتها من بئرٍ مهجور..
— مريضة… كنت مريضة..
وقبل أن يردفها بسؤال آخر، ينوح صوتها ضعيفاً، باكياً :— أنا حامل..
ينتشي، يتهلل وجهه فرحاً:— نتزوج، الآن حالاً نذهب إلى أحد الشيوخ و….
قاطعته بإيماءة من يدها:— لا، سأتخلص من الجنين ..
— حرام عليك، أريده وأريدك زوجةً..
— هو ابن حرام، هل نسيت؟
في غرفةٍ رطبة مظلمة، استلقت على حصيرةٍ بالية، مذعورةً ترتجف؛ امتدت يد خشنة بعنف إلى جوفها… اقتلعت أحشاءها؛ أطلقت عواء ذئب جريح… بعدها بدقائق انطفأ صراخها، غارقاً في بركة دماء قانية..