تصاعد الحديث في الشهرين الأخيرين عن القضية الكرديّة، وخاصةً في شمال كردستان وتركيا، لأسباب عديدة، منها ما هو ذاتي يتعلّق بالجانب الكردي ونضاله المستمر وفعالياته المتنوعة، رغم كل الظروف والأحوال، ومنها ما يتعلق بالجانب التركي وحالة التخبّط لدى السلطة السياسية التركيّة وقلقها وخوفها من المستقبل، وكذلك بالسياق الإقليمي المُضطرب، وحالة الحرب العالمية الثالثة التي نعتقد أن تداعياتها ونتائجها ستكون كبيرة في الشرق الأوسط.
ما نحن بصدده هنا هو ثنائية الحرية والإبادة الجماعية، وموقف الشعب الكردي أمام الدولة والسلطات التركية وما تقوم به من تطبيق وتنفيذ بنود الإبادة الجماعية بشقيها الجسدي والثقافي. لو رصدنا تاريخ المقاربة التركيّة السلطوية من الشعب الكردي منذ عام 1924 وحتى اليوم، بل والأصح من عام 1830 وحتى اليوم، سنجد أن المقاربة واحدة لم تتغير رغم كل التغيرات التي حصلت في المنطقة والعالم، هذه المقاربة تتمثل في الإبادة الجماعية بحق الشعب الكردي، في ظل تواطؤ دولي من القوى المركزية للنظام العالمي في مراحل عديدة لأجندات الهيمنة والنهب الدولية.
إذا نظرنا في اتفاقية الإبادة الجماعية أو اتفاقية منع ومعاقبة جريمة الإبادة الجماعية التي اعتمدتها الأمم المتحدة عام 1948، وبحسب تعريفها الذي يصف الإبادة الجماعية بأنها “أي فعل من الأفعال التالية المرتكبة بقصد التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية”، سنجد أن ما فعلته تركيا وتفعله اليوم يقع ضمن هذا التعريف بل ويتجاوزه في التدمير والقتل والتهجير والإمحاء، وآخر مثال على ذلك هو استهداف تركيا للبنية التحتية ومصادر الحياة في شمال وشرق سوريا، مثل الأفران ومحطات الكهرباء والماء والمصانع والمعامل وصوامع الحبوب، بغرض تجفيف الحياة في المنطقة، إلى جانب استهداف المدنيين من الأطفال والنساء وكبار السن، وهذا يُعد مثالاً صارخاً على ممارسة الدولة التركية للإبادة الجماعية بحق الشعب الكردي، وكذلك بحق الشعوب الأخرى التي تعيش في المناطق نفسها. إضافةً إلى سلسلة من المجازر والجرائم التي ارتكبتها تركيا في شمال وجنوب كردستان.
أمام هذا الواقع القاسي والفاشية التركيّة الطورانية، والتواطؤ الدولي والإقليمي، من الطبيعي أن تظهر إرادة الحرية لدى الشعب الكردي، التي تمثلت في الخمسين سنة الأخيرة في حزب العمال الكردستاني والقائد عبد الله أوجلان، اللذين جسدا إرادة الشعب الكردي وقوته وإصراره في الحياة الحرة. وكانا وما زالا عنواناً للمقاومة والحرب الشعبية الثورية، إلى جانب رغبة الحل الديمقراطي والتعايش المشترك والأخوّة بين شعوب المنطقة، بما فيهم الشعب التركي، إن كانت الظروف والأرضية مُهيأة. ومنذ خمسين سنة، هناك ملحمة كردية تجاوزت التاريخ الكردي وصححته، لتتحول إلى صمودٍ وصبر ومقاومة وبناء ديمقراطي للمجتمع والإنسان، وقد أصبح “المغزل الكردي” الذي يدور بدماء أبناء وبنات الشعب الكردي، يُشكل جزءاً من عملية نسج الحياة الحرة ليس فقط في كردستان الحرة والمستقلة، بل في الشرق الأوسط وفي خدمة الإنسانية بشكلٍ عام.
واليوم، وبعد حوالي تسع جولات سابقة من وقف إطلاق النار ومحاولات الحوار والتفاوض منذ عام 1993 وحتى 2015، التي أفشلتها الدولة التركية العميقة وسلطاتها المتعاقبة، يظهر علينا بعض المسؤولين والسياسيين في الدولة التركية، المعروفين بفاشيتهم وحقدهم على الشعب الكردي، ليتحدثوا عن القضية الكردية وإرادة الشعب الكردي بما يتناسب مع أساليب الحرب التركية الخاصة لإضعاف الشعب الكردي وفرض الاستسلام عليه. ولسان حالهم بل وهم في الواقع يقولون بوضوح أن الدولة التركية في مأزق، وسبيل إنقاذها هو استسلام الكرد وانتهائهم. بمعنى آخر، “لإنقاذ تركيا يجب أن ينتهي الكرد”، فليس لدى تركيا وسلطاتها أي رغبة في حل أي قضية أو معالجة أي مشكلة. همها الوحيد هو بقاء الدولة وبقاء السلطات الحالية على سُدة الحكم وفق آليات قانونية يحددونها وفق قياساتهم وعقلياتهم الفاشية، إلا إذا توقفت سياسة الإبادة الجماعية المستمرة وخاصةً في المئة سنة الأخيرة.
السماح لأحد نواب حزب المساواة وديمقراطية الشعوب بزيارة يتيمة للقائد أوجلان بعد 43 شهراً من العزلة، دون حضور محاميه أو السماح للمحاميين بالزيارة، كان نتيجة ضغوط الحملة الدولية “الحرية للقائد أوجلان والحل السياسي للقضية الكردية”، وانتصارات الكريلا في مناطق الدفاع المشروع، وهزيمة حزب العدالة والتنمية أمام حزب المساواة وديمقراطية الشعوب في شمال كردستان وتركيا، وقد أكد القائد أوجلان في رسالته أن العزلة ما زالت مستمرة، وأن الأرضية السياسية والقانونية لا تزال غائبة، ويجب توفيرها لتكون هناك أي مستجدات لمحاولات مختلفة إيجابية.
وهنا نجد مرةً أخرى ثنائية “إرادة الحرية” من جهة، و”سياسة الإبادة الجماعية” و”سياسة العزلة والتجريد” من جهة أخرى. ما قامت به تركيا من الهجوم الوحشي على شمال سوريا وشمال العراق، وكذلك عزل رؤساء البلديات في شمال كردستان، وتعيين الأوصياء، وفرض العقوبات الانضباطية بغرض استمرار العزلة على القائد أوجلان، يبين بوضوح أن العقلية الفاشية للدولة التركية ومقاربتها الأحادية هي السائدة.
تركيا ستخسر، كما خسرت دائماً في عدائها للشعب الكردي ولشعوب المنطقة. وحالة اقتصادها المنهار تعود بالدرجة الأولى إلى سياسة الإبادة الجماعية وميزانية الحرب ضد الشعب الكردي وتدخلها في شؤون دول المنطقة، إضافةً إلى أن مكانتها وأهميتها الجيوستراتيجية في البعد الإقليمي والدولي تتضاءل بسبب عدم حل القضية الكردية داخل تركيا وتداعيات ذلك. وستخسر بشكلٍ غير مسبوق إذا لم ترفع العزلة عن القائد أوجلان وتؤمن الشروط والأرضية السياسية والقانونية له؛ لأننا نعتقد أن قوة وكينونة الشعب الكردي وزخم حضوره المتزايد والفعال في المنطقة والعالم وبالمشروع الديمقراطي للقائد عبد الله أوجلان، لا يمكن لأي قوة عالمية أو إقليمية تجاهله أو تحييده، إرضاءً لتركيا.
ولقد وجدنا ذلك في تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، على الرغم من جميع الضغوط والهجمات التركية والتواطؤ الدولي والإقليمي، التي أثبتت إنها نموذج رائد وواعد لحل القضايا الديمقراطية في المنطقة. لقد أصبحت هذه التجربة إحدى الحلول الديمقراطية أمام أعين شعوب ودول المنطقة والعالم، حيث تُعزّز الأخوة والتماسك المجتمعي وحرية المرأة والاقتصاد الذاتي في حياة مشتركة بين كافة التكوينات الاجتماعية الموجودة، كبديل لمشاريع التقسيم والتبعية والاستبداد.