إن الشعوب العربية والكردية أمام تهديد تقسيمي مصيري، تعمل تركيا عليه في العراق وسوريا، فلا يجب شرعنة هذا الاحتلال أوالقبول به، بل من الواجب الوطني والأخلاقي، تعزيز الظروف الموضوعية والذاتية في البلدين، لتحرير المناطق المحتلة، وحفاظ وحدة وسيادة البلدين.
منذ أن تم تقسيم جغرافية وشعوب الشرق الأوسط، وفرض الثقافة الأحادية واصطناع الدول والسلطات الوظيفية من قبل نظام الهيمنة العالمي وقواها المركزية، فإن المشهد الإقليمي تبلور وفق ركائز إقليمية لاستمرارية أجندات النظام العالمي ومصالحه، في الهيمنة والنهب، ومنها الدولة القومية التركية كقوة إقليمية، وغيرها.
ونظراً لطبيعية العقلية الأحادية والممارسات السلطوية في بنية المؤسسات المادية والمعنوية للنظام العالمي وللنظم والقوى الحاكمة المحلية الوظيفية، فإن الفيصل في قبول القوى في المنطقة والعالم للخارطة الجديدة بعد انهيار الإمبراطورية الدولة العثمانية المريضة، كانت قدرة القوة المنتصرة، بكافة اشكالها العينية الصلبة والذكية على إدارة المشهد العالمي والإقليمي.
والدولة القومية التركية، التي تم إخراجها إلى المسرح الإقليمي الشرق الأوسطي من قبل القوى المركزية للنظام العالمي المهيمن، في 1923م، وخاصة بريطانيا وبالتوافق الفرنسي والروسي، من رحم الإمبراطورية العثمانية، وتحوريها وتحريفيها من مضامين التزامات وتعهدات الأخوة في حرب الاستقلال بين الكرد والترك، أصبحت من التبعية المطلقة والنموذجية القومية الإنكارية والإقصائية، وعند دخول تركيا ضمن الناتو عام 1952 وقبلها الاعتراف بإسرائيل عام 1948 كأول دولة ذات غالبية مسلمة والاتفاقات العسكرية والاستراتيجية السياسية والاقتصادية، مع إسرائيل عام 1949 جعلتها تكون رأس الحربة في التدخل في دول وشعوب الشرق الأوسط والقوقاز والبلقان وفق أدوارها المحدد ضمن مشاريع النظام العالمي، رغم أن أهمية الدور يختلف من وقت لأخر، وأحياناً يصبح عبء.
ليس من الخطأ، إن قلنا أن أحد ثوابت نظام الهيمنة العالمي وبمركزيتها البريطانية، وثم الأمريكية وإلى جانبهم أوروبا ومن خلفهم الصين وروسيا، كانت ولازالت تثبيت بؤر توتر وصراعات، وقضايا كبيرة معلقة في الأقاليم، ومن أدوات الهيمنة والنهب كانت ولازالت الميل والقوى والممارسة القوموية والإسلاموية
في الشرق الأوسط وللسيطرة على شعوبها الأصيلة والقوية، وكذلك حتى على دولها وسلطاتها الوظيفية، كان الذهاب لقضايا الشعوب وتعميقها وجعلها معلقة وسد طرق الحل، لتعزيز الفوضى وخلق مستنقعات سياسية وعسكرية للشرق الأوسط، وإن حاولت قوى مجتمعية ديمقراطية تكاملية، تغيير الوضع أو العمل لإخراج المنطقة وشعوبها ودولها من هذه الوضعية البائسة، وإيجاد الحلول الديمقراطية، يكون حياتهم ووجودهم ومقترحهم النضالي وحلولهم، تحت التهديد والتدجين والإبادة.
إن العراق وسوريا، كدول قومية وبالشكل الحدودي والسياسي الحالي، وبتنقلهما من شكل الملكية إلى الجمهورية، رسمت وخططت مباشرة من قبل المكاتب الخاصة البريطانية والفرنسية والروسية، لتكون وفق المصالح السياسية للقوى المركزية العالمية، دون أي اعتبار لطبيعة الجغرافية السكانية والمجتمعية المتعددة والمتنوعة الأثنية والدينية في الدولتين. وكان بالتوازي مع العمل لترتيب وضعي إيران وتركيا لتكون دولة قومية محددة لتشكيل رباعية دولتية، تتشرعن بمقدار توافقها وخدمتها المباشرة أو غير المباشرة لإسرائيل كنواة لنظام الرأسمالي العالمي.
وعليه يمكننا القول أن الترتيب الحالي في العراق وسوريا وحالة الزيف والأزمة، سيمتد إلى تركيا وإيران بدون أدنى شك، كمسار طبيعي عكسي في إعادة ترتيب المشهد الإقليمي القادم والملحوظ من حوالي عقد، وعليه وفق العقلية الإنكارية والممارسة الاستبدادية التركياتية، فعراقنة وسورنة تركيا قادمة لا محالة، وخاصة أن تركيا بلد متنوع العرقيات والديانات والمذاهب.
لم تستطع النظم القومية الأحادية والعنصرية في سوريا والعراق، تجاوز العقلية الدولتية الإنكارية والسلطوية القمعية والاستبدادية، إلى فضاء مجتمعي وإدارة تشاركية وثقافة تكاملية بين الشعوب والمجتمعات المتنوعة، بل زادت المخاوف والثغرات، من منطلق شعاراتي تضليلي لخداع الشعبين العربي والكردي، للبقاء في الحكم وأخذ البلدين مزرعة لعائلات وأشخاص تفردت بالقرار السياسي والعسكري والاقتصادي في البلدين دون حلول للقضايا العالقة وتحقيق التحول الديمقراطي في البلدين، وخدمة شعوبها وتحقيق السيادة الوطنية المجتمعية بدل القوموية الضيقة والاعتماد على الخارج.
إن عدم قدرة الأنظمة الحاكمة في سوريا والعراق، على تحقيق الأمن والاستقرار القائم على الحرية والديمقراطية، وبالتالي عدم قدرتها على تعزيز الجبهة الداخلية وتحقيق التماسك المجتمعي، وتكامل مكوناتها الثقافية، بتحقيق ساحة للعمل والتعبير والعيش المشترك، لمواجهة التحديات المختلفة، جعلت البلدين معرضين للاحتلال والاستغلال والتدخل الإقليمي والخارجي، وهذه مرتبطة بالعقلية الدولتية القوموية الأحادية.
نعتقد أنه من أخطر التهديدات والتدخلات في الشأن الداخلي لسوريا والعراق، كانت ولا زالت هي الحاصلة من قبل الدولة التركية أولاً وثم باقي التدخلات المعروفة، وذلك لأن باقي التدخلات تدعم أطرف سورية أما التدخل التركي، فهو مشروع احتلالي تركياتي طوراني متكامل الأركان، لتقسيم البلدين وضم المناطق الشمالية منهما إلى تركيا، وعبر خطط منهجية يتم تمريرها عبر استغلال مختلف الظروف والأدوات، وهو مشروع الميثاق الملي وبشكل أوسع مشروع العثمانية الجديدة. ونعتقد أن الدولة التركية وخاصة سلطاتها الإسلاموية الإخوانية المتحالفة مع الحركة الفاشية التركية، تعمل في الظروف الإقليمية والدولية المتوترة، لمنع تبلور إرادة حقيقية للشعبين الكردي والعربي في سوريا والعراق ضمن تحالف ديمقراطي، وذلك بتواطؤ من بعض القوى الكردية والعربية، كالإخوانية العربية والبارزانية السياسية، لأن هذه القوى الفاقدة للوطنية والأخوة كل همها وسعيها هي للسلطة والبقاء فيها، وكذلك شرعنة الاحتلال التركي وبل المشاركة والعمل معه، لضرب القوى الوطنية والديمقراطية الكردية والعربية الرافضة للاحتلال التركي.
وبسبب التدخلات والحرب التي تخوضها تركيا في العراق وسوريا، إضافة إلى باقي التدخلات، فإن اقتصادها يعاني من أزمة حادة، وكذلك فإن تدريب القوى التكفيرية والإرهابية عندها، والتعامل معهم، جعلت تركيا معرضة لإرهاب هذه الجماعات في المستقبل القريب عند حدوث أي توتر في الداخل التركي، وهذه سنة الإرهاب والمتفاعلين معه. وهذه نقطتين نلاحظهما من الاحتلال التركي ومحاولاته للسيطرة والاحتلال الاقتصادي والثقافي إلى جانب الاحتلال العسكري.
منذ الثمانينات وتركيا تحاول التدخل في العراق، وتحت حجج واهية، ومع حرب الخليج واحتلال الكويت في التسعينات وصولاً لإسقاط صدام حسين ونظامه القمعي، والتدخل الأمريكي والإيراني، وجدت تركيا الظروف مناسبة للتمدد والتوسع، وعليه، تدخلت القوات التركية وبمساعدة البارزانية السياسية، واقامت قواعد عسكرية وصل عددها لحوالي 100 قاعدة ومقر عسكري واستخباراتي، في مناطق سيطرة البارزاني في جنوب كردستان ضمن العراق، إضافة لمنطقة بعشيقة في مناطق سيطرة حكومة بغداد. ورغم معرفة القوى العراقية وسلطاتها بالأهداف والممارسات التركية العدائية، ولكن تحت ضغط البارزانيين وأمريكا، تماهت حكومة السوداني مع الاحتلال التركي، وأعطتها الشرعية للاحتلال والتدخل في العراق وقتل أبنائها العرب والكرد، رغم رفض بعض القوى الوطنية العراقية ورغم قصف تركيا اليومي للقرى والمدنيين ومخيمات اللاجئين.
أما في سوريا، فالاحتلال التركي، وممارساته في المناطق والمدن المحتلة، من تهجير السكان الأصليين، وبناء حوالي 43 مستوطنة للمرتزقة وعوائلهم وفرض اللغة والمؤسسات التركية بدل اللغة الكردية والعربية والمؤسسات السورية، وربط المناطق السورية المحتلة، بالولايات التركية المقابلة هي تعبير لا لبث فيه عن أن الدولة التركية تمارس التقسيم والضم بالقوة وبالتعاون مع البارزانية السياسية في سوريا(ما يسمى المجلس الوطني الكردي المرتزق) منذ اليوم الأول لدخولها لجرابلس السورية عام 2016 وصولاً لاحتلال عفرين عام 2018 وسري كانية وكري سبي عام 2019 دون أن يكون هناك موقف لحكومة دمشق يخلق الظروف الموضوعية لإخراج المحتل التركي، وأولها الاتفاق بين الإدارة الذاتية وحكومة دمشق، والأغرب هو وجود مفاوضات لحكومة دمشق مع من يحتل المناطق والمدن السورية، في الوقت الذي ترفض فيه التفاوض والحوار مع الأطراف والقوى السورية التي قاومت وتقاوم المحتل التركي والإرهاب الداعشي.
ربما تعتقد حكومتي بغداد ودمشق أن إبادة تركيا للشعب الكردي ومحاربة قوى حرية كردستان، والقضاء على المجتمعية والثقافة الكردية، يخدم مصالحها ومصلحة الدولة الأحادية القومية والمذهب وينهي إشكالية كبيرة ضمن حدود الدولتين، ولكننا نعتقد أن هذه العقلية السلطوية الأنانية، لن تجلب لسوريا والعراق إلا مزيد من الاحتلال التركي وتمدد وتوسع النفوذ التركي في بغداد ودمشق، والعقلية التركية معروفة بفلسفة البقاء للدولة والتركياتية لكل مكان وصل إليه قدم الجندي التركي، وعليه فإن إعطاء شرعية مجانية للاحتلال التركي على حساب سيادة ووحدة واستقرار البلدين سوريا والعراق، لن يزيد البلدين إلا تبعية واحتلالاً، ولن تنتهي القضية الكردية بهذا الشكل، بل أن المساعدة والمساهمة في وقف الاحتلال التركي والدفع باتجاه حل للقضايا العالقة وعلى رأسها حل القضية الكردية في الدول الأربعة هي الحل المستدام والطريق الصحيح لتحقيق الأمن والاستقرار في سوريا والعراق والشرق الأوسط عامة.
هل حقق تفاهم أضنة 1998 بين نظام دمشق ونظام أنقرة و المرفوضة من قبل شعبنا العربي والكردي، والتي كانت على حساب الشعب الكردي ونضال حريته وحساب السيادة السورية، الأمن والاستقرار بالنسبة لسوريا ولتركيا، بالطبع لا، لأنه بكل بساطة هناك شعب يبحث ويناضل عن حريته كباقي شعوب المنطقة، ولا يمكن بتفاهم عابر لخدمة بعض السلطات والدول أن ينتهي أو أن يتخلى عن كرامته ونضال حريته. ولعله بعد الأحداث والثورة السورية وحجم التدخل والنفوذ التركي والاحتلال كان أحد اسبابه هو تفاهم أضنة 1998 الذي استعملته واستغلته تركيا لمد شبكة علاقات وبناء نفوذ للتسلل للدولة والمجتمع السوري بما يمكنها من تنفيذ أهدافها وفرض شروطها.
وكذلك نعتقد أن اتفاقية 15 آب بين حكومة السوداني وتركيا وبالضغط الأمريكي والبارزاني، لن يجلب الأمن والاستقرار للعراق، بل سيكون مدخلاً للدولة التركية في احتلال المزيد من الأراضي العراقية، وبناء القواعد العسكرية، وفي غضون شهرين بنت تركيا أكثر من 6 قواعد حول مدينة آمدية في محافظة دهوك بمساعدة عائلة مسعود البارزاني. وكذلك عين تركيا على كركوك والموصل وما بعدها. فهل حماية وحدة العراق وسيادته وشعبه يكون بتقديم التنازلات للمحتل التركي أم يكون برفض هذا الاحتلال ومقاومته وإخراجه، عبر خلق ظروف موضوعية وأوراق ضغط عليه.
نعتقد أن من مصلحة العراق كدولة وشعب الدفاع عن السيادة ووحدة الأراضي العراقية من بصرة إلى زاخو وليس شرعنة احتلال والقبول بقتل تركيا للمواطنين العراقيين الكرد والعرب.
كما أنه من المفيد القول لحكومتي بغداد ودمشق، أن من يحتل شمالي سوريا وشمال العراق، لن يتوقف عندهما، بل سيتوسع، وعلى الأقل سيكون له يد طولى ونفوذ قوي في القرار السياسي والمصيري في دمشق وبغداد.
أما من يتوهم بأن التفاهم والاتفاق مع تركيا وهي تخوض حرب الإبادة ضد الشعب الكردي، سيكون لصالح سيادة ووحدة العراق وسوريا فهو لا يفهم من التاريخ والسياسة، بل سيخسر الكثير، لأن الاستقرار يكون بحل القضايا ديمقراطياً وسلمياً وليس بالتغاضي أو الصمت أو إنكار القضايا الوطنية.
وعليه في الوقت الذي ننتقد فيه تصرفات حكومتي دمشق وبغداد، وتعاملهما مع المحتل التركي، للبلدين، فإننا ندرك وجودهما تحت التأثير والنفوذ الإيراني المتفاهم مع تركيا لحد كبير ضد الشعب الكردي وحقوقه وكذلك رغبتهما في التدخل في الدول العربية واستغلال ظروف وفترات الضعف وانشغال المنظومة العربية الرسمية، وليس صحيحاً ذلك الاعتقاد الذي يقول لتحجيم النفوذ الإيراني في سوريا والعراق، يجب القبول بالنفوذ التركي، لأن التركي والإيراني وإن اختلفوا فإنهم يتفقون في الرغبة في التدخل في شؤون الشعبين العربي والكردي.
ونرى أن التصرف الصحيح أو التفاعل الإيجابي الواجب، يجب أن يكون عبر تقوية السيادة المجتمعية السورية والعراقية، وحل القضايا العالقة في البلدين، وتمتين الجبهة الداخلية، وسد الثغرات، عبر طاولة حوار مفتوحة، تعمل لبناء اسس التكامل والوحدة الديمقراطية للشعبين العربي والكردي، لنصل لإنجاز التحول الديمقراطي وبناء نظم ديمقراطية متينة لها القدرة والإمكانية على مواجهة التحديات ورفض التدخلات الخارجية، وليس الاتفاق مع المحتل التركي والتواطؤ معه وشرعنة احتلاله وقتله لأبناء الشعبين العربي والكردي في سوريا والعراق، ومن يريد أن يفهم المشهد وببساطة، لينظر فقط إلى من دعم وأدخل عشرات الالاف من الإرهابيين الدواعش لسوريا والعراق، ومن قاوم وانتصر ومن كان له الدور الأساسي في مكافحة الجماعات الإرهابية تلك والانتصار عليه وبالتالي حماية الأمن القومي العربي وأمن المنطقة والعالم برمته.