تشهد منطقة الشرق الأوسط تصاعدًا في التوترات السياسية والأمنية والعسكرية، وسط صراعات مراكز القوة والتحولات الكبرى والأزمات المتشابكة العالمية التي لا تبدو نهايتها قريبة، وهي تحمل الخطر والفرص معاً في تحولاتها وتداعياتها على الاستقرار والأمن. تشمل هذه التوترات نزاعات قديمة وعميقة، تتراوح بين الصراعات الوجودية والحدودية والخلافات السياسية والدينية والقومية، إضافة إلى التحديات الفكرية والثقافية والاجتماعية، مع إشكاليات المنظومة القيمية للدول القومية والنظم الأحادية ومستجدات عصر العولمة والرقمنة في كافة مجالات الحياة، لنا كأفراد ومجتمعات وشعوب ودول المنطقة، إلى جانب تنافس القوى الإقليمية والدولية على النفوذ والمصالح. كما تضاف إلى ذلك تحديات الإرهاب، والأزمات الاقتصادية التي تتفاقم يومياً، والتدخلات الخارجية، مما يجعل مسار الحل معقدًا وشائكًا.
في هذه المقالة، نستعرض أسباب تصاعد التوتر في المنطقة، والعوائق التي تحول دون الوصول إلى حل، والإشكاليات التي تواجهها الجهود المبذولة لإحلال الاستقرار، ونوعية الحلول المقترحة، بما فيها مقترح “الأمة الديمقراطية”.
يمكن إرجاع أسباب التوتر إلى عدة عوامل، منها:
بغض النظر عن محاولات التوصل إلى حلول سياسية ودبلوماسية، هناك عدة إشكاليات تعيق التقدم في هذا المجال:
سواءً كانت أحادية قومية أو دينية أو سياسية، حيث أن عمليات الإقصاء والإبعاد والذوبان والإبادة تمت بحق شعوب وثقافات أصيلة وما زالت مستمرة. مما خلق معها نزعات فاشية تعيق الحلول وعمليات التعايش والتكامل، وبالتالي تزيد التوترات والصراعات.
تشكل الذهنية الأحادية والاحتكارية أحد أكبر التحديات أمام الحلول المستدامة في المنطقة، حيث تعتمد بعض القوى السياسية على نهج أحادي يحاول فرض رؤية معينة دون قبول الاختلاف أو التنوع في المجتمع. تعزز هذه الذهنية الاحتكار السياسي والاقتصادي، إذ تسعى بعض النخب إلى السيطرة على موارد الشعوب والدولة وتوجيهها لخدمة مصالحها الضيقة، مما يزيد من استياء الشعوب ويغذي النزاعات الداخلية.
تؤدي الذهنية الأحادية إلى تهميش فئات واسعة من المجتمع، سواء بسبب الانتماء العرقي أو الديني أو السياسي، مما يدفع هذه الفئات إلى العزلة، وفي بعض الحالات إلى الاحتجاج أو النزاع المسلح. وفي ظل غياب الشراكة الحقيقية بين القوى المختلفة، يصعب تحقيق التوافق اللازم لبناء مستقبل مشترك، وتتعطل آليات الحوار والإصلاح.
للتغلب على هذه الإشكالية، لا بد من تبني سياسات قائمة على الشراكة واحترام التنوع، حيث يتم إشراك مختلف الأطياف في عملية صنع القرار، بدلاً من احتكارها. إن تجاوز الذهنية الاحتكارية يعد شرطًا أساسيًا لبناء مجتمعات مستقرة وقادرة على حل نزاعاتها بطرق سلمية، وفتح المجال أمام أفكار ومبادرات جديدة تعزز من فرص التنمية المستدامة والعيش المشترك.
وعليه، يمكن القول إن الذهنية الأحادية والاحتكارية تُعتبر في ذات الوقت أسبابًا وإشكاليات تساهم في تعقيد الأوضاع في المنطقة.
باعتبارها إشكاليات: تعيق التوافق: تؤدي الذهنية الأحادية إلى تجاهل التنوع والاختلافات الثقافية والعرقية، مما يخلق بيئة غير مشجعة للحوار والتفاهم.
تؤدي إلى تهميش فئات: عندما تسيطر رؤية واحدة على المشهد السياسي، يتم تهميش فئات واسعة من المجتمع، مما يزيد من الاستياء ويغذي النزاعات.
تضعف الشراكة: تعوق الذهنية الاحتكارية فرص الشراكة بين القوى المختلفة، مما يُصعّب من إمكانية تحقيق توافق أو حلول مستدامة.
باعتبارها أسباب:
يسهم في تصاعد التوترات: الذهنية الأحادية والاحتكارية تعزز الانقسامات داخل المجتمعات، مما يمكن أن يؤدي إلى تصاعد التوترات والصراعات.
تعزز الفوضى: تكرار عمليات الإقصاء والإبعاد يمكن أن يخلق أجواء من الفوضى والاحتجاج، مما يسهم في تفاقم الأزمات.
وهي طاقة القمع والاستغلال، التي تطورت مع مراحل التاريخ المختلفة، حتى أصبحت مؤسسات وهياكل دولتية، ابتلعت جهود وثورات الشعوب ونتائجها لتصبح أكثر تغلغلاً في المجتمع، وأكثر نفوذًا كقوة عنفية احتكارية، تتمثل في الدولة القومية والمنظومة الرأسمالية الاحتكارية. تعد السلطوية إحدى العقبات الرئيسية التي تعرقل مسار الحلول السلمية في المنطقة، إذ تميل الأنظمة السلطوية إلى تعزيز قبضتها على السلطة باستخدام سياسات قمعية تقيّد الحريات وتقمع المعارضة. في مثل هذه البيئات، يصعب إيجاد مساحة للحوار السياسي أو محاولات المصالحة الوطنية، حيث يُنظر إلى مطالب التكوينات الاجتماعية في الإصلاح السياسي أو الحقوق المدنية أو التحولات الديمقراطية كتهديدات لشرعية النظام الحاكم أو بقاء الدولة نفسها.
تساهم السلطوية أيضًا في تعميق الانقسامات داخل المجتمعات، إذ تلجأ بعض الأنظمة إلى استغلال الانتماءات الطائفية أو القبلية أو الإثنية كوسيلة لتفريق المجتمع وإضعاف القوى المعارضة وحركات الحرية والديمقراطية. كما أن اعتماد السلطة على الأجهزة الأمنية لتثبيت الوضع الداخلي يولد جوًا من عدم الثقة بين المواطنين والنظام، ويزيد من تعقيد الحلول التي تتطلب استقرارًا سياسيًا وقبولًا شعبيًا.
في إطار هذه الأنظمة، تصبح آفاق التغيير محدودة، حيث يصعب تحقيق التحول الديمقراطي أو الإصلاح الاقتصادي والاجتماعي الضروري لاستدامة أي حل سياسي. لذلك، فإن حل إشكاليات المنطقة لا يعتمد فقط على معالجة النزاعات القائمة، بل يتطلب أيضًا تخليص المؤسسات السياسية من السلطوية وتمكين المجتمع المدني أو تحقيق سيادة المجتمع على مؤسسات الدولة.
وعليه، يمكن اعتبار السلطوية كعنصر مزدوج: فهي سبب من أسباب التوترات، وفي نفس الوقت تُشكل إشكالية كبيرة تعرقل جهود الحلول.
باعتبارها سببًا: السلطوية تعزز الاستبداد وتكرس هيمنة الأنظمة، مما يؤدي إلى تهميش المجتمعات ومنعها من التعبير عن احتياجاتها وتطلعاتها، وبالتالي قد تعتبر سببًا في تصاعد التوترات والنزاعات.
باعتبارها إشكالية: في سياق معالجة الأزمات، يمكن القول إن السلطوية تمثل عائقًا رئيسيًا أمام الوصول إلى حلول سلمية، حيث تجعل من الصعب تحقيق الحوار والتوافق بين الأطراف المختلفة. فهي تعيق عمليات الإصلاح والتحول الديمقراطي، مما يزيد من تعقيد الأوضاع.
لذا، يمكن اعتبار السلطوية كعنصر مزدوج: فهي سبب من أسباب التوترات، وفي نفس الوقت تُشكل إشكالية كبيرة تعرقل جهود الحلول.
رغم التحديات الكبيرة، فقد شهدت المنطقة مقترحات ومحاولات مستمرة لإحلال الاستقرار وإنهاء الصراعات. تعمل بعض الجهات الدولية والإقليمية والمجتمعية على تقريب وجهات النظر، مثل بعض المؤسسات الدولية والإقليمية، إلى جانب جهود بعض القوى والدول التي لعبت دور الوسيط في عدة مناسبات. ولكن الإشكالية تظهر في عقلية ومنهجية الحل التي تكون بعيدة عن مسار الحلول الديمقراطية.
ومن أبرز مسارات الحل الممكنة:
تتطلب النزاعات المستمرة في المنطقة حلولًا غير تقليدية تتجاوز الأطر السياسية الكلاسيكية، فلا يمكن حل الإشكاليات والأزمات بتبديل بعض الأشخاص والسلطات أوتقسيم السلطة بين جهات وقوى مؤثرة، دون تغيرات حقيقة في بنية وذهنية هذه الأنظمة، فاستمرار هيمنة النخب والأطر الضيقة والأولويات الدولتية السلطوية دون مصالح الشعب والمجتمع هي تكرار لدوامة النزعات بأشكال جديدة.
واحدة من الأطروحات المثيرة للاهتمام هي فكرة ومشروع “الأمة الديمقراطية” التي اقترحها المفكر والقائد عبد الله أوجلان، والتي تستطيع معالجة أسباب عدم الاستقرار وإشكاليات الحل والأخذ بجهود السلام وتحقيق الاستقرار، فهي تعتمد على مفهوم الفرد والمواطنة الحرة العابر للقوميات والإثنيات. يرى المفكر والقائد أوجلان أن الحلول التقليدية التي تعتمد على البحث في الدولة والحدود القومية والدول القومية قد أثبتت محدوديتها في تحقيق الاستقرار، لا سيما في المجتمعات المتنوعة ثقافيًا وإثنيًا كمجتمعات الشرق الأوسط.
تسعى “الأمة الديمقراطية” إلى بناء نظام ديمقراطي شامل يتأسس على مبدأ الإدارة الذاتية المعتمدة على بناء المجتمع الديمقراطي القوي وتحقيق حرية المرأة وريادة الشباب، بعيدًا عن التركيز على الهوية القومية الواحدة والاحتكار. ويدعو هذا النموذج إلى تعزيز الديمقراطية المباشرة المحلية والتعايش السلمي بين المجموعات المختلفة، مع احترام التنوع العرقي والثقافي والديني كجزء من الحل وليس كسبب للصراع. يمكن أن يكون لهذا النموذج إطار بديل للأنظمة القومية المركزية، حيث يسمح للمجتمعات المختلفة بإدارة شؤونها بحرية مع الاحتفاظ بروابطها مع الدولة الأم.
إن تطبيق مثل هذه الأفكار يتطلب تحوّلاً جذريًا في طريقة التفكير والتعامل مع النزاعات، خاصة في مناطق التعددية الثقافية والإثنية والدينية. ومن الممكن أن تكون “الأمة الديمقراطية” نموذجًا واعدًا لدول المنطقة التي تحتاج إلى آليات جديدة للتوفيق بين مكوناتها المختلفة وتحقيق استقرار دائم وشامل.
إن تصاعد مستوى التوتر في المنطقة يشير إلى تعقيد مشهد النزاعات والاختلافات، خاصة في ظل تعدد اللاعبين واختلاف الأجندات. لكن من الواضح أيضًا أن هناك فرصًا لتحقيق الحرية والديمقراطية لإحلال السلام إذا ما توفرت إرادة العمل المشتركة ووجدت الذهنية التشاركية وتكاملت الشعوب وقوى الحرية والديمقراطية مع بعضها في ظل مشروع الحل الديمقراطي”الأمة الديمقراطية”.
المطلوب هو الحوار والنقاش وتعزيز الإرادة المجتمعية وتكاتف الجهود المجتمعية المحلية والإقليمية والدولية لحل القضايا الأساسية أولاً، كالقضية الكردية والقضية الفلسطينية، وقضايا التحول الوطني الديمقراطي، للحد من النزاعات وتعزيز الاستقرار، من خلال تعزيز الحوار، تجاوز الاحتكار، تحقيق التعايش، الاعتراف المتبادل، مكافحة الفاشية والإرهاب والعنصرية، ودعم الإصلاحات الاقتصادية والسياسية، وسن الدساتير الديمقراطية، لإنجاز التحول الديمقراطي الوطني لضمان مستقبل آمن ومزدهر للمنطقة ولكل شعوبها وتكويناتها وخصوصياتها الاجتماعية في إطار من التكامل الثقافي والكلياتية الديمقراطية للكيانات المجتمعية.