قفزة 15 آب، هي حركة دفاع ذاتي مشروعة ضد الإبادة الجماعية للدولة التركية القومية ومن ورائها، وهي حركة نضالية لحماية الوجود وكسب الحرية، ووجود الكرد وكردستان من دون الدفاع الذاتي وبدايتها 15 آب مستحيلة.
بعد أن تم تطبيق سياسة فرق-تسد البريطانية على شعوب الشرق الأوسط والعالم، عبر مفاهيم الدول القومية(لعلمانية والدينية)، وضخ الأفكار الأحادية التقسيمية، لاستدامة هيمنة النظام العالمي ونهبه، بعد الحرب العالمية الأولى. وجدت شعوب منطقة الشرق الأوسط نفسها أنها أمام تقسيمات وتحديات وظروف صعبة لعدم مراعاة القوى المركزية في النظام العالمي إرادة الشعوب وأولوياتهم وثقافاتهم التكاملية وكذلك لعدم أخذها التقسيمات الطبيعية للأقاليم الجغرافية، وكذلك لفرض النظم والأفكار المغتربة والتي لا تمت للقيم التشاركية والقتاليد الديمقراطية وثقافة الشعوب الأصيلة.
من أوجد المشهد الدولتي القوموي السلطوي وقسم وأوجد هذه الدويلات القومية وضخ الفكر القومي الاستعلائي العنصري والإجراءات التجانسية القسرية، لم يكن يبحث عن الاستقرار والأمن ومصالح شعوب المنطقة، بل عن السيطرة والتحكم والسلطوية الأحادية، وإنشاء بؤر توتر، وقد تم اتمام هذه المؤامرة التقسيمية القوموية على معظم شعوب المنطقة والعالم، وتحقق على أثرها ظروف مهيئة بحواض تابعية هيكلية مؤسساتية سلطوية وقوى تتشق بالقومية والوطنية والاستقلالية كذباً وتضليلاً وتلهث وراء الحكم والسلطة وتستعمل كل الوسائل والقوى لخلق واصطناع أمم قومية متجانسة قسرية لزوم الدول القومية الأحادية وسلطاتها التابعة ذهناً وممارسة للخارج والنظام الدولي لأنها في حالة صراع وحرب دائم مع الثقافة الشرقية المتنوعة والتعدد القومي والديني والمذهبي الموجود في المنطقة.
كانت الجمهورية التركية أو الأصح (الدولة القومية التركية) من أكثر الأمثلة التعبيرية عن نموذج الدولة القومية وحالتها العينية الصارخة الفاشية، للنموذج الذي تم تصديره من قبل قوى الهيمنة العالمية للمنطقة، والتي طبقت ومارست ومازالت سياسة الإبادة الجماعية بحق التنوع والتعدد القومي والديني الموجود في الأناضول وميزوبوتاميا، لاصطناع أمة الدولة القومية التركية النمطية المتجانسة قسراً.
فهذه الدولة والتي ومنذ اليوم الأولى لاعترافها الدولي وفق اتفاقية لوزان 1923 ودخولها نادي الدول تحت موافقة وهيمنة الإنكليز، قد مثلت خيانة للعهود والاتفاقات والالتزمات والتي كانت بين جانبي حرب الاستقلال الرئيسين الكرد والترك، لأن الحالة التشاركية النضالية والإرادة الحرة لم تكن من حيثيات ومستلزمات الدولة القومية الأحادية التركياتية الفاشية. كان يمكن تشكيل جمهورية ديمقراطية بعد حرب التحرير الوطنية في الأناضول وميزوبوتاميا ضمن إطارالميثاق الملّي وخطواتها التي كانت عام 1919 في معاهدة أماسيا ومؤتمري أرزروم وسيواس، والذي كانت من الموجب أن يكون الضامن لحقوق الكرد والترك، إضافة إلى أن عدم تطبيق دستور عام 1921 والحكم الذاتي للكرد الذي صدر في 10 شباط عام 1922 ، كانت بداية لمرحلة خطيرة ولدستور اقصائي ودولة قومية أحادية احتلالية تذهب لتطبيق الإبادة الجماعية بحق الكرد في وطنهم التاريخي كردستان عبر القتل والتهجير وتدمير إمكانيات الحياة وممارسة الإبادة بجانبيها المادي والثقافي، في حالة نادرة الحدوث. إضافة إلى التخلي عن معاهدة سيفر المنقوصة اصلاً والتي تشير بعض مواده للكرد من قبل الأنكليز والقوى الدولية الكبرى حينها.
كان خالد جبران رئيس تنظيم”جمعية آزادي” المتأسسة في عام 1924 هو أحد القادة الذين كانوا لهم دور مهم في الجبهة الشرقية في حرب الاستقلال، ولكن بعد معرفته بخيانة الجانب التركي وتخلي الترك عن التزماتهم، قرر أن يذهب ليحضر و لينظم ويقوم بثورة ضد هذه الخيانة من أجل شعبه، ولكنه استشهد قبل أن تكتمل الاستعدادات بعد أن وقعت أحد مراسلاته بيد الأتراك، وبذلك أصبح الشيخ سعيد بيران في الواجهة يتحمل قيادة وتداعيات الانتفاضة لعام 1925 التي لم تكتمل استعداداته بعد.
من ثورة “كوجكري” عام 1919 وبعدها منذ عام 1925 وحتى عام 1940، كانت الشعب الكردي في شمال كردستان أمام حرب إبادة جماعية فريدة ممنهجة ومنظمة من قبل الدول القومية التركية، هدفت لتصفية الوجود الكردي وإنهاء مجتمعيته والقضاء على ثقافته ولغته وإجراء تغيرات جغرافية في مناطقه. ومن الطبيعي أن يكون للعشب الكردي ردود فعل غاضبة وحالة رفض لهذه السياسات الممنهجة والإجراءات التعسفية، فقامت الدولة التركية القومية بالمجازر وقصف السكان والمنتفضين بالطائرات وتهديم وحرق القرى والمدن الكردية وتهجير الكرد للداخل التركي والخارج، أمام أنظار ما يسمى المجتمع الدولي وبل بالدعم من دولها المركزية وخاصة ألمانيا وبريطانيا وفرنسا وبعدها أمريكا، نتيجة تقاطع المصالح ورغبة المنظومة العالمية في استعمال الدولة والجغرافية التركية في مشاريعها الكبرى في الشرق الأوسط والعالم كأداة إقليمية وظيفية، ونتيجة استسلام تركيا للنظام العالمي اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً.
منذ عام 1973 تبلور حالة نضالية تعتبر استمرار لحالة الانتفاضات في المجتمع الكردي وبحثه عن صيانة وجوده ومحاولة كسب حريته ولكن بصيغة مختلفة هذه المرة، فكان القائد أوجلان ورفاقه في جامعات أنقرة البذرة والمجموعة، والذين تحولوا لحزب العمال الكردستاني في عام 1978 في مدينة آمد-ديار بكر، بعد حادثة استشهاد حقي قرار في ديلوك(عنتاب) والوفاءً لذكراه ومسيرته.
يمكننا القول أن ولادة حزب العمال الكردستاني هي ردة فعل على سياق الإنكار والإمحاء ومقاومة الإبادة الجماعية الفريدة المطبقة على الشعب الكردي، ونستطيع القول أن حزب العمال الكردستاني تأسس كحركة دفاع ذاتي عن الشعب الكردي، في الحقول السياسية والأيدولوجية والثقافية، وتحولت بالتدريج من الكفاح المسلح المرتكز لحماية الأعضاء والكوادر إلى حماية الشعب عبر الحرب الشعبية الثورية بعد حملة 15 آب.
ونستطيع القول أن النضال الذي خاضه حزب العمال الكردستاني، كان بهدف إبراز القضية الكردية بوضوح ومن كلمتين جسدت وضع كردستان بأن “كردستان مستعمرة” التي قالها القائد أوجلان في السبعينات. فإنكار الواقع الكرديّ في فترة الظهور، كان يضع قضية الوجود في جدول الأعمال الرئيسي للمجموعة ثم الحزب. وقد عمل الحزب على إثبات وجود القضية بالبراهين الأيديولوجية أولاً والعمل على تغير ذهنية الاستسلام إلى ذهنية المقاومة والإصرار على الحرية في المجتمع الكردي التي تعرضت لضربات وخسائر كبيرة منذ تأسيس الدولة القومية التركية الاحادية. ولعل جنوح حتى اليسار التركيّ عن تناول القضية بعين واقعية، قد كشف عن ضرورة تمحور التفكير والتنظيم حول فكرة الوطن والأمة. ومن المؤكد أن ظهور حزل العمال الكردستاني PKK بالاسم المعروف، عام1978 مرتبطٌ بالمرحلة والظروف السائدة آنذاك. كما إنّ استمرار نزعة الإنكار ضمن الحركات اليسارية أيضاً بأساليب دقيقة، قد وضع موضوع الالتفات إلى التنظيم والممارسة العملية على خلفية هويات مستقلة في الأجندة حينها، فكانت المجموعة الآبوجية ثم الحزب وثم الحرب الشعبية الثورية.
نتيجة انقلاب 12 أيلول1980 وحالة القمع والقهر والذل التي تم ممارستها على المعارضين وخاصة على الثوريين الكرد والترك في السجون ومنهم سجن ديار بكر-آمد، ومنهم كوادر حزب العمال الكردستاني، كان لعدد من الكوادر المتقدمة في الحزب، كمظلوم دوغان وكمال بير ومحمد خير درموش وغيرهم فعاليات نضالية استشهادية قلت نظيرتها في تاريخ الشعوب وخاصة في عام 1982، والتي كانت شعارها “المقاومة حياة” و لقد جسدت تلك الفعاليات الاستشهادية(استشهاد مظلوم دوغان وفعالية الأربعة والصيام حتى الشهادة) إرادة الشعب الكردي المقاومة والخط الثوري الابوجي الجديد والمجتمعية التشاركية التاريخية لشعوب ميزوبوتاميا والأناضول ، وأعطت إشارة البدء بالعمل الثوري الشعبي والمقاومة المتنوعة، وقالت لسان حال تلك الفعاليات أنه لا يمكن قبول الاحتلال واستعباد الشعب الكردي، وتتريكه وإنهائه، فكانت الدعوة للبدء باستخدام كافة الطرق المشروعة لمقاومة الإنكار والإبادة والاحتلال، وخاصة أن الدولة القومية التركية المتمسكة بسياسة الإنكار والإبادة لم تسمح بالمعالجة السياسية للقضية الكردية، فكان الحرب الشعبية الثورية أو الكفاح المسلح كخيار مشروع لا بديل عنه للشعوب الواقعة تحت الإحتلال، والذي أكدت عليه الجمعية العامة للأمم المتحدة في القرار رقم 3246 الصادر بتاريخ 14/12/1974 حيث أكدت على شرعية الكفاح المسلح ونضال الشعوب في سبيل التحرر من الاستعمار بكافة الوسائل المتاحة، حيث نص القرار” اي محاولة لقمع الكفاح ضد السيطرة الاستعمارية الأمنية والأنظمة العنصرية هي مخالفة لميثاق الأمم المتحدة ولإعلان مبادئ القانون الدولي الخاصة بالعلاقات الفردية والتعاون مع الدول وفقاً لميثاق الأمم المتحدة والإعلان العالمي لحقوق الإنسان”.
إن اضافة إنقلاب 12 ايلول 1980 للإرهاب العلني ضد الشعب الكردي وإرادته السياسية ومع الحالة المتصاعدة للفاشية إلى جنب سياسة الإنكار والإبادة للدولة التركية المستمرة بشدة وعنف، كان أمام حزب حزب العمال الكردستاني بقيادة القائد أوجلان طريقين:
من الصح تناول وقراءة حملة 15 آب 1984 ضمن إطار وجود الحقيقة الكردية. إذ إنّ حملة 15 آب قريبةٌ جداً من هدف إثبات الوجود وتأمين تدفقه واستمراريته أكثر مما هي حركةٌ تحررية، وفق ما يؤكده القائد أوجلان في مجلداته التي كتبه من سجن إمرالي، حيث لم يكن سياق المقاومة منذ تأسيس حزب العمال الكردستاني ومع قفزة 15آب، وبرغم المصاعب مقتصراً لصيانة الحقيقية الكردية وجودياً بل أن هذه الجهد المجتمعي والحزبي المتعدد قطع أشواطاً على مسيرة الحرية، وبناء المجتمع المقاوم والحر بفكره وإرادته، وتجسد ذلك في التفاف الشعب الكردي حول الحزب وقواته العسكرية بشكل منقطع النظير.
ومن المفيد الإشارة هنا إلى أن قفزة 15 آب/أغسطس في شمال كردستان وباقي الأجزاء، كان لها أبعاد وجوانب متعددة ومختلفة كالسياسية والمجتمعية والذهنية، إضافة لبعدها العسكري، حيث يقول القائد عبدالله أوجلان” أما العودة الممنهجة إلى الكفاح المسلح، فكانت قد أرغمتنا على بلوغ وعي أرقى بشأن واقعنا. إذ شرع بالبحث في العلاقة بين العنف وكردستان. كانت قفزة 15 آب قد ابتدأت مرحلةً يطغى عليها الطابع العسكريّ ظاهرياً، ويسودها جانب الواقع السياسيّ مضموناً. أمست العلاقة بين السياسة والعنف تتبدى بوضوح أكثر. في حين كانت الشخصية المجتمعية، إبداع الفرد، قوة التنظيم، المجتمعية الوطنية، وحرية المرأة تعبّر عن نفسها أكثر فأكثر من خلال هذه القفزة”.
ورغم انتقاد القائد أوجلان لطراز حملة 15 آب إلى أنه اعتبر أن لها معناها الثمين تاريخياً وحاضراً، وأنها ستترك بصماتها دون بد. وكمال يقول الثائر الجزائري فرناز فانون فإن الطلقة الأولى هي ضد حالة الضعف أولاً وثم ضد العدو ثانياً، وكذلك كانت الطلقة الأولى بقيادة الشهيد عكيد في شمال كردستان، فقد اصبحت بداية مهمة للتخلص من الضعف وبناء الشخصية المقاومة الحرة.
ولكن بعد هذه الخطوة التاريخية والإنعطافية في تاريخ الكرد وكردستان والمؤثرة على الشرق الأوسط أيضاً، كيف كانت المواقف الدولية والإقليمية وكذلك موقف بعض الأطراف الكردية التي تريد احتكار التمثيل الكردي وأخذه ورقة بيد القوى الدولية، والأهم كيف سيتجاوب الشعب الكردي ويلتف حول هذه الإنطلاقة الشعبية الحرة.
يمكننا هنا الإشارة إلى أربعة مواقف اساسية:
لم تكن سياسة الإنكار والإبادة تنظم خفيةً فحسب. بل وقد مهّدت السبيل أمام أشكال اغتراب مهمة لدى الكرد بممارساتها المستمرة طيلة ثمانين عاماً. إذ أجبر الكرد على التخلي عن وجودهم، بحيث أذعنوا له وتقبّلوه بنسبة خطيرة، سواءٌ بالعنف والشدة أم بالوسائل الاقتصادية. وهكذا ساد واقع شعب ومجتمع مغتربين عن ذاتيهما. من هنا، فحملة 15 آب كانت ستحطم جدار الاغتراب هذا أساساً، وستفرغ سياسة الإنكار والإبادة وتبعاتها من محتواها. وبهذا المعنى، فمن الضرورة بمكان التبيان أنّ هذه الحملة قد حقّقت نجاحاً مهماً في هذا الصدد. أي أنّ الكردايتية كانت تطفو ثانيةً على السطح. وكان الكرد يتحولون إلى ظاهرة أو واقع حائز على رضاهم واعترافهم. كما تحقق الاعتراف به في أروقة الدول أيضاً. والأهم أن الشعب الكردي ومنذ 1940 ولأول مرة مع حملة 15 آب يشعر أنه قادر على تحقيق حريته وأن يقف في وجه الاحتلال التركي، ويفتخر بقوميته وثقافته ولغته، وخلال أشهر وسنين قليلة أنضم عشرات الآلاف من الشباب والبنات إلى الحرب الشعبية الثورية التي كانت الخيار الوحيد ومازالت أمام سياسة الإنكار والإبادة لدولة الإحتلال التركية وذهنيتها الفاشية وعقليتها الأحادية.
لكنّ الاعتراف بالقضية التي حققتها الحرب الشعبية الثورية كان لا يعني حلّها. ولمّا لم تظهرْ نوايا الحلّ إلى الوسط، من قبل الدولة والسلطات التركية ومن ورائها فاستمرّت الاشتباكات وأجواء الحرب كما هي حتى اليوم ولمدة 40 سنة.
تحققت انطلاقة حملة 15 آب غير المتوقّعة في أجواء النجاح النسبي لسياسات الإبادة والإنكار والتتريك، فالدولة التركية كانت تعتقد أن أنجزت الإبادة والتتريك بحق الكرد، غضافى أن شبكة الغلاديو في تركيا التابعة لحلف شمال الاطلسي كانت قد قضت ونظّفت آخر الآثار المتبقية للثوار الأتراك مع انقلاب 12 أيلول 1980. ولم تكن حملة 15 آب 1984 في الحسبان. وعندما تحققت، أعتقد بدايةً أنها مغامرةٌ يساريةٌ بسيطة، وأنّ الجيش الكلاسيكيّ وقوات البوليس والاستخبارات قادرةٌ على تحيدها فوراً. لكنّ العجز عن إنهاء أمرها في العام الأول أفضى إلى نقل المسألة إلى حلف الناتو.
وعليه شعرت الدولة التركية أنها أمام فشلها الكبير، لأنها كانت تعتقد أنه لن يقوم للكرد قائمة بعد القضاء على الانتفاضات الكردية بين 1925 و1940، وبعد دفن علم ثورة آكري والكتابة على القبر بأنه هنا تم دفن الكردستان الخيالية، ولكن حملة 15 آب أثبتت أن المجتمع الكردي قادر على تجميع قوته من جديد رغم كل الظروف والنزول لساحة النضال، مطالباً بحقوقه كشعب له حق إدارة وحماية نفسه، مهما كلفه من تضحيات.
لقد ألحقت المقاومة أو الحرب الشعبية الثورية تلك ضربات قاضيةً بسياسات الإنكار والإبادة والصهر، وحسمت موقفها لصالح تبنّي هوية الشعب والتشبث بالرغبة في الحياة الحرة. وعلى الرغم من عدم وضع حدّ نهائيّ للدول القومية، التي عوّلت على آمالها التصفوية القديمة بحقّ الشعب الكرديّ، إلا إنها لم تعدْ تتحلى بعزيمتها القديمة. إذ تمّ بلوغ مستوى الاعتراف بالهوية واحترام الحياة الذاتية، مما يشكّل وضعاً جديداً من جهة حرب الدفاع الذاتيّ.
لقد تعرضت الحركة الأبوجية أو حزب العمال الكردستاني المتحولة إلى حرب الدفاع الذاتيّ الشعبيّ مع حملة 15 آب للهجمات المدروسة التي خططت لها كافة القوى المهيمنة المعنية، وبالأخصّ قوى الغلاديو التابعة لحلف شمال الأطلسي. وقد لاقت تلك الهجمات دعم جميع القوى القلقة والخائفة من قيام الكرد بقلب موازين المنطقة رأساً على عقب بعد أنْ يتمكنوا من تقرير مصيرهم بأنفسهم في كردستان.
ومن المهم الإشارة إلى الأحداث التي أثبت عدم كفاية نظام الأمن التركيّ في محاربة حزب العمال الكردستاني والشعب الكردي :
هذا العجز وخاصة عن إنهاء حملة 15 آب في العام الأول أفضى إلى نقل المسألة إلى حلف الناتو، الذي أقرّ في 1985 بالتدخل بناءً على المادة الخامسة من قانونه التأسيسيّ. فأعلنت الدولة الألمانية حزب العمال الكردستاني “تنظيماً إرهابياً” بموجب ذاك القرار.
بات واضحاً أنّ القوة الأساسية التي تحارب في كردستان ضد حملة 15 آب 1984، هي قوى الغلاديو التي تعدّ الجيش السريّ للناتو والتي تتاخذ من ألمانيا مركزاً له.
بعد عام 1985 كان الشعب الكردي وبقيادة حزب العمال الكردستاني يحارب ظاهرياً قوات الجيش والأمن التركيّة. وقد عمدت تركيا ومن ورائها على إبراز هذا المظهر عمداً. بينما كانت الحرب في مضمونها ضد غلاديو الناتو. لا شك في أنّ فرع الغلاديو في تركيا كان يلعب دوراً بالغ الأهمية. ولكنّه لم يكن الفرع الوحيد.
ومع إطلاق حملة 15 آب 1984، بات حزب العمال الكردستاني وجهاً لوجه أمام حقيقة هذا البرنامج للناتو بكلّ التفاصيل. أما الممارسات التي طالت القائد أوجلان و PKK بتوجيه من شبكة الغلاديو ضمن سياق ذلك البرنامج، فتجسدت في عدة نقاط:
وفي إطار الحرب الخاصة المستمرة ضد الكرد بدعم مكثّف من قوى الهيمنة الخارجية تتقدمها أمريكا وإنكلترا وألمانيا، فقد ترك الكرد لوحدهم ماعدا ثلة من الخونة والمتواطئين، وفرضت عليهم العزلة في كفاحهم من أجل الوجود والحرية؛ وذلك مقابل استسلام تركيا اقتصادياً للنظام الماليّ العالميّ، ومساندتها التامة لسياسات تلك القوى في المنطقة، ومصادقتها في المجال العسكريّ على تضخيم الفرع التركيّ لشبكة غلاديو التي تعدّ الجيش السريّ للناتو، وعلى استخدامها في الحرب الدائرة.
وعليه، لبّت جميع الدول القومية متطلبات مصالحها بأقسى الأشكال، وانحازت في هذه الإبادة المطبّقة، أو بقيت متفرجة. ونخصّ بالذّكر الدولة القومية الإسرائيلية، التي وسّعت في عام 1996م من نطاق اتفاقياتها العسكرية السرية المبرمة منذ عام 1958م، مصعّدةً بذلك من مستوى مؤازرتها للدولة التركية في حربها الخاصة وحتى اليوم مروراً بالمؤامرة الدولية لإعتقال القائد أوجلان.
لم يكن ممكناً تعريض أية ثقافة اجتماعية في بلاد الأناضول وميزوبوتاميا للإبادة الجماعية، من دون دعم القوى المهيمنة في الحداثة الرأسمالية بحكم مصالحها ما فيها روسيا الاتحادية. وقد كانت ميول انسياق رأس المال وراء الربح الأعظم معيّنةً في ظهور هذه النتيجة. وأثبت هذا الواقع حضوره في الإبادة الثقافية بحقّ الكرد، والمتكاثفة طردياً بكلّ سطوع وبكلّ ما تحتويه من خروج على القانون والأخلاق منذ ما يزيد على المائة سنة. فإما غضّ الطرْف أو قدّم الدعم علانيةً للقضاء على الكيانات والمجموعات الثقافية المعمّرة آلافاً من السنين، وذلك كرمى لمصالح رأس المال قصيرة المدى.
لم تكشف العلاقة القائمة بين الدولة القومية واحتكارات رأس المال والإبادة الجماعية عن نفسها علانيةً في أيّ بلد من العالم، بقدر ما هي عليه في كردستان. وحتى بعض حركات التحرر تساومت مع السلطات التركية، ولم تقدّم الدعم اللازم للنضال الكردي المحق.
يؤكد القائد أوجلان أن تحرك مسعود البارزاني ومطالبته له بالتراجع عن الحرب الشعبية الثورية وحملة 15 آب كانت له صلة بقوى دولية وإقليمية مؤثرة، كانت ترى مصالحها في بقاء الكرد وكردستان بؤرة توتر وورقة ضغط، ولكن عندما تحقق قفزة 15 آب كان هناك خوف وقلق من أن يتأثر المشهد الإقليمي بالإنطلاقة الشعبية الثورية للكرد وتخندقها مع قضايا شعوب المنطقة، وهنا يقول القائد أوجلان في المجلد الخامس من كتاب مانيفيستوا الحضارة الديمقراطية: “كانت تساورني الشكوك والهواجس بأنّ مطالبة مسعود البرزاني علناً بالتراجع عن حملة 15 آب أثناء لقاء له معي في الشام سنة 1985، ليست مطلباً فرضته قوى الأمن الداخليّ التركيّ وحسب، بل وكانت مبادرةً على صلة بإسرائيل وغلاديو الناتو أيضاً. بالتالي، من عظيم الأهمية عدم النظر إلى علاقاتنا وصداماتنا مع KDP على أنها أحداثٌ موجّهةٌ من طرف قوى الأمن الداخليّ التركيّ وحسب. بل وينبغي تقييمها أيضاً على صعيد سياسات إسرائيل وغلاديو الناتو. إنه موضوعٌ يستلزم البحث الشامل. لقد كانت حملة 15 آب خارج دائرة المعلومات الأكيدة للنظام، بالرغم من تخمينه سلفاً لمجراها وللعام الأول الذي تلاها. بالتالي، لم يجزمْ قطعياً بالمسار الذي ستسلكه، ولم تخمّنْ بتاتاً وجهته وآفاقه (الأمر كذلك بالنسبة لنا أيضاً). لا جدال في أنها فتحت الطريق أمام مرحلة جديدة. ولكني على قناعة بأنّ نتائجها كانت محطّ دراسة قوى الأمن الداخليّ التركيّ وشبكة الغلاديو وحلف الناتو على مدار سنة 1985 بأقلّ تقدير، وخاصةً فيما يتعلق ببصماتها التي تركتها على النظام القائم”.
إن خروج القائد أوجلان إلى أوروبا، ساهمت في تعرف القادة والنضال الكردي على الواقع الدوليّ عن كثب وتحقيق تفاعل دولي جديد مع القضية الكردية، وكما أن سياق الأسر في إمرالي حقق تحديث الفكر والسياق لدى القائد أوجلان، والذي بدأ في مطلع سنة 1999م، باستيعاب الواقع بنظرة أعمق وأشمل كما يؤكده القائد أوجلان، بأنّ نسبة الحقيقة ضمن سياق إمرالي كانت متقدمةً عمّا كانت عليه في المراحل الأسبق. إذ حقّق القائد أوجلان إنجازات مهمة: بدءاً من المستوى التجريديّ إلى العينيّ، من الدوغمائية إلى الواقعية، من اللامبالاة إلى الحساسية والدقة، من الدولتية القومية إلى الديمقراطية، من الاقتصادوية إلى الحداثة الرأسمالية، من الحداثة الرأسمالية إلى العصرانية الديمقراطية، من التأريخ المثاليّ إلى التأريخ العلميّ–الفلسفيّ، ولقد عمل حزب العمال الكردستاني على الاستفادة من هذا الوضع وتقييمه من خلال نظام منظومة المجتمع الكردستاني KCK.
إن موضوع كيفية تنظيم وضبط قوات الدفاع الذاتيّ بمنهاج دائم من أهم الموضوعات، والذي لا استغناء عنه ضمن برنامج بناء الأمة الديمقراطية لدى منظومة المجتمع الكردستاني أو النظام الديمراطي، فسياسات الإنكار والإبادة والصهر الجديدة، التي لن تتقاعس الدول القومية عن تنظيمها كلما سنحت الفرصة بوصفها احتكار القوة المسلحة الوحيد، كما نراها في الدول الأربعة، قد فرضت طابع الاستدامة على نظام الدفاع الذاتيّ في منظومة المجتمع الكردستاني.
بالتالي، فالشرط الأدنى في المستوى للعيش المشترك مع الدول القومية، هو تضمين الهوية الكردية الذاتية وحياتها الحرة بدستور. ولن يكفي الضمان الدستوريّ لوحده. بل وسيجري البحث فضلاً عن ذلك في الظروف العينية لذاك الضمان من خلال ضوابط تحدّدها القوانين.
ويؤكد القائد أوجلان أنه فيما عدا الأمن القوميّ المشترك تجاه الخارج، يتعين أنْ يقوم المجتمع الكرديّ بذات نفسه على تدبير شؤونه الأمنية. حيث إنّ تمكين الأمن الداخليّ وتلبية متطلباته بأنسب الأشكال غير ممكن، إلا في حال قيام المجتمع به بذات نفسه.
وعليه، فمن الضرورة أنْ تقوم الدول القومية الأربعة (الدول القومية المركزية التركية والإيرانية والعراقية والسورية) بالإصلاحات المهمة في سياساتها الأمنية الداخلية.
وأمام قوات الدفاع الذاتي طريقين في مشروع الأمة الديمقراطية: