الحدث – القاهرة
تمثّل الأنظمة القومية في المنطقة سياقاً غير طبيعي للحياة وإدارتها، وهي تفاعلٌ قسري وخارجي
مفروض على شعوب المنطقة والعالم، بقصد التقسيم والهيمنة والنهب بعيداً عن ثقافة المنطقة وإرادتها
ومصالح المجتمعات والشعوب والبلدان فيها. وتجسّد الأنظمة القومية أشكالاً جديدة للاستعمار وتحقيق
التبعية، وكذلك فتح كافة البنى الاجتماعية للاستغلال والاحتكار والقمع، وهي حالة تعظيم للفردية
والأنانية وتضخيم للسلطوية وإضعاف الأخلاق على حساب المجتمع وتماسكه وقيمه ومصالحه الجمعية.
ومن المهم الإشارة إلى المكان والظروف والغايات التي صاحبت نشوء الفكر القومي والأنظمة القومية
وتصديرها للعالم ولمنطقتنا، ففي أوربا الغربية ظهرت السياسة البريطانية التي توافقت مع رغبات عدد
من اليهود، في إضعاف وتقسيم الإمبراطوريات والقوى الأخرى المنافسة لها حينها في أوربا وروسيا
والشرق الأوسط، والبحث عن إيجاد موطن لليهود، وفي رصف البنى الفكرية والسياسية لأغلب
التحركات والثورات الجماهيرية كالفرنسية والروسية وغيرها، لخدمة ظهور الأنظمة القومية ودويلاتها
العديدة بالتالي خدمة سياسة (فرّق تسدْ) البريطانية حينها، وتطبيقها على العالم لإنجاز الريادة والقيادة
البريطانية للنظام العالمي المهيمن.
ولعل الحرب العالمية الأولى والثانية وما يجري في غضون مئتي السنة الأخيرة، تحت كنف النظام
العالمي المهيمن، وعلى الرغم من تغيّر قيادتها من البريطانية إلى الأمريكية، من ممارسات الإبادة
الجماعية والتطهير العرقي والتغيير الديموغرافي والاحتكار والجنسوية المفرطة الممارسَة من قبل دول
وسلطات النظم القومية، إنما يعبّر بوضوح عن أزمة النظم القومية التي تشكلت وعن عدائها تجاه
المجتمعات والشعوب.
ولعل الأحادية المطلقة والنمطية والسعي إلى خلق الأمة الدولتية كشرط أساسي لهذه الأنظمة، يُعتبر من
أحد أهم سلبيات هذه الأنظمة، حيث أنها هنا تعتبر اعتداء سافراً على حالة التنوع والتعدد التي امتازت
بها الحياة، والتي كانت من أهم حقائق العيش المشترك والتكامل الديمقراطي بين المجتمعات والشعوب.
كما أنّ الحدود التي ترسمها وتقدّسها النظم القومية هي حديثة العهد ومصطنعة، ولم تكن بالشكل
الموجود كسجن عام وحالة امتلاك. قد تتواجد الأقاليم والمناطق والمدن والقرى الوطنية المركّزة، ولكن
الأكثر اعتيادياً هو الخليط وتعدّد الأمم، والتاريخ شاهد على عدد الأقاليم والمدن المليئة بالقبائل والأقوام
والأديان والمذاهب، والطرائق التي عاشت متفاعلة ومتداخلة على الدوام، هذا ولم يكن الحديث عبثاً في
التاريخ عن بابل المشهورة بالاثنين والسبعين قوماً ولغة، كما أنّ الوطن المشترك للأمم ممكن كثيراً
والتاريخ مليء بالأمثلة، فضلاً عن أنّ مفهومي المجتمع النقيّ والأمة النقيّة ليسا علميّين إطلاقاً.
إن حالة العقم بل تعميق الأزمات والقضايا والمشاكل، هي من خصائص أزمة النظام القومي كونه غير
قادر لا فكرياً ولا إجرائياً على أي مقاربة صحيحة من المجتمعات والشعوب، كونه لا يعترف بالآخر
ولا يريد التشارك معه، ولا يعترف سوى باستسلام الآخرين له ولا يحقق التحولات الديمقراطية
المطلوبة في بنية نظامه ودولته، بل المصيبة هي اقتناع الكثير من الناس وحتى حركات التحرر، أن
الحرية والديمقراطية والتنمية تكون في بناء الأنظمة والدول القومية، وهذه أكبر مصيبة حصلت، حيث
أنّه وبالاستناد إلى ذلك مهما قامت الشعوب والأمم بالثورات والانتفاضات، فإنها في النهاية ستكون في
خدمة أنظمة الدول القومية التي تجدّد نفسها بهذه الثورات دون أن تحقق أهداف الشعوب والمجتمعات.
لا شكّ أن حالة احتكار الأنظمة القومية لوسائل القوة المختلفة، وعدم السماح للمجتمع بامتلاك حقّ الدفاع
الذاتي الطبيعي والسياسة المجتمعية الديمقراطية، تجعل حالة الاستقرار والسلام غير متوفرة، أو قد
يكون هناك سلام مخادع غير حقيقي قابل للانفجار في أي وقت، كون المجتمع ومهما تمّ الضغط عليه
في محاولة إنهائه نتيجة حالات القمع والفردية، فسيبقى محافظاً على أنسجته الأخلاقية والسياسية القادرة
على الظهور والفعالية، والمقاومة وخلق التأثير اللازم والحفاظ على التنوع والتعدد والحياة المشتركة
الحرة والديمقراطية، وإعادة تنشيطها وإحيائها من جديد عندما تسنح وتحين الفرصة والظروف.
يجب فهم وإدراك هذا الواقع الرهيب المتأزّم للنظم القومية، التي شُيّدت بمطلقية وبتزمّت منغلق يفوق
النزعات الدينية للعصور الأولى والوسطى ألف مرة، ويظهر أمامنا مراراً وتكراراً في هيئة الفاشية
بالتحديد، وبممارساتها المنتشرة في كل مكان، ذلك أن تشييد الأنظمة والدولة القومية بحدّ ذاته قد حصل
دوماً بالحروب والإبادة، بحيث من المحال الإشارة إلى دولة قومية واحدة غير مشيّدة بالحرب والقتل،
والأوضح من ذلك، هل بالوسع التحدث عن دولة قومية واحدة ليست في حالة أزمة أو حرب أو نزاع أو
توتر دائم مع مجتمعها وتكويناتها داخلياً ومع الدول القومية الأخرى خارجياً؟ والشرق الأوسط شاهد
على هذه الحقيقة.
كان المعبود هو الله غالباً، لا غير، وهو بدوره كان الضمير المشترك للمجتمع وهوّيته العليا التي
تستوعب كافة الهويات التي تحتها، وكان قد تشكل بشأنه مصطلح قائم بذاته، من خلال صفاته وأسمائه،
وربما كان هذا الأصح والأعدل، ولم تظهر عبادة الوطن إلا مع الأنظمة القومية. في العصور التي لم
تصبح فيها الكرة الأرضية بعد على شكل دول وقارات، فإن تقديس أسماء الأماكن والأوطان لم يكن يدل
كثيراً على حقيقة عميقة، لكن هذا لا يعني أنه لا معنى للمنطقة أو الإقليم أو وطن الأمة أو الأرض التي
تعيش عليها الأمة، بل كان لها معناها، ولكن ليس إلى حدّ التقديس، والأمر السلبي هنا هو طغيان المبالغة
المتطرفة إلى حدّ مسح حقيقة الوجود الإيجابي مع الأنظمة القومية.
بإمكاننا صياغة التفسيرات نفسها بصدد هويات الدول القومية والأنظمة القومية أيضا، مثل العلم، النشيد
الوطني، الأمة والتاريخ، وما من ريب في أهمية مكانة الرموز في التواصل والتفاعل والشرح، إلا أن
عرضها كوقائع مقدسة مع النظم القومية، لا يتيح إمكانية التحلي بمعرفة سوسيولوجية صحيحة ودقيقة،
وعرض كهذا يترك المجتمع الذي سوف يشكله وجهاً لوجه أمام قضايا متفاقمة، علما أنه تركه فعلاً
وزيادة عن اللزوم، ومنطق الإنشاء هو المسؤول والمعضل الأساس في ذلك.
الطامة الكبرى تبدأ مع قيام النظام المهيمن (الرأسمالية العالمية) عبر أدواتها النظم القومية ودولها، بشكل
متداخل بإخضاع الوطن والمجتمع الذي يحتويه، تحت هيمنتها ومحاولة تركيعهما، إذ كلما فُرض مفهوم
التجانس اللغوي والثقافي، تحول الوطن والحدود إلى مكان مقيّد واحتجاز مشدّد للمجتمع، ولكنّ حدودًا
صارمة كهذه لا تُرسم لأجل الدول، بل إن صرامة وقطعية الحدود تمثّل قوة نير العبودية المسلّط على
ذهن الإنسان وإرادته، وتعبّر كذلك عن تحويل البلد إلى سجن كبير والسجّان هو السلطة القومية، ويمكننا
القول إن الحدود الفاصلة إلى هذه الدرجة تفيد باستملاك البشر وتسخيرهم كما يراد، وتبضيعهم
وتجييشهم والاعتداء على كرامتهم وإنسانيتهم، فمن دون إيجاد حدود من نمط الدولة القومية يستحيل نزع
وفصل الأفراد عن المجتمع وتحويلهم إلى حثالات أو أناس لاحول ولا قوة لهم، ولا يمكن لهذه الوقائع أن
تصبح ممكنة إلا بتديين وشرعنة “حدود الوطن المقدس” علماً أنها مناقضة لجوهر الأديان وللحقيقة
الجغرافية وللطبيعة التفاعلية والتنوعية للمجتمعات البشرية.
إنّ الدول القومية وأنظمتها المحددة في العالم والمنطقة وفق مصالح هيمنة حداثة النظام العالمي المهيمن
، والمتميزة بهذا المنطق؛ لا تنسجم مع الوقائع الراسخة الثابتة والكونية من حقائق المناطق والأقاليم
والأمم والمدن والقرى، وبالتالي لا مفرّ من عيشها حالة الأزمة وحصول التناقضات والاشتباكات
والنزاعات الجادة فيما بينها، ذلك أنها ستظل ضمن تناقض وصَدام مع المضمون الحقيقي لهذه
المصطلحات الكونية في كل زمان، نظراً لأنها لم تنشأ على خلفية العدالة والحرية والديمقراطية والتمثيل
الصحيح والمعبّر.
وعليه تبقى النتيجة البارزة وهي أن أدبيات القرنين الأخيرين بخصوص الدولة القومية وأنظمتها تتحلى
بالقدر اليسير من قيمة الحقيقة. إننا في مواجهة سرد ميثولوجي ربما أقلّ معنى من ميثولوجيات العصور
الأولى التي لا تولي معاني كثيرة، وربما قيمة الحبر المسكوب من أجل دولة قومية واحدة، أثمن
بأضعاف مضاعفة من قيمة جميع الدول القومية.
لا ينبغي الاستنباط من تقييمنا للنظم القومية وأزماتها وكأننا ننكر تماماً الدولة والأمة، أو نعتبر
وجودهما بلا جدوى، إذ للدولة والأمة معانيهما الأهمية العالية كوقائع منفردة بذاتها، وتحليلهما الدقيق
والصائب هو المهمّ، كما أنهما ليستا كيانين سيهدمان أو يجب هدمهما على الفور، بل الخطير في الأمر
هو منطق إنشاء الدولة القومية وأنظمتها، ونمط الاستمرار بها والإصرار عليها، ذلك أنها تذكّر دوماً
بالحرب والإبادة والتطهير العرقي والشؤم والتعاسة، وبتقليص الحقائق الاجتماعية والإجلال المتطرف
والمقدس المبالغ فيه لما لا قيمة له.
تظهر أزمة النظم القومية في كونها أدوات للاحتكار الرأسمالي العالمي ونهب ثروات المنطقة، وهنا
يظهر بُعدها الاقتصادي السلبي على المنطقة في كونها أهمّ أداة لنظام الهيمنة العالمية، لتحقيق الربح
الأعظمي بدون أي احترام للطبيعية والبيئة والإنسان، وهي ليست في خدمة الإنسان والمجتمع، ولعلّ
حالات الفقر والبطالة والهجرة وخاصة هجرة العقول هي من مميزات حالة هذه الأنظمة القومية،
ويتجسّد صلب العلاقة بين الدولة القومية والرأسمالية العالمية في فتح البنية الاجتماعية والاقتصادية
بمجملها على الاستغلال والتسلط، وبمنوال لا نظير له في مجرى التاريخ، حيث أنّ الدولة القومية
بوصفها شكل التحوّل السلطوي والتحكّمي الأقصى، بمقدورها جعل هذا الاستغلال ممكناً.
كما أنّ هذه الأنظمة القومية استهدفت في مسار تحريفاتها وهجماتها، أهمّ قيم المنطقة ومذاهبها وأديانها
كالإسلام وغيره، حيث تمّ النظر إلى “الإسلام المستحدث” الذي تم تطويره كظاهرة حداثوية في القرنين
الأخيرين، على أنه تقليد أو شريعة، لكن من الأفضل والأصحّ تقييمه ضمن إطار النظم القومية، فإدراك
كون هذا الإسلام قد أنشئ كقوموية وليس كشريعة دينية، يتّسم بأهمية كبيرة، فهو نموذج مصغّر من
القوموية الإقليمية، وممهور بطابع الاستشراق والتبعية الفكرية. إنّه ابتكار الاستشراقيين الذين لا علاقة
لهم بالحياة والحضارة والقيم الإسلامية، كما أنّه مرتبط عن كثب بتوسّع قوى الهيمنة الأوروبية في
المنطقة، وبالهيمنة الألمانية على وجه الخصوص، وبعدها البريطانية، وله ارتباطاته مؤخراً مع الهيمنة
الأمريكية في وجه روسيا الاتحادية، لذا؛ من عظيم الأهمية الاستيعاب أنّ الإسلام السياسي المبتكر لا
يهتم بالثقافة الإسلامية التاريخية، وأن ثقافة هذا الإسلام قوموية تماماً، وأن غاياتها تتمثل في تشتيت
المقاومة الثقافية للإسلام، وفي جعل المنطقة خائرة القوى ومنفتحة للتدخل الخارجي وهدفها استخدام
واستعمال الدين ومقدسات الشعوب لغرض الوصول إلى السلطة والحكم، وليس خدمة المجتمعات
والشعوب، كحال حركات الإخوان الإرهابية وغيرها من تفرعاتها المختلفة من القاعدة وداعش والنصرة
وحزب العدالة والتنمية، وما يسمى الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية وغيرها .
الإسلام السياسي أيديولوجية قوموية تتماهى مع أوليغارشيات الدول القومية وأنظمتها للقرنين الأخيرين،
والدولة التركية في عهد العدالة والتنمية وأردوغان والجمهورية الإيرانية الإسلامية، تبسّط هذا الواقع
بشكل لافت جداً للأنظار. فالإسلام الشيعي من ألفه إلى يائه هو قوموية إيرانية وأيديولوجية مهيمنة لتقاليد
الإمبراطورية الإيرانية، والتركية الأردوغانية هي قوموية تركية طورانية كتقليد للإمبراطورية
العثمانية، في مشروع العثمانية الجديدة التي تحاول إعادة احتلال كل شعوب وبلدان المنطقة والبلدان
العربية، والاحتلال التركي في سوريا والعراق وليبيا والصومال وقطر ولبنان واليمن وغيرها، تؤكد
بعض هذه الغايات.
لكن الإسلام مختلف ومهمّ في آن معاً، سواء كهوية أصيلة عريقة أم كتاريخ، وما لم يُحلّل الإسلام القابع
في هذا الواقع في الأنظمة القومية، فمن غير الممكن تحليل وتفكيك ثقافة الشرق الأوسط والأنظمة
القومية، والمساهمة في جعلها موضوعاً وأرضية لبعض الحلول. إنها بحر ثقافي هائل ينتظر التحليل
والتدقيق وتجديد الخطاب الديني كمهمة عاجلة، ونخصّ بالذكر أن التاريخ الذي يميز بين الإسلام بوصفه
عنصراً ديمقراطياً، منذ ولادة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام خصيصاً وحتى يومنا الراهن كإسلام
مجتمعي وديمقراطي وأخلاقي، وبين الإسلام باعتباره عنصراً سلطوياً مستعملاً من قبل الأنظمة
القومية.
فقدت المنطقة أو الشرق استقلاله الذهنيّ تدريجياً مع الأنظمة القومية ونشوء الدول القومية، وسادت
الأفكار الاستشراقية (الهيمنة الذهنية للمدنية الأوروبية الغربية)، ودخل النخبويون والمتنورون
والمثقفون الشرقيون تحت حاكمية الفكر الاستشراقيّ. ونجحت جميع المشتقات الفكرية للّيبرالية، وعلى
رأسها القوموية، في الاستيلاء على الذهنية الشرقية، بل حتى إنّ التيار الإسلامويّ الجديد والحركات
الفكرية الدينية الأخرى والبعض من التيارات اليسارية وتيارات التحرر الوطنية، تطورت مركونةً إلى
القوالب الاستشراقية، ولم تكن حركات الدولة القومية المتنامية مع بدء القرن العشرين في مضمونها،
سوى تعبير عن مؤسسات عميلة للفكر الاستشراقيّ، أي أنّ مؤسسي الأنظمة والدول القومية لم يكونوا،
وما كان لهم أنْ يكونوا، أصحاب فكر استقلاليّ مع ترويجهم الدائم. فجميع الصياغات الفكرية البارزة في
الشرق الأوسط خلال القرن العشرين، بما فيها الفكر اليساريّ، كانت ممهورةً بطابع الاستشراقية
والهيمنة الفكرية الخارجية. ورغم إطلاق تسمية “الحقائق العلمية العالمية” على الأفكار التي جرى
تكييفها مع واقع المنطقة باسم علم الاجتماع، إلا أنّ جميعها كانت استشراقيةً في مضمونها، وبطبيعة
الحال تستقي الاستشراقية قوتها من دنوّها من الحقيقة بنسبة أكبر بكثير مما هي عليه القوالب الذهنية
القديمة، ونظراً لتدنّي مستوى الحقيقة في أفكار ناقدي الاستشراقية مقارنةً مع الاستشراقيين، فقد كانوا
عاجزين عن إحراز النجاح والتفوق، ويمكننا قول الأمر ذاته بشأن النخب السلطوية الاستشراقية في
المنطقة أيضاً، كـ “تركيا الفتاة” و”جمعية الاتحاد والترقي”، والكماليين والقوميين العرب وبالأخص
البعثيين، والتي كانت تنتهل قوتها من ذهنيّتها الاستشراقية الأقوى نسبةً إلى الذهنيات القديمة. إن هذا
الوضع هو الدافع الأوليّ وراء خروجهم من صراع السلطة والاحتكار موفّقين، سواء في الدول العربية
أو في تركيا في عهد الملكية الدستورية أم الجمهورية، كما يتعيّن المعرفة يقيناً أنّ الاستشراقية الغربية
تشكّل منبع القوة الكامنة خلف نزعة القوموية التركية التي كانت البدء بها في المنطقة كأهم دولة نموذجية
وظيفية لها أمة دولتية نمطية متجانسة، جرى تشكيلها عبر الإبادات بحق شعوب ميزوبوتاميا
والأناضول، أما السبب وراء قيام النخب السلطوية منذ أمد بعيد بتحويل قبلتها من مكة وأورفا والقدس
إلى باريس ونيويورك وجنيف وبروكسل، فهو النجاح والمتانة اللذان حقّقهما الفكر الاستشراقيّ لديها
وبريق السلطة والنفوذ فيها، ومع تمكين الأنظمة والدولة القومية، بلغ الفكر الاستشراقيّ أوجَه وبسط
احتكاره على كافة الذهنيات الأخرى،إذ لم يبسطْه في الحقل الأيديولوجيّ وحسب، بل وفي المجالات
الأخرى من الأخلاقية التقليدية والفنيّة وغيرها من الجوانب الحياتية، ممهّداً السبيل إلى سيادة القوالب
الأخلاقية الغربية.
وتظهر أحد جوانب أزمة الأنظمة القومية في مقاربتها للمرأة، حيث تراها في أحسن الأحوال وسيلة
لتسويق أفكارها وتصدير الحرية الليبرالية المخادعة والأنانية، وجني الأرباح من وراء تبضيعها، وكذلك
وضعها في قوالب رسمته لها العقلية الذكورية التي تجسّد النظام القومي، حيث إنها لم تعدْ تبحث عن
ذاتها بمقدار ما تذهب للبحث عن المساواة بالرجل في رحلة ومسيرة تخدم النظم القومية، بتقديم المرأة
الشبيه بالرجل وليست المعبرة عن المرأة كحقيقة وكيان ومجتمع، وتقوم الأنظمة القومية بتأطير المرأة
ضمن أدوار وقوالب جاهزة، والدفع بحريات زائفة وممارسة الذكورية في كافة ميادين الحياة، لأنه من
دون عبودية المرأة واستغلالها لا فرصة لأي شكل عبودي في التطور والحياة في المجتمع، فكل
أيدولوجيات السلطة والدولة تستقي أولى مناهلها من المواقف والسلوكيات الذكورية، وعبودية المرأة هي
الحقل الاجتماعي الأعمق والمحجوب الذي طبقت عليه شتى أشكال العبودية والقمع والاستغلال. إنها
الموضوع الشيئاني والأداتي الاجتماعي الذي جُرّبت عليه جميع أشكال السلطة والدولة، ورأته مصدراً
لها، ونظام الحداثة الرأسمالي والدولة القومية هما المعبّران عن حاكمية الرجل وتأسيسها أو مؤسستها.
التعليم في نظام الدولة القومية في المنطقة عامل رئيسي في إيصال إشكالية المجتمع الوطني إلى
أقصاها، وبناء مواطن وموظف لدوام استمرار شبكة الدولة ونظامها القومي دون اعتبار لمصالح
المجتمع، ويتم اتباع مركزية الدولة لإنتاج المواطن العبد، وهي على الأغلب تتم عبر الأطر الرسمية
والمؤسسات من قبيل المدارس والثكنات والجوامع والكنائس والكنسيت والجامعات، ذلك أن تنفيذ حالة
النهب والسلب ممكنة بتنميط هوية جميع المواطنين وإنشائها بنحو يتوافق ومآربها، ولا يمكن إدراك
الأزمات في نظم التعليم المتردّي عندنا من دون فهم العلاقة بين نوع التعليم وبناء الدولة القومية، فهذه
المؤسسات تنتج كمّاً هائلاً من القضايا والتخبّط، وهذا بحدّ ذاته يعني إفلاس الذهنية وتدهور السلوك،
وحتى إنتاج أفراد من سياسيين وإعلاميين ومثقفين ونخب مختلفة وانتهازيين مستعدين لبيع حتى أنفسهم
وكرامتهم، مقابل حفنة من الدولارات وبعض المناصب
الصحيح والملاحظ على الأقل بعد مئة عام من عمر الدولة القومية في المنطقة والشرق الأوسط، أنها
تعبّر عن نظام تفاقمت فيه القضايا الاجتماعية إلى أقصى حدّ، بدلأً من صياغة الحلول الاجتماعية
المناسبة، وليست كما يروّج لها أنها الشكل الأساسي للتنمية والعدالة والديمقراطية والحرية وحقوق
الإنسان، بل هي إنكار لتلك القيم، وتتحمل مختلف التيارات الاشتراكية واليسارية مسؤولية كبيرة عن
ذلك التحريف بقدر الليبراليين البرجوازيين على أقل تقدير، وذلك بسبب نظرياتهم وبرامج تنظيماتهم
التي شكلوها في هذه الوجهة
وفي النتيجة لابدّ من نهضة ثقافية وحركة تنويرية ديمقراطية وشراكة حقيقية للشعوب، مع إعداد القيم
الثقافية لصياغة التاريخ الثقافي وتفسيره، وصياغة سوسيولوجيا ثقافة المنطقة تتجاوز الآراء الدينوية
والقوموية، ومهما كان انتقاد الدولة القومية وأنظمتها أيديولوجيةً وبنيةً أمراً مهماً، إلا أن تقديم بديلها
أيضاً وظيفة أهمّ لابدّ منها في ظل مقاربة تنويرية ديمقراطية، مع مراعاة عدد من المبادئ:
كون الثقافة الاجتماعية قد تشكلت متداخلة وضمن كلياتية متكاملة مجتمعية وديمقراطية في جميع
عصور التاريخ، وحالات تطورها ضمن كلياتية متكاملة، تسري على كافة ميادين المجتمع
والحياة.
التحول الديمقراطي.
وتجاوز رموز ومقدسات نظم الدولة القومية الخارجة عن الحقيقة، والتركيز على مناهضة
التداعيات الاغترابية والاحتكارية للحداثة المفروضة تأسيساً على التضاد مع ثقافة المنطقة.
ومن الصحيح اتخاذ الكلياتية الديمقراطية والتكامل المجتمعي والثقافي أساساً للتنوير الثقافي
والديمقراطي، وتجاوز أزمة النظم القومية من خلال عناصر العصرانية الديمقراطية الثلاثة الأولية
(الأمة الديمقراطية، الاقتصاد التشاركي المجتمعي الديمقراطي، الصناعة الأيكولوجية)، وذلك في وجه
الاحتكارية التي طورتها حداثة النظام العالمي المهيمن عن طريق ركائزها الثلاث (الدولة القومية،
الرأسمالية، الصناعوية والافتراضية). فمن المحال تخطي حالات التبعية والاغتراب والتجزّؤ والتبعثر
المفروضة على ثقافة المنطقة، طيلة تاريخ المدنية عموماً وفي القرنين الأخيرين للحداثة بأعلى نسبة، إلا
بالبنى المتكاملة وتعابير الحقيقة وبالعلمية المجتمعية الحديثة، وإنجاز الحياة التشاركية التي تمَكّن وجودنا
التاريخي وإرساء دعائمها في كافة الحقول الاجتماعية، يتصدرها تنظيم ومأسسة الحقل الاقتصادي مع
الفيدراليات الديمقراطية والإدارات الذاتية، كمؤشرين على تنظيم ومأسسة الحياة السياسية والدبلوماسية
لمجتمعات وشعوب المنطقة، في إطار تكامل ووحدة طوعية وكلياتية ثقافية لكل المنطقة والوصولك لكونفدرالية الشرق الأوسط.
بالتزامن مع مجلة الشرق الأوسط الديمقراطي