الحدث – القاهرة
يعاني نظام الدولة القومية بجانبيه العلماني والديني السلطويان في المنطقة من فشل كبير وأزمة حادة ملحوظة في المجالات الاقتصادية والسياسية والأمنية والثقافية، وكذلك أصبح هذا النظام يشكل عبء وإشكالية على استمرار ضمان مصالح النظام العالمي، في الهيمنة والنهب، بالأشكال والمواقف والأدوات السابقة، مما ضاعف من حجم المعاناة والمصائب التي لحقت بشعوب ومجتمعات المنطقة أصلاً مع فرض وتطبيق هذا النموذج في الشرق الأوسط وعلى شعوبها منذ حوالي مئة سنة. وبنظر سريعة إلى واقع الشرق الأوسط وحالة التوتر والفوضى والفقر والبطالة والهجرة والحروب والتبعية والاستبداد وغياب الديمقراطية والتدخلات الخارجية، سنجد الفشل الكبير للدول القومية وسلطاتها القوموية في إدارة المنطقة وشعوبها ومجتمعاتها وحل قضاياها لأنها بالأصل هي المشكلة والمصيبة الكبيرة والمولدة للأزمات.
لم تنشأ الدولة القومية في سياق التطور التدريجي الإيجابي الحياتي، بل هي ولادة سلطوية دولتية وستفالية قسرية، وهي تعبر عن تراكم وتكاثف وتركيز السلطة في بنى ضيقة محددة، أرادت الاستحواذ والتفرد بطرق غير مشروعة مموهة، ولقد عملت الدولة القومية على التخريب والانتقام من القيم الحضارية والتشاركية للشعوب والمجتمعات وتكاملهم، وبالتالي، تشتيت قوى المجتمعات الديمقراطية وإضعاف الأنسجة السياسية والأخلاقية المجتمعية، لأن الدولة القومية كانت وما زالت تخاف من المجتمع وتحاول النيل منه، لأنها تعلم أنها احتكرت وسرقت ما كان للمجتمع من عناصر القوة والاستمرارية.
ولعله سيكون من المفيد الإشارة إلى المطلقية الموجودة في فكر وسلوك الدولة القومية، التي أخذت العديد من السلطات والقوى والأحزاب والشخصيات الحاكمة نحو العنصرية والفاشية، وممارسة الإبادة والتطهير العرقي بحق العديد من الشعوب في دول المنطقة، إضافة إلى الدوغمائية والقالبية الفكرية، التي حاولت اصطناع مقدسات، لمصلحة تعزيز هيمنة الدولة القومية، من غير كرامة الإنسان وحريته والحقيقية المجتمعية وأخوة/أخوات الشعوب، كالحدود المقدسة والعلم الواحد المقدس واللغة الواحدة المقدسة والنشيد القومي، والجيش المقدس، والحزب الواحد، في الوقت الذي كان يكفي فيه إبداء الاحترام، وأن يظل المقدس هو المجتمع وأخلاقه وقيمه الإنسانية والحضارية التشاركية.
من المهم الإشارة إلى أن الدولة القومية، هي إحدى أدوات النظام العالمي الرأسمالي، الذي تبلور بشكل واضح في القرن التاسع عشر، وإن كان هي تحصيل لتراكمات سابقة، ولعل الإنكليز واليهود هم من أوجدوا هذه الأداة وهم يبحثون عن طرق مناسبة لإزالة العوائق أمام تفرد الإنكليز بمنظومة الهيمنة العالمية ومسعى اليهود ليكون مؤثرين في النظام الدولي والإقليمي المشرقي ليكون لهم دولتهم النموذجية القومية الدينية(إسرائيل) في وسط وبحر من الدويلات القومية الوظيفية الخاضعة لها، والتي لا تستطيع الفعل بعيداً عن الأجندة الدولية لنظام الهيمنة العالمي.
أخطا الماركسيون وخاصة مع الثورة البلشفية في قراءتهم لأدوات الهيمنة الرأسمالية وعلى راسها الدولة القومية، فاعتقدوا أن الوصول إلى العدالة والحرية والاشتراكية، يكون عبر الدول القومية ومزيد من السلطة والمركزية عبر ما تم تسميته بدكتاتورية البروليتاريا، التي لم تكن مختلفة عن الأنظمة القمعية السابقة والأخرى الرأسمالية، وبالتالي خدموا الرأسمالية أكثر من الرأسمالية نفسها. في حين كان الأصح أن تكون الديمقراطية طريقاً ونهجاً وإنشاءً، لتحقيق الاشتراكية ورفاهية ووحدة الشعوب، إضافة إلى أن تعويلهم على العمال والفلاحين الذين لاحول ولا قوة لهم في ظل تحكم النظام الرأسمالي، بدل المرأة والشباب الذين هم أصحاب وقوة التغير الحقيقية في أي مجتمع أو حراك أو ثورة. وبالتالي سلك الماركسيون طريق لن يؤدي سوى إلى الديكتاتورية والعنف وليس إلى الاشتراكية ورفاهية الشعوب والمجتمعات وحريتهم، واصبحوا بذلك ضحايا لإحدى أدوات النظام الرأسمالي العالمي، ومن ينظر لقوى اليسار وحالة الضعف فيهم، يدرك أن عليهم تحقيق مراجعات نقدية شاملة، وتجاوز النخبوية إلى المجتمعية وتمثيل مصالحها والتوحد معها، والقناعة أن الوصول للاشتراكية يمر عبر الديمقراطية والتحول الديمقراطية وقراءة المعطيات الجديدة. مع تأكيدنا أن الاشتراكية هي الإنسانية بحد ذاتها ولا يمكن الشك أو التخلي عنها.
ومن المفيد الإشارة إلى كذب وزيف ادعاءات بعض التيارات والأحزاب القوموية والدينية وهم يتشدقون بالاستقلالية والشعارات الرنانة والأعلام المختلفة للدويلات القومية التابعة وهم يحاولون تضليل العامة وقطعنة الشعب، ليكون في السلطة لأطول فترة.
ولو نظرنا إلى المجال الاقتصادي والسياسي والثقافي لدى الدول القومية، لا بد أن نجد اختلال التوازن بين كمية الاستيراد الكبيرة وضعف الانتاج، إضافة إلى زيادة التبعية والاستشراقية في العقل والذهنية والسلوك، وكذلك حجم التعامل مع المنظومة الاقتصادية الدولية النهبية وهياكلها الدولية بعيداً عن احتياجات المجتمعات والشعوب، بل بفرض مزيد من التحديات على الشعوب والمجتمعات، تحت حجج وعناوين مختلفة، وعبر تمريرها في مؤسسات شكلية ليس لها علاقة بالشعوب كالأطر الدولتية القومية من البرلمانات الشكلية والانتخابات المسرحية الصندوقية المحددة نتائجها سلفاً.
أما الفساد والاحتكار من قبل فئة ضيقة أو عائلة حاكمة أو عوائل حاكمة أو بطانة ومجموعة خاصة، فهي من أبرز خصائص وسمات هذه الدول القومية وسلطاتها، نظراً لماهية الدولة الدولة القومية ووظيفتها لخدمة قوى الاستبداد والهيمنة، وبالتالي يكون سرقة ثروات الشعب وانتشار الفقر وزيادة البطالة وتدني الأجور لأدنى حد من نصيب غالبية ابناء وبنات الشعوب والمجتمعات، ولو نظرنا لغالبية دول الشرق الأوسط وشعوبها سنجد هذه الخاصية وخاصة مع الميزانيات الهائلة والتي تهدر لصالح أشخاص وطبقات وعائلات دون الشعوب واحتياجاتهم الضرورية.
ومن الطبيعي في ظل نظم تنعدم فيها الحرية وتغيب الديمقراطية ولغة الحوار والنقاش الحر والنقد البناء، ويسود فيه لغة التخوين وخطاب الكراهية واستعمال العنف وثقافة الانتقام والاقصاء والإنكار، أن تتوفر فيه مساحات واسعة لانتشار التطرف والإرهاب وتسلسل الإسلاموية والتقسيمية المناطقية والتدخلات المختلفة، مع دعم قوى خارجية لهذه الأدوات أصلاً والتي ليس لها انتماء للشعوب والأوطان والمنطقة، إضافة إلى استعمال سلطات وأجهزة الدولة القومية وفي أحياناً كثيرة هذه الجماعات وغيرهم لضرب جماعات أخرى من نفس الخلفيات أو من تيارات ثقافية وسياسية مختلفة لزيادة سيطرتها وتحكمها.
يبقى الادماج القسري والتنميط التي قامت به الدولة القومية وبالدعم من النظام الدولي للهيمنة، وكذلك المركزية الشديدة، أو الاحتلال المركزي من أكثر الخصائص سلبية واضعافاً لقدرة المجتمعات على التكامل والوحدة الديمقراطية، لأنها حاولت أن يتم القضاء على حالة التعدد والتنوع التي تمتاز به مناطق وبلدان المنطقة، وبذلك اصبحت ثقافات عريقة وأصلية وكذلك شعوب أصلية تحت خطر وتهديد الانصهار والزوال مع اتباع هذه الدول لسياسات وممارسات ممنهجة لتطبيق الإبادة الجماعية المادية والثقافية لخلق واصطناع أمة الدولة القومية الأحادية، مما أصبح هناك عوائق أمام تماسك وتفعيل كافة طاقات المجتمع والبلد وأصبحت بذلك من أهم العوائق أمام التكوينات المجتمعية من العيش بخصوصيتها وثقافتها الخاصة.
يحاول البعض، الالتفاف حول تضاد الدولة القومية مع المجتمع ونهجها الأحادي والمركزي، والذكوري، ومنهجها للاندماج القسري وسياستها للتطهير العرقي والإبادة الجماعية، بترديد مصطلح الدولة الوطنية، ومفهوم المواطنة، وما يسمى حقوق الإنسان وكأن حق وحرية الإنسان ممكن من دون حق وحرية المجتمع الذي ينتمي إليه، اضافة إلى بعض الشكليات الدولية القانونية، أو الدساتير التي تبقى فوق الرفوف ولا تجد طريقها للتطبيق في الدول القومية، دون توضيح لماهية ومنبع هذه المصطلحات، التي تم تحريفها، ولاحتكار القوة في يد الدولة القومية، لتستمر الدولة في احتكارها ومركزيتها وتسلطتها، رغم أنه من حق أي مجتمع وشعب في أن يدير ويحمي نفسه، ولكن المصالح الضيقة والرغبة في البقاء في صدارة المشهد أو بالقرب من السلطة وعدم الرغبة في قول الحقيقية والحق أو عدم الاقتناع في أهمية حق المجتمعات في إدارة وحماية نفسها، يجعل هذه التشويه والنفاق والكذب في الصدارة من قبل بعض السياسيين والمثقفين والأكاديميين، الذي هم بمواقفهم وقناعاتهم البعيدة عن المجتمع مرتزقة للدولة وأجهزتها الاستبدادية أو حتى يمكن القول أنه مع مشهد الدولة القومية وممارساتها أصبح الفكر السياسي والثقافي في حالة من العقم والتصحر إلى أن اصبح ما يصدر من اصحاب السلطة والدولة هي حقائق ومعطيات ثابتة على المثقف أن يثبت صحتها وأهميتها للقطيع البشري الذي سلم حمايته وإدارته للغير، لما له من الخبرة في الحديث والتحليل والاقناع، في الوقت الذي نعتقد أن من أهم خصائص المثقف هو التوحد مع المجتمع وممارسة النقد وتوعية المجتمع وتنويره وحتى قيادته في مراحل التحرك، أي أن يكون مجتمعي وليس دولتي أداتي أناني، بمعنى أن يكون أخلاقي ومسؤول أمام مجتمعه وليس انتهازي أداتي للسلطة والدولة، وهذه إحدى حقائق الدولة القومية أنها تريد عبيد عصرين أو موظفين وليس مبدعين أو اصحاب مبادرات مفيدة لصالح المجتمعات والشعوب، صحيح أن الظروف الاقتصادية التي يعيشها المثقف أو الأكاديمي في المنطقة ودولها صعبة وقاسية، ولكن على الجميع أن يعلم أن هذه الظروف هي من نتاج أفكار وممارسات وسياسات الدولة القومية التي من المفروض أن نحاول جميعاً تجاوزها أو إجراء التحول الديمقراطي فيها.
رغم تعرض المرأة لكثير من المعاناة وسرقة قيمها وتحجيم أدوارها وإخراجها من الحقول الأساسية الحياتية على مختلف مراحل التاريخ منذ اليوم الأولى لتأسيس الدولة، ولكن مع الدولة القومية، تعرضت المرأة لأبشع أنواع الاعتداءات والاستيلاء، فأصبحت سلعة للدعاية الرخيصة ولتحقيق الربح، وكذلك مادة ليمارس الرجل سلطته عليها، إضافة إلى محاولات خداعها باسم الحرية الليبرالية الفردية وأخدها لتكون مزهرية في المشهد الدولتي السلطوي أوشبيهة بالرجل احياناً أخرى، حتى لا يكون هناك وعي حقيقي للمرأة وعلم، يعبر عن كيانيتها ووجودها وطموحاتها وحتى لا يكون هناك حركة أو تنظيم للمرأة يجسد إرادة المرأة الحرة وتطالعها للحياة الحرة والكريمة.
ليس المطلوب أن يتم تهديم الدول القومية الحالية في الشرق الأوسط، أو ان يتم بناء دول جديدة بنفس النماذج السابق، ولكن من المهم أن يكون هناك معرفة وادارك لهذه الأداة المسمى الدولة القومية وأضرارها على شعوب المنطقة وحالة الأزمة والعقم فيها والأحادية فيها، وأن يكون هناك على الأقل التفكير وثم المحاولة الجادة لتجاوز خصائها وسماتها الاحتكارية والعنفية والأيدولوجية عبر مراحل وبالتدريج عبر معادلة: (الدولة+ الديمقراطية) والتي أشار لها المفكر والقائد عبدالله أوجلان في كتبه ومجلداته، والتي نعتقد أنها تعني ضمان وتأمين ساحة حياتية حرة ومشتركة للعمل المجتمعي ووجود الدولة معاً والتي تتم فيها تحديد دور الدولة وأجهزتها وسلطاتها بدستور ديمقراطي يحفظ حق المجتمعات في الحياة الحرة وكذلك حق جميع الهويات في الوجود والحرية، مع وضع شروط عينية حتى تستطيع المجتمعات من بناء مؤسساتهم الديمقراطية الحرة والعيش بخصوصيتهم، وبالتالي تجنب الدخول في حروب ودورات عنف داخلية، لا تفيد شعوب المنطقة ووقف التدخلات الخارجية والعمل لإنجاز التحول الديمقراطي في الدول الموجودة، وخاصة في الحقول الاقتصادية والسياسية والثقافية، مما يمهد الأرضية المجتمعية والنخب المثقفة والدول الموجودة لبناء نظم ديمقراطية وحرة، تكون لخدمة الشعوب والمجتمعات وليس تابعة لأطراف وجهات إقليمية أو يتحكم فيها ثلة من المستبدين وحولهم المنتفعين دون مراعاة مصالح وأولويات المجتمعات والشعوب، وهنا نكون أمام البديل لنظام الدولة القومية وهو نظام الأمة الديمقراطية الذي طرحه المفكر والقائد أوجلان في مجلداته وكتبه.
ولكن في حالة عدم استجابة الدول القومية ومن ورائهم، لمقتضيات مرحلة التحول الديمقراطي والاعتراف المتبادل، يكون خيار العمل المجتمعي منفرداً وبكافة الوسائل، هو الطريق المختار والصحيح للوصول للحرية والديمقراطية وإنشاء الأمة الديمقراطية وتجاوز الدولة القومية وليس الاستسلام أو لخضوع لها مهما كانت التحديات ومهما كلف ذلك من الجهود والتضحيات، لأن هدف الوجود هو الحرية، ومن يتخلى عن حريته يكون وجوده مهدد وتحت التهديد، وهذا الموقف والإنشاء الجديد يحتاج لثورة ذهنية وثورة في علم الاجتماع، وتناوله للحياة.