الحدث – القاهرة
ماذا تعني السياسة؟
هل السياسة تعني المرونة المخادعة والنفاق والنهب ولغة المصالح والربح والحكم فقط أم أنها عمل اجتماعي حر وحياتي مهم وأخلاقي نبيل؟ هل السياسة عمل دولتي أو عمل فئة وطبقة معينة أم أنها عمل مجتمعي عام وفن للإدارة؟
من لديه المصلحة في التشويش الاصطلاحي والتزيف الحاصل و لماذا نحتاج إلى تصحيح المصطلحات؟
هل تستطيع المجتمعات وشعوب المنطقة وبلدانها النهوض وتحقيق التطور ومواجهة التحديات وحل القضايا العالقة بدون السياسية المجتمعية الديمقراطية؟
يعتقد البعض أن السياسة واصطلاحاً تعني رعاية شؤون الدولة الداخلية والخارجية، ويعرفها إجرائيا هارولد لاسويل(Harold Dwight Lasswel) عالم الاجتماع الأمريكي بأنها دراسة السلطة التي تحدد من يحصل على ماذا (المصادر المحدودة) متى وكيف. أما العالم السياسي الأمريكي ديفيد إيستون(David Easton) يقول أنها دراسة تقسيم الموارد في المجتمع عن طريق السلطة، وحسب الشيوعيين تكون السياسة هي دراسة العلاقات بين الطبقات، وأما الواقعيون فيقولون عن السياسة بأنها فن الممكن أي دراسة وتغيير الواقع السياسي موضوعياً وليس الخطأ الشائع، وهو أن فن الممكن هو الخضوع للواقع السياسي وعدم تغييره بناء على حسابات القوة والمصلحة.
ويقول البعض الأخر من منطق ايدولوجي أن السياسة تعبر عن عملية صنع قرارات ملزمة لكل المجتمع، تتناول قيم مادية ومعنوية وترمز لمطالب وضغوط، وتتم عن طريق تحقيق أهداف ضمن خطط أفراد وجماعات ومؤسسات ونخب حسب أيدولوجيا معينة على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي.
ويعرف تيار فكري أخر أن السياسة هي علم يدير الدول والأنساق المجتمعية كما أنه ينظم العلاقات الدولية بطريقة تفاعلية وهو علم يدرس شكل الدولة بنظامها وأنساقها ومرتكزاتها وفواعلها والمتغيرات التي ترتبط بها.
ويتم الإشارة أحياناً للسياسة من قبل السلطويين والدولتيين بأنها علاقة بين حاكم ومحكوم وهي السلطة الأعلى في المجتمعات الإنسانية، حيث يقولون أن السلطة السياسية تعني القدرة على جعل المحكوم يعمل أو لا يعمل أشياء سواء أراد أو لم يرد. و أنها تمتاز بأنها عامة وتحتكر وسائل الإكراه كالجيش والشرطة وتحظى بالشرعية ولديها القانون. وكذلك يقولون بأن السياسة هي “العلاقة بين الحكام والمحكومين أو الدولة وكل ما يتعلق بشؤونها أو السلطة الكبرى في المجتمعات الإنسانية وكل ما يتعلق بظاهرة السلطة”.
مع أن كلمة السياسة وحسب بعض الليبراليين ترتبط بسياسات الدول وأمور الحكومات فإنها يمكن أن تستخدم ايضاً وحسب
مايقولون للدلالة على تسيير أمور أي جماعة أو تنظيم وقيادتها، ومعرفة كيفية التوفيق بين التوجهات الإنسانية المختلفة والتفاعلات بين أفراد المجتمع الواحد، بما في ذلك التجمعات الدينية والدنيوية والأكاديميات والمنظمات.
أما بعض العلوم السياسة فهي تربطها بدراسة السلوك السياسي وتفحص مجالات وتطبيقات هذه السياسة واستخدام النفوذ، أي القدرة على فرض رغبات شخص ما على الآخرين. و كما تعرف السياسة أيضا حسب عدد من الباحثيين بأنها: “كيفية توزيع القوة والنفوذ ضمن مجتمع ما أو نظام معين”.
وهكذا نرى أنه مازالت السياسة تجسد ظاهرةً اجتماعيةً ليست سهلة التحديد وكذلك الإدراك والفهم مثل العديد من المصطلحات التي اصابها التشويش والتزييف. ومفردة السياسة، التي تذكر بالمصطلحات الإدارة و السلطة والدولة ، ذات الأصولٍ الإغريقية، وتعني “إدارة المدينة” والبعض يربطها بفعل السائس كما العالم اللغوي الصاحب بن عباد حيث أنه يقول أن الوالي يسوس رعيته، و يقول وسُوِّس فلانٌ أمر بني فلان؛ أي: كُلِّف سياستهم.
من المهم الإشارة إلى تعريف الفيلسوف والقائد عبدالله أوجلان(Ebdullah Ocelan) عندما نريد تعريف السياسة كظاهرةٍ اجتماعية، حيث يقول أننا نستطيع تعريف السياسة بالقول أنها تحقيق تطوّر المجتمع من خلال إدارة شؤونه بحرية وإرادة معبرة عن حقيقته، وتأمين رقي الأفراد فيه وتحقيق توازن مسؤول بين الحرية الشخصية والحرية المجتمعية الكلية الجمعية. كما يشير أن النظر إلى السياسة على أنها مساحة حرية المجتمع ومساحة الخلق التي يزداد فيها التطور معنىً وإرادةً، هو أدنى وأقرب إلى حقيقتها الجوهرية. ويمكننا أيضاً المطابقة بين السياسة والحرية. وهنا يكون موضوع الحديث هو إدراك المجتمع لذاته ولهويته فكراً وممارسةً، وتطويره إياهما، ودفاعه عنهما.
تصل السياسة لاكتسابها هوية السياسة الديمقراطية عند بلوغها القدرة على الإدارة الذاتية في جغرافية ما أو لخصوصيات معينة، وعندما تحرف السياسة عن حقيقتها الجوهرية فبالإمكان تقييمها على أنها تحولت إلى حالة حكم السلطة، وتم إسقاطها في وضعٍ تنكر فيه لذاتها. ذلك أنّ ساحة السلطة هي الحقل الذي تنكر فية السياسة. بناءً عليه، فإن السياسة إلى جانب احتوائها لظاهرة الإدارة، إلا أنه لا يمكن حصرها بها فحسب. هذا ومحالٌ مطابقتها مع الإدارة الذاتية أو مع حكم السلطة.
إن حكم الدولة ليس سياسةً أو إدارةً سياسيةً كما تروج له الليبرالية والنظام العالمي المهيمن بإصرار. بل إنه يعني إنكار السياسة، وإقامة الحكم المزاجي للسلطة أو لحكم الدولة المضبوط بدلاً منها. ولا يمكن تعريف حكم الدولة بالسياسة، بل هو نوعٌ من أنواع حكم السلطة المضبوطة والمؤطّرة بمعايير. وفي كل الأحوال، فالسلطة تعني تفنيد السياسة ومحاولة إنهائها وتشويشها وتحريفها لخدمة أجندتها التحكمية والنهبية والربحية والتقسيمية.
من المهم الإشارة أن ساحة العلاقة بين السلطة والإدارة والسياسة هي الساحة التي أصابها التشوش الاصطلاحيّ بالأكثر في علم الاجتماع. إذ تستخدم هذه المصطلحات بالتداخل وكأنها متطابقة ومتلازمة، بحيث يحاك سقف علم الاجتماع بمنوالٍ خاطئٍ تسلسلياً. وعلم الاجتماع الذي ينتهل من الأيديولوجية الليبرالية، إنما يخدم تشويش العقول وتزييف الوعي بشكل كبير في هذا المضمار.
لدى إطلاق تسمية السياسة على كافة ممارسات الأنظمة التسلطية بصورةٍ خاصة، فإنه يتمّ التغاضي عن العناصر السياسية الفعالة و الصامدة من جهة، ويتم الحكم على الإدارات المحلية الذاتية والمنطقية للمجتمعات وكما القبلية البدائية من الجهة الثانية بكونها نزعةً محليةً ضيقةً قاصرةً عن التحلي ببعد الرؤية وعن تمثيل المصالح الوطنية الأساسية الداخلية منها والخارجية. ويعدّ تشوّش العقول والعربدة في هذا السياق في أعلى الدرجات. كما ويجري الحديث دونما أي تفكيرٍ عن تحقيق تطورٍ كبيرٍ على الصعيد السياسيّ، وعن بلوغ مستوى عصري ومتحضرٍ في السياسة؛ رغم إقصاء السياسة من المجتمع منذ أمدٍ بعيد، ورغم إحلال ألغاز السلطة المطابقة للخيانة محلّها.
لكن ما يسري في الميدان الاجتماعي الذي تتواجد فيه السياسة، هو المصالح الحياتية للمجتمع وتكويناته، وسلامته ورقيّه بنيةً ومعنىً. بينما المجتمعات التي تغيب فيها السياسة أو تضعف، لن تتخلص من المعاناة من سلطة الإبادة والاستعمار خارجياً، أو من استغلال وقمع النخبة السلطوية والطبقة الاستغلالية داخلياً. من هنا، فأعظم فضل وانبل عمل يمكن عملها من أجل مجتمعٍ ما، هو النهوض به إلى مستوى المجتمع السياسيّ. والأفضل من ذلك هو البلوغ به إلى ديمقراطيةٍ مستدامةٍ وبنيويةٍ تنشط فيها السياسة الديمقراطية على مدار الساعة دون إنتظار من أحد.
ومن عظيم الاهمية التأكيد على العلاقة بين السياسة والأخلاق وليس كما يروجها ويريده البعض من الدولتيين والسلطويين والباحثيين عن الربح الأعظمي كهدف اسمى في عكس ذلك في أن السياسة ليس لها أخلاق أو مبادئ وأنها لفئة وناس معينين ولرجالات الدولة فقط وذلك لإبعاد المجتمع عن السياسة وحرمانه من أهم قوة حياتية ودفاعية تحقق له الحرية والديمقراطية.
و هنا يمكننا حتى تعريف الأخلاق على أنها شكلٌ من أشكال السياسة التي تتخذ حالة التقاليد المؤسساتية التاريخية. فبينما تؤدي السياسة بالأغلب دور المبدع والحامي والمغذّي في المخطط اليوميّ، فإنّ الأخلاق تقوم بالخدمة عينها من أجل المجتمع القائم عن طريق القوة المؤسساتية والقواعدية للتقاليد. وبالمقدور تقييم الأخلاق بأنها الذاكرة السياسية للمجتمع. لذا، فالمجتمعات المنحطة خلقياً، أو التي تفتقر إلى الأخلاق، تدلّ على ضعف ذاكرتها السياسية، وتشير بالتالي إلى مدى فقدانها لقوتها المؤسساتية والقواعدية التقليدية. وهذا ما مفاده بالنسبة لمجتمعٍ ما افتقاره للدفاع الذاتيّ، وإسقاطه في حالةٍ ينفتح فيها على شتى أشكال الممارسات التحكمية والاستعمارية والصّاهرة داخلياً وخارجياً. من هنا، فالدافع الأوليّ خلف قيام أنظمة السلطة وكيانات الدولة بتعرية الأخلاق والنهش الدائم فيها، وخلف فرضها الإرادة القانونية أحادية الجانب (الشكل الأخلاقيّ للمهيمنين) على المجتمع بدلاً منها؛ هو النظر بعين الضرورة الحتمية إلى إقحام ذاك المجتمع في وضعٍ يغدو فيه منفتحاً على حكم السلطة والاستغلال دائمياً وبنيوياً، وذلك بعد تخريب السياسة والإدارة الذاتية الجوهرية فيه. ذلك أنه لا يمكن لمجتمعٍ يحيا أخلاقه وسياسته بقوة أن يذعن بسهولة للسلطة والاستغلال. كما إنّ أكثر حالات الأخلاق سلبيةً ورجعيةً وبدائية هي أثمن بالنسبة لمجتمعٍ ما من أكثر قوانين وأحكام السلطة والدول تقدماً. والمكان الذي يسود فيه المجتمع بأخلاقه وسياسته، ناهيك عن عدم جدوى السلطة والقانون فيه، بل يغدوان عبئاً يصعب عليه تحمّله. وبقدر تصيير مجتمعٍ ما أخلاقياً وسياسياً، فإنه يغدو بالمثل ديمقراطياً وحراً ومفعماً بالمساواة، وبالتالي يصبح مقاوماً ومنغلقاً على استغلال نخب السلطة واحتكارات رأس المال.
أما قيام علوم الاجتماع المستوحاة من الليبرالية بإسقاط السياسة إلى مستوى الديماغوجية، وتعريفها بشكلٍ خاص للأحزاب التي هي نماذجٌ مصغّرةٌ من الدولة على أنها أدواتٌ ديماغوجيةٌ أساسية؛ فلا يقتصر فقط على كونه إساءةً وخيانةً للعلم وباسم العلم، بل ويتأتى من وظيفته في خدمة احتكارات السلطة والاستغلال بأداء دوره الذي يعترف له به عن وعي.
وبالتالي نلاحظ أن السياسة ورغم تعرضها للتشويش الاصطلاحي والتزييف المقصود إلا أنها بحقيقتها الجوهرية وبأبعادها الصحيحة وبمصطلحها ومفهومها الخالي من الشوائب و من التشويش تشكل قوة اجتماعية وحياتية جبارة لاغنى للمجتمعات وشعوب المنطقة وبلدانها عنها وبل أن السياسة المجتمعية الديمقراطية الواجب ومن الضروري ممارستها في الوحدات والاتحادات والتشاركيات والمؤسسات والمجالس المجتمعية الديمقراطية تشكل الضمان والوسيلة لقيام المجتمعات والشعوب وبلدان المنطقة في تفعيل طاقات كافة أبنائها دون أقصاء أو تهميش لأحد، وحل كافة القضايا العالقة ومواجهة التحديات الداخلية والخارجية المختلفة وكذلك الوصول إلى الحرية والديمقراطية في ظل مجتمع قوي وديمقراطي قادر على الدفاع الذاتي وممارسة حريته والحفاظ على كرامته وتحقيق تنميته واقتصاده المجتمعي القوي.