الحدث – القاهرة
بعد سقوط أو انهيار الاتحاد السوفيتي في التسعينات ولأسباب متعددة ومختلفة، أصبح النظام العالمي الذي تشكل بعد حرب العالمية الأولى والثانية أحادي القطب وهو مستمر إلى اليوم الحالي، وهو في الوقت نفسه يشكل امتداد لنظام الهيمنةالسلطوي والدولتي والذكوري الذي تشكل أول مرة منذ أيام السومرين من صارغون الأكادي إلى الرئيس الامريكي الحالي بايدن ، وإن تبدلت الجغرافيات وتغيرت القوى المركزية فيها بين الشرق والغرب، بسبب توفر وعي الحقيقة في الجغرافيات الجديدة التي كانت تنتقل لها نظام الهيمنة العالمي. إلا أنه مازال يحتفظ بالأهداف نفسها وإن تبدلت الأدوات في النهب والهيمنة.
منذ حوالي ثلاث عقود ويعيش نظام الهيمنة العالمي حالة الأزمةوتحديداً الحداثة الرأسمالية التي تمتد جذورها واصطلاحها إلى القرن السادس عشر في أوربا ومع حروب الثلاثين سنة التي مرت بها وتبلور بعدها الدول القومية، كوسيلة ناجعة ومحققة لأهداف الدولتية والسلطة والهيمنة والنهب وبالضد من المجتمعات والشعوب أو بالتمويه على أهدافها الحقيقة في حالة الخداع والتضليل .
إن الحرب الحالية التي تجري في أوكرانيا منذ أسبوع بين روسيا ودول حلف الناتو ، هي امتداد للحروب في الشرق الأوسط و المنطقة عامة كما هي أفغانستان والعراق وسوريا واليمن وليبيا والصومال وأرمينيا وازربيجان وغيرهم و علاوة على أنها استمرار لحالات الأزمة في بلدان المنطقة والعالم المختلفة وحالة الإبادة وممارسات التطهير العرقي والثقافي والتغير الديموغرافي التي تمارسها تركيا بحق الشعب الكردي وتدخلها واحتلالها لبعض بلدان المنطقة و حالة التدخل الإيراني ونفوذها وأذرعها . وذلك كون نظام الهيمنة العالمي يعاني من أزمات بنيوية حادة مختلفة وفي كافة المجالات الفكرية والسلوكية ولا يستطيع الاستمرار والبقاء من دون افتعال وإشعال فتيل الحروبوالأزمات وإفساح المجال لأدواتها في المنطقة والعالم بخلق الحروب وحالات الفوضى وتهيئة ظروف للإرهاب والقتل المختلفة.
إن الحرب في أوكرانيا هي حرب داخل نظام الهيمنة العالمي الواحد وليس صحيحاً وصفها بأنها حرب بين قطبين حيث أن روسيا الآن ليست الاتحاد السوفيتي وحتى أمريكا ليست كما كانت قبل حوالي 30 سنة. وبل نستطيع القول أنه من يعتقد أن هناك قطبين ويستطيع ان يعتمد على أحدهم في مقابل الأخر وبذلك يحقيق أهدافه والاستمرار في مصالحه وسلطاته فهو واهم وكما أنه سوف ينتهي ويعاني اصعب الظروف كون هذه القراءة ليست صحيحة وناقصة وتجسد حالة الابتعاد عن الذات والثقة بالشعوب والمجتمعات، ولعل حالة الإدارة الأوكرانية ورئيسها زيلينسكي الآن وهي تعد أيامها بعد أن كان السبب في ماحصل لأوكرانيا كونه ظن أنه يستطيع و بالاعتماد على الناتو والمنظومة الغربية في البقاء والحكم ومواجهة الطرف الروسيوفرض شروطه عليه. لكن ما حصل هو أنهم تركوه وحده يصارع الموت والانتهاء وهم يترقبون المشهد ويصفقون له وهو يدمر بلده وشعبه بسياسته وسلوكه.
إن كمية الزخم الأوربي والغربي لدول الناتو ومن يدور في فلكه في إرسال الأسلحة والذخائر وفرض العقوبات على روسيا والتهيج الإعلامي والتجيش لا يعبر إلا عن أن الناتو وأمريكا يريدون تحويل أوكرانيا إلى بؤرة توتر ومستنقع ليتم استخدامه لتحقيق الأهداف المطلوبة ومنها أن يبقى ويستمر النظام العالمي وربما إعادة ترتيب بعض الأدوات وإعادة تشغليها وتموضعها وإعطائها أدوار جديدة حسب المرحلة الجديدة وكذلك استمرار ضخ القيم والأفكار والسلوكيات أي الحداثة التي تخدم أهمية ووجود نظام القطب الواحد ومؤسساته الدولية والإقليمية التي اصبحت لامعنى لها سوى إعطاء الشرعية لنظام القطب الواحد وتسهيل أموره وسياساته.
إن الهجمات الروسية لا تملك المبررات والحق وكذلك موقف الناتو وأمريكا والاتحاد الأوربي ليس صحيحاً من الأزمة والحرب، ولعل الأخطر هو موقف حكومة زيلينسكي التابع للغرب والذي لا يعبر بالضرورة عن إرادة الشعب الأوكراني. إنها حرب الهيمنة والاحتلال وتقاسم النفوذ والربح بين القوى الدولية في أوكرانيا وليس صحيحاً أو مطلوباً أو مجبوراً من أحد الوقوف مع أحد الطرفين المتصارعين.
إن مفهوم الاستقلال للدول القومية والسيادة غير صحيحة فهم أدوات ومؤسسات عميلة لنظام الهيمنة العالمية ولا يوجد دولة قومية إلا ويتم ربطها وأخذ شرعيتها ووجودها من نظام الهيمنة العالمية وكلامها عن الاستقلال والسيادة هراء ونفاق كبير. فأين هي الاستقلال والسيادة الأوكرانية ولماذا كل هذه التبعية من قبل حكومة زيلينسكي وأمثالها لنظام الهيمنة العالمية والملاحظ أنه تم ترك زيلينسكي وحيداً رغم كل تعويله وأرتباطه بنظام الهيمنة العالمية ودولها وقواها المركزية. ولماذا هذا التدخل والتجاوز الروسي إن كان هناك شيء اسمه السيادة للدول. ولعل كان من الممكن تجنب كل هذه الوضع لو كانت القيادة الأوكرانية تعتمد على مصالح شعبها دون خضوعها للأجندات الخارجية ومع اختيارها الخط الثالث بين الجهتين وليس التبعية لإحداها إن تم تركها طبعاً من قبل روسيا والناتو.
لقد اصاب أردوغان والسلطة التركية التوتر والقلق وحتى الذعر من مصير ووضع زيلينسكي والحكومة الأوكرانية وحالة أوكرانياالتي تركت لوحدها مع بدء الحرب ولعل أردوغان ظن ويظن نفسه التالي كونه يمشي في طريق زيلينسكي، كما أن تركيا هي الدولة الثانية التي تعاني و ستعاني من أكثر تحديات الحرب في أوكرانيا نظراً للترابط والموقع الجغرافي وحالة الاقتصاد التركي وتفاعله مع روسيا وأوكرانيا علاوة على إمكانية تقليص المساحة الرمادية التي يلعب بها أردوغان بين أمريكا وروسيا في العديد من ملفات المنطقة والعالم وتدخله واحتلالها لشعوب ودول المنطقة ووجوده على البحر الاسود ووجود المضائق في تركيا.
رغم أن السلطة التركية تحاول أن تمشي مع جهتي الحرب وتعطي إنطباع ورسائل أنها في المنتصف بين الجهتين المتصارعتين ، لكن من الوارد ومع ارتفاع حدة الاشتباكات والاستقطابات وفرض العقوبات والدعم اللوجستي والعسكري والأمني وتزايد التوتر في العلاقات ومحاولة استخدام كل طرفلأوراقه ضد الأخر في الحرب، أن لا تستطيع السلطة التركية أن تكمل مشوارها في الملعب الرمادي ولابد من الرجوع إلى مشغلها الأساسي وهو حلف الناتو وأمريكا وهو الأرجح أو المسير مع الدب الروسي وإعطاء إنطباع مختلف بانه حيادي وهنا ستكون تركيا ومستقبل السلطة وخاصة أردوغان في مفترق طرق ووضع صعب وربما كل تركيا وكيان الدولة ستكون في مهب الريح وستصبح سوريا الثانية.
إن تداعيات حرب الهيمنة والنهب والتقسيم والنفوذ الدولي والإقليمي في أوكرانيا يصيب كل دول المنطقة والعالم وشعوبها ومجتمعاتها وفي النواحي المختلفة من الاقتصادية والسياسية والعسكرية والأمنية وحتى الثقافية والاجتماعية، من تدهور العملات الوطنية وارتفاع الأسعار وغلاء المعيشة والحاجة للقمح وللسلع المختلفة وحالات منع الأجواء أمام الطيران لبعض الدول إلى العقوبات التي تتزايد بشكل يومي وبشكل متبادل بين طرفي الصراع مما سيجلب اثار سيئة كبيرة إن لم تتوقف هذه الحرب ومناكفاتها وصراعاتها الجانبية التي تتزايد و التي من الصعب أن تتوقف في فترة قصيرة أو متوسطة .
لا يفترض من شعوب ودول المنطقة أن تكون مجبورة الاختيار في الوقوف مع أحد طرفي الصراع في أوكرانيا، بل أن الوقوف مع أحد الجانبين هو موقف غير صحيح كون الصراع هو ليس حق وباطل أو فقط احتلال، بل ان هناك نظام هيمنة عالمي باطلومتجاوز على الشعوب والمجتمعات والبلدان ويجري الصراع بين قواه ومراكزه للتفرد والاستحواذ بالنفوذ والسيطرة والهيمنة والنهب. ولو اخذنا مثلاً موقف حكومة دمشق و المعارضة المحسوبة على تركيا والتي يقودها الأخوان كنموذج للمواقف الفاشلة والتابعة للقوى الخارجية وغير المدركة لحقيقة الحرب في اوكرانيا . فمنذ اليوم الأول أعلن سلطة دمشق وقوفها مع موسكو واعترافها بالجمهوريتين الإنفصاليتين مع العلم أن نفس السلطة ومنذ عشر سنوات ترفض اي مبادرة لحل الأزمة السورية وبل تصف كل مبادرات الإدارة الذاتية ضمن الدولة والجغرافية والحدود والشعب السوري والدولة الواحدة بتهم الانفصال والتقسيم المختلفة والغير صحيحة ، طبعا موقف سلطة دمشق يبين مدى تبعتيتها لروسيا وبعدها عن تمثيل إرادة الشعب السوري ومصالحه كما أن الأخوان السورين وبدون أي نقاش يقفون مع السلطات في اوكرانيا من باب ان راعيهم ومشغلهم ومرشدهم الأكبر أردوغان يريد ذلك من تحت الطاولة وباستحياء والملاحظ ايضاً أن نفس هذه المجموعات التي شاركت وكان فوق الدبابات التركية وتحت طائراتها المسيرة عندما احتلت تركيا شمالي سوريا ومنها عفرين وسري كانيه(رأس العين) و كري سبي (تل أبيض) والباب وجرابلس واعزاز ومارع وإدلب وهي الآن تتكلم عن الاحتلال وما تسميها الغزو الروسي ، وكأن احتلال عفرين وتهجير أهلها لم يكن غزو واسوء من ممارسات روسيا في اوكرانيا ، علماً أن القوى الديمقراطية والوطنية السورية مثل الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا وحسب ماهيتها واهدافها تتبنى الحلول السياسية والديمقراطية لمختلف القضايا والمشاكل المحلية والدولية وليس الدخول في اصطفافات خاطئة بعيدة عن مصالح الشعب السوري.
علينا الإشارة إلى نقطين هامتين الأولى هي تهديد روسيا الناتو والغرب بالردع والقوى النووية وهذه إن دل على شيء فهو يدل على حدة التصاعد المتزايد وشعور روسيا بأن هناك ما يحاك ضدها في الخفاء وهي تعلم ذلك وتخاف أن تتحول اوكرانيا إلى مستنقع لها وحالة استنزاف لقواتها واقتصادها إن طالت أمد الحرب في أوكرانيا في ظل الدعم الغربي لأوكرانيا.
والنقطة الثانية ما تم إعلانه بتشكيل كتائب أممية في أوكرانياومن الدول المختلفة ومنها دول الاتحاد الاوربي وبذلك السماح للشركات الأمنية بالتواجد ودخول الحرب الأوكرانية بالمقابل مع الأنباء بوجود عمل وتحركات لشركة فاغنر الروسية علاوة على بعض الأنباء والأصوات التي بدأت تتعالى من بعض الجهادين والإخوان الإرهابيين وكذلك تيارات الإسلام السياسي بضرورة مساعدة ما يسمونه “مسلمي أوكرانيا“ ضد روسيا، وهذا مايرجعنا إلى الحالة الأفغانية التي اخرجتها مخابرات نظام الهيمنة العالمية وبالنتيجة توافقت وتركت لها افغانستان في النهاية لتكون خاصرة رخوة في الجنب الروسي والصيني، وبؤرة توتر كبيرة تستخدمها عند اللزوم ، فهل تكون أوكرانيا بؤرة توتر وإرهاب جديدة، ربما يريدها البعض كذلك من بعض القوى المركزية والإقليمية في نظام الهيمنة العالمية.
ما تفعله روسيا في أوكرانيا فعلتها أمريكا وأدواتها في العديد من دول العالم فكيف احتلت تركيا شمالي سوريا وشمالي العراق وغرب ليبيا و كيف تدخلت في العديد من دول المنطقة وبل تحارب تركيا الشعب الكردي في باكور كردستان(جنوب شرق تركيا) منذ مئة سنة وبل أن تركيا استخدمت وفي مرات عديدة وأخرها منذ حوالي23 نيسان\أبريل الماضي الأسلحة الكيميائية بحق المدنينوالقرى والمقاتلين الكرد مع صمت مخزي وتواطؤ من كل الذين يتشدقون الآن بان روسيا تحارب وتغزو أوكرانيا. بل أن تركيا تحرم السجناء الكرد وعلى رأسهم القائد والمفكر عبدالله أوجلان من حقوقه الإنسانية وتفرض عليه منذ عام 2011 العزلة والتجريد عليه في خرق لكل القوانين والمواثيق الدولية والقانونية علاوة على سجن تركيا أكثر من 12 ألف من النشطاء الكرد واعتقالها البرلمانين ورؤساء البلديات المنتخبين مع تهديم تركيا للعديد من المدن والقرى في عام 2015 و 2016 وبقصف المدافع والدبابات والطائرات الحربية كمدن سور آمد ونصيبين وجزيرا وكفر وغيرهم دون أي إجراء من هؤلاء الذين يعارضون الحرب الروسية وهم في حالة نفاق وكذب وازدواجية واضحة وكبيرة.
إن الحرب في أوكرانيا ومع خطورتها وتأثيراتها على المنطقة واحتمالية قيام بعض القوى الإقليمية بالتحرك لتحقيق بعض المكاسب في وقت إنشغال العالم بأوكرانيا ، إلا أن البعض من نفس هذه القوى باتت تشعر بالخوف مع تأكيد احتمالية قيام نظام الهيمنة العالمية بإعادة ترتيب بعض الاوراق والنظم وحتى إعادة التموضع لنفسها وأدواتها وحاملي أجندتها مع تغير الظروف والشروط والأدوار المؤكلة للقوى الإقليمية والتعامل مع الكيانات والقوى الفعالة من غير الدول في المنطقة.
وهكذا نرى أن الحرب في أوكرانيا فصل من فصول الحرب العالمية الثالثة التي لا تنتهي إلا بخلاص البشرية من هذا النظام العالميالذي ينتج الأمراض وتدمير البيئة والطبيعة والحروب والأسلحة المدمرة والفتاكة والنووية المختلفة فقط لضمان واستمرار هيمنتها ونهبها على المنطقة وشعوبها والعالم وتحكمها في ظل وعي متزايد يكبر مع نشاط الحركات والتيارات المجتمعية والديمقراطية التي تطرح البدائل المجتمعية والديمقراطية لنظام الهيمنة العالمية ومنهم نظام الكونفدرالية الديمقراطية واتحاد الأمم الديمقراطية وبالمجمل الحداثة الديمقراطية كبديل لنظام الهيمنة العالمي (الحداثة الرأسمالية). وهكذا لن تنتهي الحروب والاباداتإلا بالخلاص من أنظمة الحروب و أدواتها من الدول القومية و الذهنيات والسلوكيات الدولتية والسلطوية والذكورية التي تنظر للحياة والطبيعة بكونها شيء ومفعول به وأداة فقط وليس حالة حياة مختلفة يستوجب الاحساس والتفاعل والتكامل معها في ظل الاحترام والاعتراف المتبادل وليس الربح والهيمنة .
أسبوعين مضت
3 أسابيع مضت