الحدث – القاهرة
لطالما كان الشرق الأوسط منطقة محورية ومحددة لهوية المهيمن العالمي في تاريخ البشرية، حيث تعددت فيه الحضارات الكبرى والثقافات العريقة، وتعايش وتكاملت الشعوب والتكوينات الاجتماعية التي تركت آثارًا عظيمة على مر العصور. بيد أن هذا الشرق، الذي كان مهداً للثورة النيولتية، وللديانات السماوية، وثقافات غنية، يعاني في العصر الحديث من تناقضات حادة بين رغبات السلام ومخاطر الحرب. فلا يكاد يمر عام دون أن يتصدر مشهد الحرب والعنف عناوين الأخبار في معظم بلدان هذه المنطقة، ليبدو السلام والاستقرار وكأنهما حلم بعيد المنال. فما أسباب هذا التناقض؟ وهل هناك أمل في أن يصبح الشرق الأوسط يومًا ما منطقة سلام؟
للإجابة على هذه الأسئلة، علينا أن نفهم العوامل التاريخية، السياسية، والاقتصادية التي أسهمت في إدامة هذه الحروب والصراعات، وكذلك علينا البحث عن بديل لحالة الأزمة وحداثة حياتية تحقق السلام.
الشرق الأوسط هو مسرح لتاريخ طويل ومعقد، يمتد من العصور القديمة حتى العصر الحديث. مرت المنطقة بالعديد من التغيرات السياسية والاقتصادية التي شكّلت ملامح الواقع الحالي. في العصور الوسطى، كانت المنطقة مركزًا للعالم الإسلامي، وازدهرت فيها ثقافات ومجتمعات مختلفة تحت حكم الإمبراطوريات الإسلامية مثل الأمويين، العباسيين، الفاطميين، والأيوبيين.
لكن هذا الشرق، ومع ضعف وعي الحقيقة في القرن الثاني عشر، ومع مجيء الاستعمار الأوروبي في القرنين التاسع عشر والعشرين، وبالموافقة الروسية الصينية والتقاسم معهم إلى حدٍّ كبير، بدأت الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط تتغير بشكل كبير. فقد قسمت القوى الاستعمارية الكبرى حينها، مثل بريطانيا وفرنسا، المنطقة وفقًا لمصالحها، وأوجدت نظمًا قومية أحادية مركزية، وحدودًا جديدة بين الشعوب والدول لم تكن موجودة من قبل. هذه الحدود، التي رُسمت دون مراعاة للتركيبة العرقية والدينية للشعوب، أدت إلى ظهور صراعات دامية بين مختلف المجموعات الإثنية والدينية.
في القرن العشرين، أدت عوامل عدة إلى تصاعد النزاعات في المنطقة، مثل تأسيس دولة إسرائيل عام 1948، الذي أحدث تغييرات كبيرة في العلاقات بين العرب وإسرائيل. كما كانت الحروب العربية-الإسرائيلية، بالإضافة إلى الحرب العراقية-الإيرانية في الثمانينيات، والحروب الخليجية، وكذلك تأسيس تركيا عام 1923، وتقسيم الكُرد وبقائهم بدون حقوق بين أربع دول، وإخراجهم من كينونتهم الكردية، من أبرز المحطات التي عكست مدى تعقيد الوضع السياسي في المنطقة.
أحد الأسباب الرئيسية لاستمرار النزاعات في الشرق الأوسط هو التداخل بين العوامل الداخلية والخارجية. فالنزاعات العرقية والطائفية قد تكون قديمة في بعض الأماكن، لكن التوترات السياسية والاقتصادية التي نشأت مع الاستعمار، والتي لا تزال قائمة اليوم، تلعب دورًا مهمًا في تأجيج هذه النزاعات. كما أن غياب الديمقراطية والعدالة، ووجود منظومات الفساد والاستبداد على رأس حكم الدول والشعوب، وعدم وجود مساحات كافية للتعبير الحر والعمل المجتمعي.
على سبيل المثال، في العراق وسوريا ولبنان، كانت التوترات الطائفية بين السنة والشيعة، بالإضافة إلى تأجيج الفتن والصراعات العرقية بين العرب والكُرد، والتي أشعلتها السلطات البعثية في العراق وسوريا، من العوامل التي أسهمت في اشتعال النزاعات المسلحة. وعندما اندلعت الثورة السورية عام 2011، أصبحت البلاد مسرحًا لصراع غير مسبوق بين جماعات المعارضة والنظام. لكن الحرب جذبت أيضًا العديد من القوى الأجنبية التي دعمت أطرافًا مختلفة، بما في ذلك الولايات المتحدة، وروسيا، وإيران، وتركيا، مما جعل الوضع أكثر تعقيدًا.
أما في فلسطين، فإن الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين، الذي يعود إلى بداية القرن العشرين، يُعتبر من أكثر النزاعات المستمرة والدامية في العالم، كما هو حال الحرب التي تشنها الدولة التركية ضد الكُرد. فإسرائيل ترى في نفسها دولة مستقلة وقوية تحتاج إلى ضمان أمنها في التوسع ومواجهة ما تصفه بالتهديدات من قبل جيرانها. أما الفلسطينيون، فإنهم يرون أن حقوقهم المسلوبة من قبل الاحتلال الإسرائيلي هي مصدر رئيسي لمعاناتهم.
من العوامل التي تزيد من تعقيد الصراعات في الشرق الأوسط هو تدخل القوى الكبرى في شؤون المنطقة. في الواقع، أصبحت المنطقة ساحة نزاع بين قوى عظمى تسعى إلى حماية مصالحها الاستراتيجية. فالولايات المتحدة وروسيا، على سبيل المثال، لعبتا أدوارًا كبيرة في الشرق الأوسط من خلال حروبهما في العراق وأفغانستان وسوريا ومعظم دول المنطقة، وكذلك دعمهما لإسرائيل وتركيا وتحالفاتهما مع بعض الدول العربية المحورية.
من جهة أخرى، تسعى تركيا إلى تعزيز نفوذها في المنطقة من خلال دعم جماعات الإسلام السياسي للوصول إلى الحكم، بينما تلعب إيران دورًا مهمًا في دعم الجماعات المسلحة في لبنان (حزب الله)، والعراق، وسوريا، واليمن.
هذه التدخلات الأجنبية لم تقتصر على الحروب المباشرة، بل شملت أيضًا تمويل الأنظمة والأحزاب السياسية في بعض الدول، ودعم بعض الجماعات المسلحة. وهو ما يساهم في إشعال الفتن بين القوى المحلية ويفاقم الأزمات الإنسانية.
الشرق الأوسط، رغم أنه يحتوي على العديد من الثروات الطبيعية مثل النفط والغاز، يعاني من اقتصادات هشة وفقر شعبي، ومتأثرة بشكل كبير بالصراعات المستمرة. الحروب تدمر البنية التحتية، تقتل الآلاف من المدنيين، وتؤدي إلى تهجير الملايين من السكان. كما أن الحروب تؤدي إلى تصاعد معدلات البطالة والفقر، مما يجعل عملية إعادة بناء البلدان بعد الحرب أمرًا معقدًا للغاية.
في سوريا، على سبيل المثال، دمرت الحرب أكثر من 70% من البنية التحتية، بما في ذلك المدارس والمستشفيات. ونتيجة لذلك، يعاني ملايين الأشخاص من نقص حاد في الخدمات الأساسية مثل التعليم والرعاية الصحية. وقد أدت الحروب في اليمن وليبيا إلى خلق أزمات إنسانية غير مسبوقة، مما جعل العديد من المواطنين في تلك البلدان يعتمدون على المعونات الدولية للبقاء على قيد الحياة.
وكذلك في تركيا، فإن السبب الرئيسي للتدهور الاقتصادي، وانهيار العملة، والتضخم، والإفلاس، وزيادة الدين، هو الحرب المستمرة منذ 40 عامًا ضد الشعب الكردي وحزب العمال الكردستاني.
بالرغم من التعقيدات والصراعات المستمرة في المنطقة، هناك أمل في أن يتحقق السلام يومًا ما. ولكن هذا السلام لن يأتي إلا إذا كانت هناك إرادة سياسية حقيقية من جميع الأطراف المعنية، ورؤية نافذة، ومشروع سياسي ديمقراطي.
أظهرت بعض التجارب الناجحة أن الحلول السياسية السلمية يمكن أن تكون فعّالة إذا كانت الأطراف مستعدة للتفاوض على مصالحها المتبادلة.
إضافة إلى ذلك، تُعتبر المنظمات الإقليمية مثل جامعة الدول العربية، ومنظمة التعاون الإسلامي، والاتحاد الإفريقي من الجهات التي يمكن أن تُسهم في تسوية النزاعات، ولكن يجب أن تكون هذه المنظمات قادرة على العمل بفعالية، بعيدًا عن التنافسات السياسية التي تعيق الحلول.
ومن المهم أن تكون قوى الديمقراطية والحرية في مجتمعات وشعوب المنطقة هي المبادِرة والمتواجدة في صدارة مشهد السلام، لأنها القوى الأساسية الراغبة في بناء السلام الحقيقي القائم على الحرية والديمقراطية والاستقرار.
من المهم أيضًا أن تتم عملية السلام مع التركيز على بناء المؤسسات الديمقراطية، وتغيير الذهنية الأحادية إلى التشاركية والاحترام المتبادل، وتحقيق العدالة، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية في دول المنطقة.
فبدون تحقيق الحرية، وضمان حق الحماية للمجتمعات والشعوب، وتحسين الظروف المعيشية للمواطنين، لن يكون هناك أساس مستدام للسلام. على سبيل المثال، يمكن للسياسة الديمقراطية، وتهيئة الأرضية القانونية والسياسية لخصوصيات المجتمعات والشعوب ضمن الدولة الواحدة، وتحسين الاستثمارات في التعليم، والرعاية الصحية، والبنية التحتية، أن تلعب دورًا مهمًا في خلق بيئة مستقرة وسلمية.
الشرق الأوسط اليوم يقف عند مفترق طرق. فبينما تبدو الحروب والصراعات مستمرة في كثير من دوله، فإن هناك إشارات أمل صغيرة تشير إلى إمكانية الوصول إلى السلام، كما عبّر عنها مسؤول الأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش في معرض تعليقه على نداء السلام والمجتمع الديمقراطي للمفكر والقائد عبد الله أوجلان.
لتحقيق هذا السلام، يجب على جميع الأطراف المعنية أن تتخذ خطوات جادة نحو التفاهم المتبادل، وأن تضع حدًا للتدخلات الخارجية التي لا تؤدي إلا إلى إدامة الصراعات.
السلام في الشرق الأوسط ليس مستحيلًا، لكنه يتطلب تضافر الجهود من الداخل والخارج، ورؤية جديدة متكاملة، ومشروعًا حقيقيًا يقوم على الحرية، والديمقراطية، والعدالة، والمساواة، والتنمية المستدامة، كما هو مشروع الأمة الديمقراطية، البديل للدولة القومية الأحادية، الاستبدادية، والتابعة للنظام الرأسمالي العالمي.