الحدث – القاهرة
كانت حواف سلسلة جبال زاغروس وطورس بشكل عام وخاصة ميزوبوتاميا وبالمركز منها موطن الشعب الكردي (كردستان) المقسمة حاليا بين أربعة دول( جنوب شرق تركيا، غرب إيران، شمال العراق، شمال سوريا) مهداً للعصر النيوليتي أول مرة في العالمً بسبب مناخها وجغرافيتها وثقافتها النباتية والحيوانية، وتوفر مواردها المختلفة، وهي الساحة التي تحققت فيها ثورة الزراعة والقرية، ومن خلال التنقيبات الأثرية في خرابي رشكي (كوبكلي تبه) القريبة من مدينة أورفا (رها) على الحدود التركية والسورية الحالية و التنقيبات في مغارة دو دري(مغارة البابين ) في عفرين المحتلة والعديد من الأماكن في آمد(ديابكر) وهولير(أربيل) وأكبيتان(همدان) واكتشاف تواجد أقدم معبد في كوبكلي تبه واللغة الرمزية وغيرها من الأكتشافات، تؤكد بأنها تمتلك ثقافة مستقرة وشبه كاملة تمتد جذورها إلى الألف الحادي عشر قبل الميلاد، بحيث لا يوجد تاريخ أقدم منه في العالم.
إن وجود الموارد المعدنية في كردستان واكتسابها لأهمية كبيرة أدى إلى تعرضها لغزوات واحتلالات كثيرة، وأدت الضغوطات من الأطراف الأربعة إلى بقاء هذا الشعب الكبير الذي خلق العصر النيوليتي في وضع دفاعي باستمرار، وهكذا فإن المصدر الأساسي الذي خلق الحضارة وانتشر عند السومريين والمصريين والهنود والصين وغيرها قد أصبح أسيراً لها ، وهذا يفسر بشكل أفضل سبب بقائه على شكل عشائر متصلبة ، لأنه لا يمكن الدفاع عن النفس في الظروف الجبلية إلا على شكل وحدات عشائرية ، ويمكن الوصول إلى النظام الكونفدرالي كأقصى حد للتطور، وهكذا لم تكن الظروف مواتية لإنشاء مراكز حضارة مدن قوية ، إذ أدت جغرافيتها التي كانت في وضع قلعة متنامية في الشرق الأوسط إلى لعبها دور موقع الدفاع الطبيعي ، إن تلك الظروف تشرح كيفية وصول الأصالة الثقافية منذ عشرة آلاف سنة حتى يومنا هذا. وقد حصل اتفاقيات وتحالفات وكونفدراليات للشعب الكردي مع الشعوب المجاورة لدرء المخاطر والدفاع وخلاص المنطقة من الكثير من الأنظمة والإمبراطوريات التي شكلت وجودها ظلم وطغيان ومصيبة لشعوب المنطقة.
لقد تعرض الكرد وبلادهم لجميع غزوات وفي مختلف العصور ، وإذا بدأنا من كلكامش السومري نرى أن البابليين والآشوريين والبارسيين والهلينيين والرومان والساسانيين والبيزنطيين والعرب والأتراك والمغول قد قاموا بمحاولات احتلال المنطقة تسلسلياً ، لكن النظام الأساسي بقى هو النظام العشائري ، وواصلوا هذا الميراث حتى يومنا هذا بالصراع فيما بينهم والتوحد في بعض الأحيان . أظهرت الإمارات الكردية تطوراً متميزاً في عصر الإقطاعية وخاصة مع الخلافة العباسية وبعدها ، ولعبت أغلبيتها دوراً على شكل دول وحكومات محلية أو إدرات ذاتية ، وعاشت حالة اتفاق لمدة أربعمائة مع العثمانيين ، وكان دورهم قوياً في الإسلام والحضارة الإيرانية ما قبل الإسلام على مستوى شخصيات وسلالات بارزة وقوية ، وتعرضت الطبقة الكردية العليا لصهر كبير بينما حافظ الوجود العشائري على ثقاقته ، فلعبت الإقطاعية لأكثر الأدوار رجعية ، مهدت السبيل امام النتيجة العكسية التي نجمت عن التمردات في المرحلة الرأسمالية.
عند توافد ودخول الأتراك إلى الأناضول لعب الكرد دور قوة داعمة أساسية في انفتاح الإمبراطورية العثمانية نحو الشرق والجنوب وحتى صراعها مع الصفويين ، مقابل الحرية العشائرية وبقاءهم على مستوى حكومات محلية وإدرات ذاتية ، وكان تمزقهم بعد الحرب العالمية الأولى في غير صالحهم ، كذلك شاركوا في حرب التحرير وإنشاء الجمهورية بقيادة مصطفى كمال أتاتورك ، كعنصر أصيل وشعب منقذ ومؤسس، ثم دخلوا مرحلة التمرد مرة أخرى بعد أن قام النظام الجمهوري بتخريب نظام الإمارة والعشائر والتراجع عن العهود والألتزامات وأدى ذلك إلى حالات إبادة وتغيير ديموغرافي و وضع تخريبي كبير بالنسبة لهم . في الوقت ذاته واجه الكرد وضعاً إنكاراً وقمعياً كبيراً نتيجة للتمردات التي قاموا بها، من قبل السلطات العربية في العراق ، و السلطات الفارسية قبل وبعد ما تسمى الثورة الإسلامية في إيران و ومع الإنكار في سورية من خلال المفاهيم القومية والدولة المركزية ، وتعرض الكرد فيما بعد إلى مرحلة تذويب كبيرة .
تحرص قوى الهيمنة العالمية وتوابعها الإقليمية ببذل المساعي في يومنا الراهن لإبقاء الشعب الكردي في موقعه المسحوق في المنطقة و الشرق الأوسط ، ويعتبر تمزقهم ووجود النظام الإقطاعي والعشائري أكبر سبب لبقائهم متخلفين ، ولم يستطيعوا التخلص من كماشة الضغط الداخلي والخارجي ، ولم تلعب الإيديولوجية الدينية والقومية دوراً إيجابياً في تطورهم السياسي كما حدث عند الشعوب المجاورة، ففي الوقت الذي حول الدين ومفهوم القومية كل من العرب والفرس والأتراك الى دول بتقويتهم كقومية ووطن ، أما بالنسبة للكرد ، فإنها لعبت دوراً أساسياً في قمعهم واضطهادهم وصهرهم ، ولم يستطع الكرد جعل الدين الإسلامي الإقطاعي أو الإيديولوجية القومية الرأسمالية رافعاً و دليلاً قومياً لهم ، كما لم تسفر محاولاتهم سوى عن ترويضهم . ويعيش الكرد کشعب فقير ومظلوم نتيجة تعرضه لخيانة الحضارات أكثر من غيره ، وتتم تغذية الضعف القومي والاجتماعي بالقيم الإقطاعية والعشائرية دائماً ، حيث لم يستطيعوا الارتقاء إلى مواقع قومية واجتماعية أكثر سمواً .
تظهر هذه التعريفات والتمهيدات أن التحول الديمقراطي هو المخرج الوحيد للشعب الكردي من حيث الماضي والحاضر ، حيث يُعتبر التجاوز العام للدين والقومية وانهيار العشائرية والإقطاعية بسرعة، من الظواهر الأساسية التي تزيد إمكانية التحول الديمقراطي للكرد، وتؤثر مقاييس الحضارة الديمقراطية المتصاعدة في كل العالم على هذه المرحلة بشكل أكثر، كما إن إرغام العراق على التحول الديمقراطي من قبل العالم، وإسلامية إيران الديمقراطية ، والتحول الديمقراطي المعاصر في تركيا وضرورة التسوية السياسية الديمقراطية في سوريا، واللامركزية بشكل عام ، يشكل تحولاً إيجابياً في الإطار الذي يحيط بهم ، كافة هذه التحولات الخارجية والداخلية الهامة تتيح إمكانية إيجاد حل بالمعايير الديمقراطية للكرد لأول مرة ، بنفس الوقت وصولهم إلى وضع ضمانة لوحدة متينة على أساس التحول الديمقراطي بالنسبة لجيرانهم وليس كعنصر تمرد وتقسيم، ولا مفر من دخول القضية الكردية في طريق الحل كلما تسارعت المرحلة الديالكتيكية نحو التحول الديمقراطي بالنسبة لكلا الطرفين ، وهذا السبيل هو سبيل السلام والوفاق والحل الديمقراطي، وليس طريق التمرد أو التقسيم . لأول مرة يحصل التاريخ على إمكانية السير والنجاح في خطوات التحول الديمقراطي مع جميع الشعوب التي تحيا مع بعضها.
يحمل التاريخ للشعب الكردي دوراً لا مثيل له في هذه المرحلة، وأصبح البقاء في إطار حدود مقسمة عاملاً مساعداً لهذا الدور، كما أن عدم التحول إلى شعب الذي سممته القومية بأمراضها وسمومها وسلطويتها أو الإسلاموية بخداعها وتضليلها زاد من فرص النجاح ، فالشعب الكردي الذي حول نفسه إلى شعب ديمقراطي سيرغم البلد والشعب الذي يحيا معه على الحل الديمقراطي، فقد كانت الحركة الكردية تبدو كأداة للتقسيم والألاعيب الخارجية، بينما الآن ومع فكرة أخوة الشعوب والأمة الديمقراطية والكونفدرالية الديمقراطية للقائد والمفكر عبدالله أوجلان ، أصبحت الحركة الكردية الضمانة للسلام والحرية والأخوة والكرامة، وأصبح العامل الوحدوي الأكثر قوة للبلد ، أساساً للوحدة الدائمة للدولة، وسيتم ذكر تطور وتكون المقاييس الديمقراطية الفعالة المستندة إلى الحرية والديمقراطية في كل مكان أو أي دولة يتواجد فيها الكرد. فالجهل والتمرد والقمع والإبادة الجماعية ليست قدراً مكتوباً على جبين الكرد وجيرانهم ، بل سيكون الوعي الديمقراطي والمجتمع المدني المتطور والوحدة الحرة والتشارك والأخوة هو القدر القادم .
إن الكرد ومن خلال مهمتهم التاريخية أصحاب خطوات التحول الديمقراطي المتين في ايران تحت لواء الجمهورية الإسلامية الديمقراطية أو الفيدرالية الإيرانية الديمقراطية الأكثر عصرية . وهم في العراق الضمانة الأساسية لعراق ديمقراطي أو للفيدرالية العراقية الديمقراطية من خلال موقعهم الفيدرالي الديمقراطي ، وسيلعبون أحد الأدوار الأساسية في ترسيخ الجمهورية الديمقراطية والعلمانية في تركيا كأصحاب خطوات منسجمة ومصممة على طريق الالتزام والديمقراطية ، وسيكونوا دورهم في الحل والتسوية والضمانة في خلق سوريا ديمقراطية واحدة كبيراً واساسياً مثلما قاموا بمحاربة داعش والدفاع عن وحدة وسيادة سوريا، جلي بأن الكرد سيقومون بهذه الأدوار بنجاح ، أي أن الكرد الديمقراطيين سيكونون طريق فيدرالية المنطقة والشرق الأوسط ، وسيكونون القوة الشعبية الأساسية في ضمانة التحول الديمقراطي والسلام . إن القيام بهذا الدور الذي اوكله التاريخ للكرد سيسير طريق النجاح من خلال قيامهم بمهمة التحول الديمقراطي بوعي وتنظيم ، والتحرك يشكل لائق بالقيادة الاستراتيجية الحقيقية.
باختصار، فمشروع الحل الديمقراطي للشعب الكردستاني إنما يبعث على النشوة والحماس . ومثلما قدم الكرد مساهماتهم النفيسة في التاريخ ولعبوا دورهم كمنبع (للنيوليتية والثقافة واللغة الآرية) لا ينضب في تطوير حضارة المجتمع الطبقي والمتدول السومري الأول ؛ فإنهم يسعون اليوم أيضاً ، وفي نفس المكان، لتطوير وتصعيد تجاربهم وخبراتهم في الديمقراطية الذاتية والتحول الديمقراطي، ضمن أجواء تسودها العلاقات والتناقضات معا مع قوى ” الهيمنة العالمية ” . إنهم ينسجون هوية الشرق الأوسط ضمن جمعية ( تركيبة جديدة ) هيلينية جديدة . سيدور ” المغزل ” الكردي ويلف ليصل بالمنطقة إلى عصر الحضارة الديمقراطية. وما يقع على كاهلنا هو ألا نكون عبيداً جدداً لأمثال ” صارغون وكلكامش والإسكندر ونمرود ” ، بل أن نكون معقد أمل الشعوب لتأمين انضمامها إلى الحضارة بدون أسياد في هذه المرة ، وأن نطلق الشرارة الأولى في هذه المرة للشعاع التنويري الأول لدى بزوغ فجر ” حضارة الشعوب الديمقراطية والأيكولوجية ” التي تحمل بين طياتها المزايا الكونية .
يوجد في الشرق الأوسط الأرمن والأشوريون والسريان وشعوب ذات جذور قوقازية وغيرها ودور هذه الشعوب يشبه دور الكرد . وكافة الظروف تأمر قيام هذه الشعوب بالعمل في طريق التحول الديمقراطي مع القوى الموجودة باعتبارها المنقذ الوحيد ، وتزداد إمكانيات تطوير كيانها الثقافي والحرية بشكل يوازي تطور التحول الديمقراطي في الدول التي يتواجدون فيها والشرق الأوسط والمنطقة عامة ، فهذه الشعوب التي تمتلك قيمة كبيرة على صعيد نقل الثقافة رغم قلة عددها ، تمثل قوة وغنى وموزاييك التحول الديمقراطي والتأثير الفعال والبناء.
عندما نقيم إلى الشرق الأوسط كوحدة متكاملة على أساس هذه القراءات نلاحظ بأنه يعتبر اكثر تخلفاً من الكثير من دول العالم ، وهو يسير في طريق بعيد عن ماضيه التاريخي العظيم ، ولا يدرك تاريخه بعد ، ولم يقدم على أي عمل يليق به ، حيث تحكمه مجموعات هامشية نظمت مصالحها بخطوط الاستقلال المزورة به وبتجسيد أقرب إلى الاستسلام ، فلا تعتمد على قيم الحضارة الأوروبية تماماً ولا على جذور الشرق الأوسط ، فحتى إن كان قد ظهر بعض القادة اللائقين بالتاريخ كاستثناء ، إلا انها ستبقى بعيدة عن الضغط على البنية العامة، ويصعب على الشرق الأوسط الذي لم يحقق الثورة النهضوية والتنويرية بشكل متكامل أن يغير هذه الصورة ، ففي الوقت الذي تتوجه فيه معظم دول العالم نحو اتحادات إقليمية وعالمية ، فإن بقاء الشرق الأوسط بعيداً عن استراتيجية مشتركة وخطوات التوحد في داخله إلى هذه الدرجة ليست لصالح شعوبها ودولها ومصالهحم الاقتصادية والسياسية والأمنية والثقافية ، ولن يتحمل تاريخ الشرق الأوسط القريب والشبيه بالفيدرالية هذا التشتت ، فالظروف الإقليمية والداخلية للبلدان التاريخية تضغط تدريجياً من أجل التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط.
وعليه فإن الثورة الكردستانية وحل الأمة الكردية الديمقراطية والتحول الوطني الديمقراطي الكردي المستند إلى براديغما المجتمع الديمقراطي وحرية المرأة وريادتها وتمكينها والثورة البيئية، يقدمون شتى أنواع القوة(الفكرية والمادية) والقدرات للتحول الديمقراطي في الشرق الأوسط ودولها، وهي تجسد ثورة الشرق الأوسط الديمقراطي واتحاد الامم الديمقراطية في المنطقة. وبل يمكن أن تعبر ومعها شعوب الشرق الأوسط والمنطقة إلى الأفاق الكونية بإنجازها التحول الديمقراطي في الشرق الأوسط والمنطقة.