الجمعة 27 ديسمبر 2024
القاهرة °C

أحمد شيخو يكتب : المقاربة التنويرية الديمقراطية لأزمات المنطقة

الحدث – القاهرة

لا يمكننا فهم وتحليل ثقافة المنطقة بالأيديولوجيات والعلوم الوضعية وما يصدره مراكز البحث والدراسات والتوجيه لحداثة النظام العالمي المهيمن. حيث تظهر أمامنا الاستشراق أو الهيمنة الفكرية للمدنية الأوربية وبالمجمل المعلومة المحددة والموجهة لخدمة ترتيبات نظام الهيمنة العالمية واستمراريتها في المنطقة ولو بأدوات ووسائل أقل ظهوراً وأكثر فعاليةً وتأثيراً. وهذه البراديغما(الرؤية أو المنظومة الفكرية والفلسفية) المطبقة خلال القرنين الأخيرين، فأنها لا تتوافق ولا تتناسب مع الوقائع والحقائق التاريخية أو اليومية الملموسة في مجتمعات وشعوب المنطقة والفرق واضح أقل مايقال أنه شرخ و هوة كبيرة مستحيلة الردم والالتئام.
مع التذكير أن وعي الحقيقة لدى المواقف التقليدية المتشكلة تحت ظل التأثير العميق للاستشراق والتبعية الفكرية ومنها شتى أنواع المقاربات الثقافوية، وعلى رأسها التيارات الإسلامية والقومية الفاشية ومابينهما ، فهي بعيدة عن الواقع، ولا يتعدى كونه آداباً مصطنعة لا حياة و لا روح فيها ومقاربات لاتزيد القضايا والمشاكل سوى تعقيداً وتعميقاً بعيداً عن الحلول والفهم الصحيح.

إن المظاهر التي اتخذتها لنفسها حداثة النظام العالمي المهيمن الرأسمالية التي تبني ذاتها بالترابط مع هذه البراديغما أكثر بعداً وتناقضاً مع التاريخ ومع المجريات الملموسة الحاضرة والمعاشة. وتعّبر الاختلافات والتناقضات القائمة فيما بينهما عن نفسها بشتى أشكال الصراعات والحروب التي نادراً ما يصادف نظير لها من حيث تأثيراتها السلبية و وحشيتها الزائدة.
لا يمكننا تحميل الغرائز الفطرية الغائرة، ولا التخلف الثقافي مسؤلية ذلك، ولكن القضية تتعلق بسبل التطبيق وبالأشكال التي تتخذها حداثة النظام العالمي المهيمن . فالثقافة بجانبيها المادية والمعنوية التي عاشت بشكل متداخل ومتفاعل على مدى آلاف السنين، والتي أنشئت بهدف العيش والتفاعل المشترك بها، لكن المحصلة الناجمة عن تقسيم هذه الثقافة بالمسطرة دون أي مراعاة لتكويناتها ولطبيعة المنطقة وشعوبها، بغية قيام حداثة النظام العالمي المهيمن بزرع وتوطيد وتمكين وكالاتها التجارية والربحية في كل قسم منها مثل الرأسمالية والدولتية القومية والصناعوية والفضاء الإفتراضي؛ كلها تعتبر دوافعاً حقيقية وراء ما حدث وما سيحدث من وحشية وإبادة وتطهير عرقي.

عندما تصارعت الأديان التوحيدية فيما بينها، أو تحاربت الأديان القديمة و وثنياتها؛ فإنها لم تفضي أبداً إلى أشكال الوحشية التي آلت إليها حداثة النظام العالمي الرأسمالية. ذلك أن مفهوم الأمة لدى كل واحد منها، كان قادراً على إحياء كل شعب وثقافته ضمن أجواء السلم على الأغلب. بل وحتى إنها كانت تتيح الفرصة لتشكيل تحالفات و اتحاد ما وراء الأمة فيما بينها باسم أهل الكتاب، ولو بمنوال بدائي، ولم يكن الإبادة أو التطهير العرقي مصطلحاً أو ممارسة معروفة آنذاك. والقول بأن العصور الوسطى كانت أكثر ظلمة من العصر الحديث الوضعي للنظام العالمي الرأسمالي، ما هو إلا ذريعة العصر الحديث لتكريس أسطورته الميثولوجية وخرافته بتقديم ذاته على أنه تنويري وتقدمي ومعرفي.
مهما جرى التركيز على سلوكيات وممارسات الدولة القومية التي تمزق ثقافة الشرق الأوسط شر تمزيق وكأنها تقطعها بالسكين، فلن يفي بالغرض. ذلك أن الصدمات المعاشة وحالات الأبادة، قد فتحت بهذه السكين التي يطلق عليها اسم الدولة القومية. ولا تتغير النتيجة أيا كانت المأساة التي نتناولها. وقد أخذت كل ثقافة مستقرة أو متنقلة نصيبها من حد هذا السكين في الأراضي الممتدة من داخل الهند إلى سيبيريا، ومن شمال أفريقيا من المغرب إلى الصحراء والمشرق العربي والشرق الأوسط.
هذا ومازال الجرح ينزف باستمرار. فصدام الهندوس– المسلمين في قلب الهند، والاقتتال القائم في كشمير وفي منطقة الأويغور داخل الصين وفي أفغانستان وباكستان، والعراك الدموي الأعمى في الشيشان والآخرين في روسيا وجمهوريات الاتحاد السوفيتية السابقة، والصراع الدائر في إسرائيل– فلسطين و كذلك حالة لبنان و الحرب في سوريا واليمن وليبيا والعراق والصومال وفي كافة البلدان العربية ، و حالة الإبادة الفردية التي تمارسها تركيا بحق الشعب الكردي وبالمجمل صراع الكرد مع الأتراك والعرب والفرس، والصراع المذهبي في إيران، والاقتتال الأثني في البلقان، وتصفية الأرمن والروم والسريانيين في الأناضول، والمزيد المزيد مما لا يمكن إحصاؤه من اشتباكات وحروب لا تفتأ مستمرة دون أن تأبه بأية قاعدة؛ ولا يمكن إنكار كونها جميعا منتوج الهيمنة الرأسمالية للنظام العالمي لتهيئة الأرضية والظروف لهيمنتها وسرقتها ووكلاتها.
إذا كان شعور القلق و تدخلات هيئة الأمم المتحدة التي هي اتحاد الدول القومية لا تنم عن أية نتيجة أو حلول وهي في سلوكها ضمن نطاق مصالح القوة العالمية دون الشعوب والمجتمعات، وإذا كانت منظمة المؤتمر الإسلامي التي هي اتحاد الدول القومية الإسلامية قاصرة عن أن تكون مؤثرة وفعالة وغيرها من المؤسسات الإقليمية والدولية البعيدة عن تجسيد مصالح الشعوب والمفتقدة للآليات اللازمة، وإذا كانت جولات الدول القومية الدبلوماسية المكوكية التي لا حصر لها يوميا عاجزة عن أداء دور أبعد من زرع السأم والضجر مع التكرار الممل؛ فسبب كل ذلك مرة أخرى مرتبط بعقلية الدولة القومية وبنيتها وبالسلطوية التي تحتويها.
يجب فهم وإدراك هذا الواقع الرهيب المتأزم، الذي شيّد بمطلقية و بتزمت منغلق يفوق النزعات الدينية للعصور الأولى والوسطى ألف مرة، يظهر أمامنا مرارا وتكرارا في هيئة الفاشية بالتحديد، وبممارساتها المنتشرة في كل مكان. ذلك أن تشييد الدولة القومية بحد ذاته قد حصل دوما بالحرب والإبادة ، بحيث من المحال الإشارة إلى دولة قومية واحدة غير مشيدة بالحرب والقتل. والأوضح من ذلك، هل بالوسع التحدث عن دولة قومية واحدة ليست في حالة حرب أو نزاع أو توتر دائم مع مجتمعها وتكويناتها داخلياً ومع الدول القومية الأخرى خارجيا والشرق الأوسط شاهد على هذه الحقيقة.
إن الإشارة لبعض الأمثلة بصدد كيفية إنشاء الدول القومية في المنطقة، سيكون مفيداً من جهة استيعاب وجهها المخفي:

1_العراق الحالية لم تكن بلداً موجوداً على الخريطة قبل أعوام 1920م. لقد أنشئت الدولة القومية العراقية مراعاة للحاجات الاستراتيجية والمصالح النفطية للإمبراطورية البريطانية. ولم يؤخذ وضع المكونات الثقافية التي تحتويها داخلها بعين الحسبان إطلاقاً. ولم يصغ مبدأ عادل بغية عيشها بانسجام وتناغم فيما بينها. وأقيم عليها ملك لا علاقة له بحقائقها الاجتماعية. و ثم أطيح بهذا الملك من قبل النخب العسكرية المتظاهرة بوطنية أكبر. ونظرا لأن الجمهورية المعلنة لا علاقة لها كثيراً بالجماهير، فقد شهد الوطن ظروفا ديكتاتورية مستدامة. ونثرت كل القذارات والأوساخ في الوسط، عندما انهارت ديكتاتورية صدام حسين مع إعدامه، وذلك لأنه لم يستطع استيعاب طبيعة الدولة القومية. لذا، ما من نظرية سوسيولوجية قادرة على تعريف عراق اليوم. ويلوح أنها ستستمر بحضورها كمكان فوضى عارمة.
2_شكل تشييد صرح البلدان الأخرى ال 22، والمسماة بالعربية، ليس مغايراً للعراق. إذ لا صلة لها مع الحقائق التاريخية والاجتماعية التي ستضفي عليها القيمة والمعنى. ومثلما حال حدودها، فتواريخها، أناشيدها الوطنية، أعلامها، أنظمتها، ومجتمعاتها التي تسميها بالأمة؛ جميعها حددت ككيانات خيالية تأسيساً على مصالح القوى المهيمنة وليس مصالح الشعب العربي والشعوب الأخرى.
إن هذه الكيانات الوهمية المعبودة بقدسية على مدار الساعة، لا تمتلك تاريخاً أو مجتمعاً حقيقياً ملموساً بحيث يكن له الاحترام والتقدير حقاً. و الحصة الكبرى من الحقيقة تجعل من نصيب ما هو ليس حقيقياً. وبطبيعة الحال، لا يتوقع منها حل قضية ما أيما كانت، أو تكوين حياة اجتماعية سعيدة وحرة وديمقراطية. إذ أن من لا حقيقة له، فحله وسعادته وحريته محض خيال وسراب وكذب.
3_تأسيس إسرائيل أكثر إثارة وتصنعاً بكثير. فهي أيضاً إحدى الكيانات المصطنعة خلال القرنين الأخيرين، مهما زعم أنها محصلة لحلم ورؤية وسعي تمتد إلى ثلاثة آلاف سنة. والسياق الممتد من أولى خطوات تشييدها إلى آخرها، كان دموياً من البداية وحتى النهاية. ويبدو فيما يبدو أن تخيل سبيل آخر أكثر إيلاماً بالنسبة للشعب اليهودي وثقافته أمر صعب جداً.
4_تأسيس سوريا و لبنان المجاورة لإسرائيل المنشأة أكثر غرابة. ويسود العجز عن الجزم بكيفية تهدئة أجواء الاشتباكات السائدة في هذه المنطقة. هذا ولا يعرف تماما حتى كيف اختير اسم سوريا بحدودها الحالية وحتى رسم الحدود بينها وبين تركيا والعراق والأردن وكيفية تشكيل لبنان والإردن وغيرها من الخرائط والدول المصطنعة في المنطقة إلا لمصالح الهيمنة على المنطقة.
5_تشكيل تركيا بحدودها الحالية على إبادة شعوب ميزوبوتاميا والأناضول وخلق أمة نمطية دولتية لزوم الدولة المنشأة للتحكم بالمنطقة والهيمنة من خلال ذلك النموذج وعبر إعطاء دور سلبي جداً للكيان الجديد المسمى بالدولة التركية الفاشية المستمرة لليوم بكل إجرامها وإباداتها لإضعاف التقاليد الديمقراطية بين شعوب المنطقة وتحالفاتها التاريخية وقيمها المجتمعية الأخلاقية.
قبل قرن، وبدلاً من جميع هذه الأوطان، كان يسري مصطلح “الولايات العثمانية” الأكثر تقليدية وربما الأكثر وضوحا في معانيه. وكلما سرنا إلى الوراء على مسار التاريخ، فلا يبقى اسم الولاية ولا الوطن. فمع ظهور الإسلام كانت استسيغ شكل تسمية على خلفية ظاهرة الاتجاه والتوجه. حيث كانت تسمية “بلد الإسلام” مقبولة ولا تثير مشكلة جدية آنذاك، كاسم عام ربما أكثر واقعية وله معنى واضح. أي، لم تكن عبادة الوطن قائمة. و المعبود كان الله، لا غير. وهو بدوره كان الضمير المشترك للمجتمع وهويته العليا التي تستوعب كافة الهويات التي تحتها، وكان قد تشكل بشأنه مصطلح قائم بذاته، من خلال صفاته وأسمائه. ربما كان هذا الأصح والأعدل.
في العصور التي لم تصبح فيها الكرة الأرضية بعد على شكل دول وقارات ، فإن تقديس أسماء الأماكن والأوطان لا يدل كثيرا على حقيقة عميقة. لكن هذا لا يعني أنه لا معنى للمنطقة أو الإقليم أو وطن الأمة أو الأرض التي تعيش عليها الأمة. بل كان لها معناها، ولكن ليس لحد التقديس. الأمر السلبي هنا هو طغيان المبالغة المتطرفة إلى حد مسح حقيقة الوجود الإيجابي.
بإمكاننا صياغة التفسيرات نفسها بصدد هويات الدول القومية الأخرى أيضا مثل العلم، النشيد الوطني، الأمة و التاريخ. ما من ريب في أهمية مكانة الرموز في التواصل والتفاعل والشرح. إلا أن عرضها كوقائع مقدسة، لا يتيح إمكانية التحلي بمعرفة سوسيولوجية سديدة ودقيقة. وعرض كهذا يترك المجتمع الذي سوف يشكله وجها لوجه أمام قضايا متفاقمة. علما أنه تركه فعلا وزيادة عن اللزوم. ومنطق الإنشاء هو المسؤول والمعضل الأساس في ذلك.
إن الدول القومية المحددة في العالم والمنطقة وفق مصالح هيمنة حداثة النظام العالمي المهيمن ، والمتميزة بهذا المنطق؛ لا تنسجم مع الوقائع الراسخة الثابتة والكونية من حقائق المناطق والأقاليم والأمم والمدن والقرى. بالتالي، لا مفر من حصول التناقضات والاشتباكات والنزاعات الجادة فيما بينها. ذلك أنها ستظل ضمن تناقض وصدام مع المضمون الحقيقي لهذه المصطلحات الكونية في كل زمان، نظرا لأنها لم تنشأ على خلفية العدالة والحرية والديمقراطية والتمثيل الصحيح والمعبّر.
وعليه تبقى النتيجة البارزة هي أن أدبيات القرنين الأخيرين بخصوص الدولة القومية تتحلى بالنذر اليسير من قيمة الحقيقة. إننا في مواجهة سرد ميثولوجي ربما أقل معنى من ميثولوجيات العصور الأولى التي لا تولى معاني كثيرة. وربما قيمة الحبر المسكوب من أجل دولة قومية واحدة، أثمن بأضعاف مضاعفة من قيمة جميع الدول القومية.
ينبغي ألا تكون النتيجة التي ستستنبط من هذا التقيم وكأننا ننكر تماماً الدولة والأمة، أو نعتبر وجودهما بلا جدوى. إذ للدولة والأمة معانيهما العالية الأهمية كوقائع منفردة بذاتها. وتحليلهما الدقيق و الصائب هو المهم. كما أنهما ليستا كيانين سيهدمان أو يجب هدمهما على الفور. ليس هذا هو الخطير، بل الخطير هو منطق إنشاء الدولة القومية، ونمط الاستمرار بها والإصرار عليها. ذلك أنها تذكر دوماً بالحرب والإبادة والتطهير العرقي والشؤم والتعاسة، وبتقليص الحقائق الاجتماعية والإجلال المتطرف والمقدس المبالغ فيه لما لا قيمة له.
ما من قيمة للرأسمالية والهيمنة وبالتحديد كنظام ستستطيع تجسيدها وعكسها إيجاباً على ثقافة الشرق الأوسط. فقد شهدت المنطقة مثيلات الرأسمالية والهيمنات على مدى آلاف السنين. حيث تمت معايشة الرأسماليات الزراعية والتجارية والمالية والصناعية في المنطقة، والتي تتسم بأطول أمد تاريخي. لقد صيغ تقييم المجتمع الأخلاقي والسياسي في ثقافة المنطقة. ربما كانت الثورة الصناعية قادرة على تقديم مساهمة لهذه الثقافة. لكن اكتسابها شكلا أيديولوجيا منذ ولادتها متجسدا في الصناعوية التي تهدف للربح فقط كأداة للنظام العالمي المهيمن وليس خدمة الإنسان و المجتمع ، قد أفسح المجال أمام تجليها في هيئة خراب ودمار وفساد . من هنا، فالنتيجة التي ستسفر عنها الصناعوية في ثقافة الشرق الأوسط هي ازدياد تعميق الوضع السلبي الذي تعاني منه البيئة التي بالكاد تصمد أصلاً مع إنتشار الأمراض والفيضانات وتقلبات المناخ الشديدة. وفي الحقيقة، فمنذ أن تنامت الصناعوية وتكرست في المنطقة وهي تتقيأ كافة سلبياتها بوتيرة متصاعدة، متجسدة في تزايد حالات التصحر والفقر والعوز والبطالة والتلوث الجاري في البحر والجو والأرض والمياه.
ولم يزد الفضاء الإفتراضي المحدد والموجه بدقة لخدمة أهداف الهيمنة سوى تعميق الأزمات وإضعاف المجتمعات وزيادة التحكم بالإنسان في ظل إنتشار الأنانية والتبعية التامة في الحياة ونمطها وحتى نوع المعلومات التي يتلقاها الإنسان في ظل تفرد النظام العالمي بإدارته وتطويره حسب أهدافه وغاياتها.
وبدلا من النظر إلى “الإسلام المستحدث” الذي طور كظاهرة حداثوية في القرنين الأخيرين على أنه تقليد أو شريعة، فسيكون من الأفضل والأصح تقييمه ضمن إطار الدولة القومية. فإدراك كون هذا الإسلام قد أنشئ كقوموية، وليس كشريعة دينية، يتسم بأهمية كبيرة. فهو نموذج مصغر من القوموية الإقليمية، وممهور بطابع الاستشراق والتبعية الفكرية. إنه ابتكار الاستشراقيين الذين لا علاقة لهم بالحياة والحضارة والقيم الإسلامية. كما أنه مرتبط عن كثب بتوسع قوى الهيمنة الأوروبية في المنطقة، وبالهيمنة الألمانية على وجه الخصوص. وبعدها البريطانية وله ارتباطاته مؤخراً مع الهيمنة الأمريكية في وجه روسيا الاتحادية. لذا، من عظيم الأهمية الاستيعاب أن الإسلام السياسي المبتكر لا يهتم بالثقافة الإسلامية التاريخية، وأن ثقافة هذا الإسلام قوموية تماماً، وأن غاياتها تتمثل في تشتيت المقاومة الثقافية للإسلام، وفي جعل المنطقة خائرة القوى ومنفتحة للتدخل الخارجي وهدفها استخدام واستعمال الدين ومقدسات الشعوب لغرض الوصول للسلطة والحكم وليس خدمة المجتمعات والشعوب كحال حركات الإخوان الإرهابية وغيرها من تفرعاتها المختلفة من القاعدة وداعش والنصرة وحزب العدالة والتنمية.
الإسلام السياسي أيديولوجية قوموية تموه أوليغارشيات الدول القومية للقرنين الأخيرين. والدولة التركية في عهد العدالة والتنمية وأردوغان والجمهورية الإيرانية الإسلامية تبسط هذا الواقع بشكل لافت جدا للأنظار. فالإسلام الشيعي من ألفه إلى يائه هو قوموية إيرانية وأيديولوجية مهيمنة لتقاليد الإمبراطورية الإيرانية و التركية الأردوغانية هي قوموية تركية طورانية كتقليد للإمبراطورية العثمانية في مشروع العثمانية الجديدة التي تحاول إعادة احتلال كل شعوب و بلدان المنطقة والبلدان العربية والاحتلال التركي في سوريا والعراق وليبيا والصومال وقطر وغيرها تؤكد بعض هذه الغايات.
لكن الإسلام مختلف ومهم في آن معاً، سواء كهوية أصيلة عريقة، أم كتاريخ. وما لم يحلل الإسلام القابع في هذا الواقع، فمن غير الممكن تحليل وتفكيك ثقافة الشرق الأوسط، والمساهمة في جعلها موضوعاً وأرضية لبعض الحلول. إنها بحر ثقافي هائل ينتظر التحليل والتدقيق وتجديد الخطاب الديني كمهمة عاجلة. ونخص بالذكر أن التاريخ الذي يميز بين الإسلام بوصفه عنصراً ديمقراطياً منذ ولادة سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام خصيصاً وحتى يومنا الراهن كإسلام مجتمعي وديمقراطي وأخلاقي، وبين الإسلام باعتباره عنصراً سلطوياً؛ إنما ينتظر التدوين مجدداً. وبناء عليه، فتاريخ الشعوب والتكوينات المجتمعية والكيانات المناطقية والإقليمية أيضاً ينتظر إعادة تدوينه. وقيمة صياغة التاريخ الاجتماعي بهذه البراديغما، عظيمة وقطعية في تنوير راهننا وتحقيق مقاربات تنويرية ديمقراطية. وكلما صيغت التفاسير عينها بصدد اليهودية والمسيحية والزرادشتية والتركيبات مثل المانوية والمازدكية والعلوية واليارسانية واليزيدية هي مهمة أيضا، فسيكون بالإمكان تحليل ثقافة المنطقة ومنها الشرق الأوسط بمنوال أقرب إلى الصواب، وسيمهد السبيل أمام غنى المعنى ووعي الحقيقية.
يتميز الأصول السومرية والمصرية بأهمية حياتية في الإدراك والتحليلات الثقافية. وكون الأديان التوحيدية والكتب المقدسة تنبع من هذين الأصلين، إنما هو واقع مبرهن. كما يستحيل تسليط النور كفاية على أية ثقافة كانت، ما لم تحلل التأثيرات التاريخية لثقافة العصر النيوليتي النابع من ميزوبوتاميا وفي القلب منها كردستان وحواف سلاسل طوروس وزاغروس، الذي كان أماً لجميعها.
النتيجة التي ستظهر للوسط أثناء إعداد القيم الثقافية لصياغة التاريخ الثقافي وتفسيره، ستكون نهضة ثقافية وحركة تنويرية ديمقراطية وشراكة حقيقية للشعوب. لكن هذه المهمة لم تنجز بعد بنجاح في الواقع الثقافي للمنطقة. فالآراء التاريخية الدينوية والقوموية، لا تقدم سرداً أبعد من عرض القوالب الدوغمائية البعيدة عن العلمية والمجتمعية. من هنا، وبمقدار ما تكون صياغة سوسيولوجيا ثقافة المنطقة مهمة، فالنتائج التي ستستخلص من هنا ستكون عظيمة بالمثل بمساهمتها في علم السوسيولوجيا.
مهما كان انتقاد الدولة القومية أيديولوجيةً وبنيةً أمراً مهماً، إلا أن تقديم بديلها أيضا وظيفة أهم لابد منها في ظل مقاربة تنويرية ديمقراطية. مع مراعاة عدد من المبادىء :
1_إن الكلياتية الثقافية والتكامل هي التي سترصد وتصان أثناء تطوير بديل ما. إذ بالمقدور ملاحظة كون الثقافة الاجتماعية قد تشكلت متداخلة وضمن كلياتية متكاملة مجتمعية و ديمقراطية في جميع عصور التاريخ. وحالات تطورها ضمن كلياتية متكاملة، تسري على كافة ميادين المجتمع والحياة.
2_ تطوير نماذج الحل بمفهوم الهوية الثقافية المرنة والمنفتحة الأطراف وتحقيق التحول الديمقراطي. ذلك أن أيديولوجية الدولة القومية الصاهرة والمضادة للتكامل والتوحيد والتحالف، وغير القادرة على التحلي بمفهوم الهوية الكلياتية في الأسفل والأعلى على السواء؛ لا يمكن تخطيها إلا بمفهوم الهوية الثقافية المرنة والمنفتحة الأطراف ومع العمل لتحقيق التحول الديمقراطي عبر المراحل اللازمة لتفعيل كافة القوى وتقوية الجبهة الداخلية عبر مراعاة خصوصيات التكوينات واحترام التعدد والتنوع الموجود.
تتميز النماذج التي تتعدى الدولة القومية المفتقرة كليا لنظائر الحقيقة ارتباطا بواقع الثقافة، بأهمية مبدئية. ذلك أنه بقدر ما يتم تجاوز الدولة القومية عقلية وبنية، فإن نماذج الحل ستتفعل بتأثير مماثل أيضا على أساس الكلياتية الثقافية.

3_ تطوير نمط التفكير والتعبير وقوله باعتباره حقيقة والوصول لثورة ذهنية، على أساس استهداف وتجاوز رموز الدولة القومية الخارجة عن الحقيقة والتركيز على مناهضة التداعيات الاغترابية والاحتكارية للحداثة المفروضة تأسيساً على التضاد مع ثقافة المنطقة .

ومن الصحيح اتخاذ الكلياتية الديمقراطية والتكامل المجتمعي والثقافي أساساً للتنوير الثقافي والديمقراطي من خلال عناصر العصرانية الديمقراطية الثلاثة الأولية (الأمة الديمقراطية، الاقتصاد التشاركي المجتمعي الديمقراطي، الصناعة الأيكولوجية)، وذلك في وجه الاحتكارية التي طورتها حداثة النظام العالمي المهيمن عن طريق ركائزها الثلاث(الدولة القومية، الرأسمالية، الصناعوية والإفتراضية). فمن المحال تخطي حالات التبعية و الاغتراب والتجزؤ والتبعثر المفروضة على ثقافة المنطقة طيلة تاريخ المدنية عموماً وفي القرنين الأخيرين للحداثة بأعلى نسبة، إلا بالبنى المتكاملة وتعابير الحقيقة وبالعلمية المجتمعية الحديثة وإنجاز الحياة التشاركية التي تمَكّن وجودنا التاريخي وإرساء دعائمها في كافة الحقول الإجتماعية يتصدرها تنظيم ومأسسة الحقل الاقتصادي مع الفيدراليات الديمقراطية والإدارات الذاتية كمؤشران على تنظيم ومأسسة الحياة السياسية لمجتمعات وشعوب المنطقة في إطار تكامل ووحدة طوعية وكلياتية ثقافية لكل المنطقة.

to top