الإثنين 23 ديسمبر 2024
القاهرة °C

أحمد شيخو يكتب : تبلور المشهد الإقليمي في المنطقة وطريق الحل الديمقراطي

الحدث – القاهرة

مع استمرار فصول الحرب العالمية الثالثة الجارية في المنطقة والتي كانت بدايتها من التسعينات، ومع اقترابها ربما من قمم وأوضاع وعلاقات حادة من الاحتكاك والتفاعل المتوتر والقلق نتيجة تنافس القوى العالمية التي تعتقد أنها تمتلك أدوات ووسائل وأوضاع قوة جديدة مع الظروف الظاهرة تستطيع بها إحداث بين التغيرات لصالحها وصعودها أدورا ونفوذا مهيمنا في الساحة الإقليمية والعالمية لإحداث توازن جديد لصالحها، علاوة على أن بعض القوى ترى أنها تستطيع الاستمرار في تصدرها المشهد الإقليمي والدولي ومعالجة الأزمات والقضايا وفق ما يخدم استمرار هيمنتها وبأدوات جديدة على الصعد الإقليمية في عدد من الأقاليم الجيوستراتيجية المهمة في العالم و ذلك في ضوء تصورات وقراءات ومشاريع متعددة لكيفية تبلورات جديدة في المشهد الإقليمي وخاصة في منطقة الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا و كذلك في جنوب شرق آسيا وصولا لروسيا و لأوربا.
في منطقتنا في الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا ما يزال المشهد الإقليمي الذي شكلته بريطانيا وفرنسا وروسيا مع نهاية الحرب العالمية الأولى هو السائد حتى اليوم وبكافة تقسيماته ودويلاته القومية وسلطاتها وحكوماتها المتعاقبة وتياراتها السياسية ونظمها الاقتصادية وفق ما يخدم مصالح وأجندات الاحتكارية الرأسمالية العالمية رغم انتقال قيادة الهيمنة العالمية من بريطانيا لأمريكا بعد الحرب العالمية الثانية .
مع الثورة البلشفية 1917 وانسحاب روسيا من شمالي إيران وشمال شرق تركيا وجنوب القوقاز الذي من الممكن أنه كان نتيجة توافق مسبق قبل البدء الثورة البلشفية بين لينين والهيمنة العالمية. ظهر عدد من ثوابت وملامح المشهد الإقليمي الذي تم فرضه :
أهمية النفط لاستمرار عجلة الاقتصاد والانتاج و احتكار امتلاك القوة المختلفة لخدمة الحداثة الغربية ودولها المركزية وتأمين منابعه وطرقه.
ضخ الفكر الأحادي القوموي الإلغائي وتشكيل الدويلات القومية كوسائل تقسيم ونهب و إبادة وإضعاف للمنطقة وثقافتها التكاملية.
تشكيل دولة قومية تركية صغرى من رحم الإمبراطورية العثمانية وتوظيف البيروقراطية العثمانية السابقة للسيطرة وتبعية الدولة التركية للنظام العالمي عبر النفوذ اليهودي فيها والقادم منذ توافد اليهود عليها من أسبانيا من بعد أعوام 1492م.
تقسيم وتشكيل الدول القومية العربية وإيجاد دولة إسرائيل وخلق صراع وظيفي بين العرب وإسرائيل لما يخدم أجندات الهيمنة وصعود التيارات القومية في دول المنطقة المنشغلة بقمع مجتمعاتها وحروبها السلطوية فيما بينها.
تقسيم الشعب الكردي وموطنه كردستان بين أربع دول وبدون أية حقوق وبذلك خلق بؤرة قلق وتوتر وظيفية قابلة للاشتعال والاستخدام وذلك لضمان السيطرة على ماهية تركيا وأدوارها الوظيفية وكذلك التحكم بالمنطقة.
ترتيب الدولة القومية في إيران و نموذج الشاهنشاهية الإيرانية وثم السماح والدفع بالقومية الشيعية لتشكيل ما يسمى الجمهورية الإسلامية في نهاية الثمانينات.
التحول من الاستعمار المباشر إلى الاستعمار الغير المباشر لتأمين نفس الأهداف والمصالح وبأدوات محلية وإقليمية ونظم حكم تابعة ومتواطئة.
تمكين المقاربات القومية والإسلاموية والجنسوية وترسيخها في المنطقة لسد الطريق أمام ظهور أي سياق مجتمعي ديمقراطي.
ووفق هذه الملامح والأهداف تم السماح لحالات الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتهجير القسري والتغير الديموغرافية في بعض المناطق وكان منها كردستان وفلسطين وأرمينيا ومناطق عديدة وتشكلت الخارطة الجغرافية والسياسية للمشهد الإقليمي في الشرق الأوسط ، ولأهمية اشغال الرأي العام وحالة التضليل والتزيف في بواطن الأمور وكذلك لسد الطريق أمام تمدد وتوسع وانتشار بعض القوى الهامة على الصعيد الإقليمي والعالمي كانت لهذه الثوابت و الدولة والمقاربات والهياكل السياسية والاقتصادية المتشكلة وفق المشهد الإقليمي أهمية كبيرة للقوى المحورية العالمية.
وحاليا مع فصول الحرب العالمية الثالثة في أوكرانيا وقبلها في دول المنطقة وتداعياها على أمن الغذاء والطاقة وحالة الاستقرار وظهور المشاريع المتعددة الإقليمية والعالمية والتي تريد الاستفادة من حالة الأزمة وإعادة تبلور المشهد الإقليمي وفق مخططاتها ومصالحها ومشاريعها، تبين أهمية فهم وإدراك حالة المشهد الإقليمي وبجوانبه السياسية والاجتماعية والثقافية والأمنية والاقتصادية من قبل مجتمعات وشعوب المنطقة وحتى دولها، حيث أن الإنسان الحر والشعوب والمجتمعات الديمقراطية ومواردها هي المستهدفة أولا ولذلك يظهر أهمية تبلور مسارات وسياقات مجتمعية ديمقراطية شرق اوسطية قادرة على القراءة الدقيقة والشاملة وامتلاك الرؤية والاستراتيجية الصحيحة في المشروع الديمقراطي الشرق أوسطي للمنطقة والأليات المناسبة لذلك.
من المفيد الإشارة أن الحرب الجارية وبفصولها المختلفة وجزئياتها ومواقعها الجغرافية المختلفة من الشرق الأوسط وشمالي أفريقيا إلى أوكرانيا هي بين القوى والأدوات ضمن نظام القطب الواحد الذي ساد بعد مع بداية التسعينات في محاولة منهم لتقاسم النفوذ والهيمنة كما هي الحرب الدائرة في أوكرانيا بين روسيا والمنظومة الغربية بقيادة أمريكا وبريطانيا والناتو.
يستطيع أي متابع أو باحث في شأن منطقتنا أن يرصد مشاريع الهيمنة العالمية و قواها وأدواتها السلطوتية-الدولتية الإقليمية والمحلية ومنها:
مشروع الاحتكارية الرأسمالية العالمية ونواتها في الشرق الأوسط دولة إسرائيل.
مشروع الصين–روسيا .
ومن المفيد القول أن هذين المشروعين هو مشروع واحد من حيث الذهنية والأيدولوجية و السلوك والأدوات المستخدمة والرؤية الاجتماعية وبالمجمل لهما حداثة حياة واحدة ومنطق واحد لتحقيق نفس الأهداف، مع وجود احتكاكات وتنافسات وتناقضات اقتصادية وسياسية وأمنية فقط بينهم، ويتفرع عن هذين المشروعين امتدادات أو أدوات إقليمية تملك بعض المشاريع الإقليمية الخاصة ضمن المشروع الكلي كتركيا وإيران وأثيوبيا وماليزيا التابعة فعلياً واستراتيجياً وأيدولوجياً لهذين المشروعين السابقين .
ويتواجد في المنطقة و الإقليم والعالم العديد من الهياكل والمؤسسات والمنتديات الإقليمية والتحالفات والكتل والأحلاف السياسية والاقتصادية والعسكرية بين القوى والدول التي تم إنشائها في المنطقة والعالم وربما يتم زيادتهم مع حالة الأزمة الأوكرانية وحالة الاصطفافات ولكن أغلبها تم ويتم بذهنية وعقلية سلطوية-دولتية وبغرض مصالح رأسمالية ودوام نفوذ وتحمل بعض الأعباء الإقليمية التي تدخل في النهاية ومع النتيجة في أجندات المؤسسات والقوى المركزية الدولتية العالمية للهيمنة على المنطقة والتحكم بخيارات مجتمعاتها وشعوبها ودولها ومنها إعادة تبلور ورسم المشهد الإقليمي الجديد في المنطقة لتحقيق أفضل النتائج والأرباح للاحتكارية الرأسمالية العالمية وكذلك لدوام استمرارية الهيمنة والسيطرة على الأدوات المفيدة أو بناء قوى معينة جديدة وتحالفات مهمة في صدارة المشهد الإقليمي والعالمي لتحقيق ما تقول الرأسمالية العالمية المهيمنة أنه الاستقرار والسلم الدوليين بعد حالة الفوضى والفصول المختلفة من الحروب والصراعات التي هي نتيجة للواقع التي فرضتها سابقاً وتريد فرضها الآن، ومن هذه التكتلات والاتفاقات والمؤسسات التي تم تخطيطيها سابقاً ويتم تحضيره الآن، يوجد العديد كمنظمة التعاون الإسلامي أو منظمة تعاون الدول الإسلامية و منظمة الدول التركية ومنظمة الدول المصدرة للنفط (أوبك) وجامعة الدول العربية أو جامعة الدول القومية العربية و مسار أستانة في سوريا أو مسار الصفات على حساب الشعب السوري بين روسيا وتركيا وإيران ومجلس التعاون بين الدول العربية الخليجية ومنظمة شانغهاي للتعاون و منظمة معاهدة الأمن الجماعي لروسيا مع عدد من الدول و حلف “كواد” أو الناتو الأسيوي بين الهند واليابان وأستراليا وأمريكا علاوة على الناتو العربي الذي من الممكن أن يتم إعلانه مع زيارة بايدن للمنطقة ولو بشكل اتفاق عسكري استراتيجي أو منتدى تعاون .
ومهما كان للتكتلات الإقليمية أسماء وغايات اقتصادية أو أمنية أو صحية أو مناخية وبيئية لكنها في المحصلة تعبر عن أهداف سياسية واستراتيجية في المشهد الإقليمي وتغيرات ستكون لها تداعيات جذرية على مستقبل شعوب ومجتمعات ودول المنطقة التي ربما حان وقت التغير في بعضها من حيث نظام الحكم أو إعادة رسم الخريطة الجيوسياسية أو حتى إعادة رسم خرائط بعض الدول الوظيفية التي انتهت أدوارها مع التغيرات الحاصلة في السنوات و الأشهر الأخيرة .
من الممكن أن يكون التناقضات الاقتصادية والسياسية والأمنية بين القوى الدولتية الإقليمية والعالمية وحتى حالة التنافس والصراعات بين هذه التكتلات والأحلاف والتشكيلات الاقتصادية والعسكرية مفيدة مرحلياً و بشكل مؤقت في بعض الأحيان للسياقات المجتمعية والديمقراطية والجهود المبذولة في هذه النواحي لإحداث تغيرات وبناء ميول ديمقراطية متزايدة في دول المنطقة وتحجيم بعض قوى الإبادة والفاشية الدولتية كفاشية الدولة التركية والعثمانية الجديدة والتي هي أداة وظيفية تم استعمالها لصد روسيا الشيوعية حينها وتأمين مصالح الهيمنة العالمية في المنطقة وإيجاد الفوضى والإرهاب في السنوات الأخيرة ولكن ربما لن تكون بالأهمية والأدوار السابقة مع إمكانية ظهور قوى توازن إقليمية وتحالفات جديدة كالناتو العربي المحتمل ومنتدى غاز الشرق المتوسط مع تبلور المشهد الإقليمي الجديد والرغبة المشتركة الوليدة نتيجة الظروف والأجواء التي تم رصفها مع حالة الفوضى والتوتر والاحتلال والتدخلات الإيرانية والتركية في المنطقة وفي الدول العربية والمناطق الكردية في جنوب شرق تركيا وفي شمالي سوريا وشمالي العراق.
ولكن هل شعوبنا ومجتمعاتنا مجبورة الاختيار بين هذه المشاريع وتحالفاتهم وانتظار تناقضاتها وتداعياتها، أم لدى مجتمعات وشعوب المنطقة وقواها المجتمعية الديمقراطية ودول المنطقة خيارات أخرى و سياقات وبدائل ومشاريع نهضوية وتنويرية شاملة قادرة أن تكون البديل، وتجسد الثقافة والتاريخ و الماهية والذاتية الشرق الأوسطية المتعددة والمتنوعة قومياً ودينياً ومذهبياً وسياسياً وهويتها وثقافتها التكاملية وتتجاوز حالة المفعول به والشيئية والحالة الأداتية والوظيفية لأحدى مشاريع الهيمنة، وبذلك نكون ذاتية شرق أوسطية وفاعل حقيقة و يكون لنا مشروع ديمقراطي على مستوى المنطقة قادر أن يكون البديل لمشاريع الخضوع والتفتيت والهيمنة ويحقق لنا التنمية والتطور الاقتصادي وحل القضايا العالقة وتحقيق الأخوة والعيش المشترك بين مجتمعاتنا وشعوبنا.
مهما كان انتقاد مشاريع الهيمنة الخارجية والإقليمية ذهناً وسلوكاً وكذلك انتقاد أدواتها من الدولة القومية اقتصادياً وسياسياً و أيديولوجياً وبنية أمراً مهما، إلا أنه بدون تقديم البديل لن تكون تلك الانتقادات والمراجعات والقراءات ذات فائدة للمنطقة وشعوبها الواقعة تحت نير هذه المشاريع وفي أهدافها لمواجهة التحديات المختلفة. وهنا علينا التطرق إلى المبادئ الأساسية التي أشار إليها المفكر والقائد عبدالله أوجلان في مرافعاته وكتبه وخاصة مجلده الرابع عن الشرق الأوسط، أثناء البحث والرصد وصيانة وإنشاء أية بدائل لمشاريع الهيمنة الخارجية والإقليمية وامتداداتهم المضللة والمخادعة والمتواطئة:

،الكلياتية الثقافية:

نستطيع القول أن الثقافة الاجتماعية قد تشكلت متداخلة وضمن كلياتيةٍ متكاملةٍ في جميع عصور التاريخ التي تناهز الخمسة عشر آلاف سنة منذ بداية الثورة النيولوتية في ميزوبوتاميا العليا(كردستان). وحالات تطورها ضمن كلياتيةٍ متكاملة، ترسخت وتسري على كافة ميادين وساحات المجتمع.

تطوير نماذج الحل بمفهوم الهوية الثقافية المرنة :

أن أيديولوجية الدولة القومية والتي تقف بالضد من التكامل والتوحيد، وغير القادرة على التحلي بمفهوم الهوية الكلياتية في الأسفل والأعلى على السواء؛ لا يمكن تخطيها إلا بمفهوم الهوية الثقافية المرنة والمنفتحة الأطراف، وتتميز النماذج التي تتعدى الدولة القومية المفتقرة كليا لنظائر الحقيقة ارتباطا بواقع الثقافة، بأهميةٍ مبدئية. ذلك أنه بقدر ما يتم تجاوز الدولة القومية عقلية وبنية، فإن نماذج الحل ستتفعل بتأثيرٍ مماثلٍ أيضاً على أساس الكلياتية الثقافية. ومثلما الأمر في الواقع القائم، فالتشديد على الحقيقة السديدة أيضا يجب أن يتركز على مناهضة التداعيات الاغترابية والاحتكارية للحداثة المفروضة تأسيسا على التضاد مع ثقافة المنطقة وقيمها المجتمعية.

تطوير نمط التعبير وقوله باعتباره حقيقة:

على أساس استهداف وتجاوز رموز الدولة القومية الخارجة عن الحقيقة. ينبغي اتخاذ الكلياتية والتكامل أساساً من خلال عناصر العصرانية الديمقراطية الثلاثة الأولية، وذلك في وجه الاحتكارية التي طورتها الحداثة الرأسمالية عن طريق ركائزها الثلاث. فمن المحال تخطي حالات الاغتراب والتجزؤ والتبعثر المفروضة على ثقافة المنطقة طيلة تاريخ المدنية عموماً وفي القرنين الأخيرين للحداثة بأعلى نسبة، إلا بالبنى المتكاملة وتعابير الحقيقة.

وعليه يمكننا أن نتطرق إلى مقترح المفكر والقائد عبدالله أوجلان “كونفدرالية الأمم الديمقراطية في الشرق الأوسط” حيث أنه يقدم مقترحات البرنامج السياسي الديمقراطي اثناء قيامه بتقييم وتحليل ثقافة المنطقة و الشرق الأوسط والبحث عن طريق الحل الديمقراطي ومنها:
المظلة الواسعة (التنظيم الجامع للكلياتية الثقافية):

يمكن بناء التنظيم السقفي للكلياتية الثقافية باسم “كونفدرالية الأمم الديمقراطية” في الشرق الأوسط، و لا يمكن أن يعتمد بناء الأمم الديمقراطية إلى حدود الدولة القومية الحالية، و محال تواجد حدود مرسومة للأمم الديمقراطية. قد تتواجد الأقاليم والمناطق والمدن والقرى الوطنية المركزة. ولكن المناطق والأقاليم والمدن الخليطة ومتعددة الأمم والأديان والمذاهب والتي عاشت متداخلة هو الأكثر اعتيادياً بالإضافة إلى الوطن المشترك للأمم. كما أنه لم يجر الحديث عبثا في التاريخ عن بابل المشهورة بـ(72) قوماً. فضلاً عن أن مفهومي المجتمع النقي والأمة النقية ليسا علميين إطلاقاً. ومثلما قد تتواجد الأمم المتحدثة باللغة المشتركة عينها، فالأمم متعددة اللغات أيضا ممكنة. والأمثلة المتعلقة بالأمم متعددة الرموز ليست بالقليلة. بينما النموذج الذي لا مثيل له تاريخياً هو احتكارية الدولة القومية ونمطيتها وتجانسها القسري، علاوة على الطابع الوحشي واللاإنساني لهذا النموذج مع أسبابه ودوافعه.

بناء عليه، فكونفدرالية الأمم الديمقراطية المعتمدة على هويات الأمة المرنة ومنفتحة الأطراف، لا تقتصر على كونها ملائمة للوقائع التاريخية والاجتماعية للمنطقة والشرق الأوسط فحسب، بل وتشكل في الوقت ذاته تعبيرها المثالي أيضاً. وعلينا ملاحظة عدة أمور منها:
ينبغي النظر إلى الكونفدرالية على أنها تكوين للكومونات الديمقراطية، وليس كاتحاد دول، والنظر إلى الكومونات الديمقراطية على أنها إدارة الوحدات والمكونات الوطنية الاجتماعية المنضوية داخلها. وتتحلى تشكيلاتها بامتيازات التنفيذ الأفضل للمبادئ الديمقراطية. وهي من الأمثلة على الإدارة الديمقراطية للمجتمع.
لا تبنى أمم الكونفدرالية بقوة السلطة والدولة، بل بالمبادئ والممارسات الديمقراطية. فالتكوينات القسرية و بناء الأمم المعتمدة على قوة السلطة والدولة، لا تتوافق والمصالح المجتمعية و الوطنية كاملة مهما زعم ذلك وروج له؛ بل تهدف إلى المصالح الأنانية لزمرةٍ أوليغارشية. في حين أن إنشاء الأمة المرتكز إلى الديمقراطية، يغطي مصالح الأمة جمعاء،نظرا لترسيخه طوعيا وبمثل العدالة والحرية.
يعبر مصطلح وحقيقة الأمة الديمقراطية عن أثمن أشكال المجتمع المستقبلي المفعم بالسلام والعدالة والحرية في وجه جنون وطيش وفاشية الدولة القومية.
الكونفدرالية الديمقراطية منفتحة على الاتحادات الكونفدرالية الأكبر والأصغر منها على السواء. وهي تحفز على الكونفدرالية الديمقراطية على الصعيدين القاري والعالمي. كما لا تقتصر على الإعلان عن إمكانية وجود عالمٍ آخر فحسب، بل وتصرح أنها بذاتها العالم الأكثر واقعية وعدلاً وحرية.

المجتمع الاقتصادي والأيكولوجي:

المجتمع الذي تتخذه الكونفدرالية الديمقراطية أساساً هو المجتمع الاقتصادي والأيكولوجي. وأن يكون اقتصادياً فهذا يشير إلى اعترافه بالسوق ورفضه للاحتكارية. إنه يرفض الاحتكارية لعلاقتها مع شتى أشكال الاستغلال والقمع. في حين أن السوق الاجتماعية ممكنة. بينما السوق الخاضعة لحاكمية الاحتكارات لا تخدم المجتمع، بل تخدم الاستغلال فقط. والكينونة الأيكولوجية تدل على التبعية المتبادلة بين الحياة الاقتصادية والبيئة. ذلك أن الاقتصاد غير البيئوي لا يمكنه أن يكون مجتمعيا. بينما النشاط المنساق دوما وراء التكديس والربح الدائمين، يعد مضادا للاقتصاد والبيئة والأيكولوجيا على السواء.
الكومونات هي وحدات القياس الأساسية في الاقتصاد. فشكل ملكية وسائل الإنتاج المقسمة حتى مستوى العائلات
وعلى رأسها ملكية الأراضي– هو غير اقتصادي. وبالعكس، فالملكية الاحتكارية للأراضي ولوسائل الإنتاج أيضا لا
تعتبر اقتصادية. وأشكال الملكية هذه هي وسائل الحداثة والمدنية التي تضر بالاقتصاد.
أما الحل الأمثل، فهو الملكية الكومونالية أوالجماعية للأرض ولوسائل الإنتاج، بغية الحصول على أعلى درجات
العطاء والفائدة في كل ميدانٍ من ميادين النشاط الاقتصادي مع توفر الحق والمساحة والتوازن بين العمل الشخصي والجماعي.
والمرأة المتروكة خارج النشاط الاقتصادي، إنما هي من خلق الاقتصاد أصلا. والمرأة والاقتصادعنصران مرتبطا
ببعضهما البعض ارتباط الظفر باللحم. ولأن المرأة تنتج الحاجات الاقتصادية الأساسية، فإنها لا تؤدي إلى ظهور
الأزمات، ولا إلى تلوث البيئة، ولا إلى تهديد المناخ. لذا، فالقضاء على شكل الإنتاج الهادف إلى الربح، سيعني بداية
حقيقية لتحرر العالم؛ الأمر الذي يعني تحرر الإنسان والحياة والطبيعة.

العلاقة مع الدول القومية:

علاقة الكونفدرالية الديمقراطية مع الدول القومية ليست صراعا ضدها حتى آخر رمق، ولا انصهاراً في بوتقتها. بل هي علاقة مبدئية تستند إلى اعتراف الذاتين الفاعلتين بشرعية ووجود بعضهما بعضاً، وتتخذ الحياة المشتركة ضمن أجواءٍ سلميةٍ أساسا لها. إذ، ومهما أطيحت الثورة بالدولة وأسست أخرى مكانها، فلن يؤدي ذلك إلى تغيرٍ ملحوظٍ في مجال تقديم خدمات للحرية والعدالة. مقابل ذلك، فالتطورات التي ستحصل تأسيسا على الكونفدرالية الديمقراطية، التي تعتبر الدعامة السياسية للعصرانية الديمقراطية، تمتلك المهارة التي تخولها لتأمين العدالة والحرية على المدى القصير والمتوسط والطويل.
الرفض التام للدولة أو القبول التام بها لا يخدمان أهداف الحرية والمساواة والديمقراطية. وتجاوز الدولة، وبالأخص
الدولة القومية، هو مسألة زمن. فكلما فرضت الكونفدراليات الديمقراطية تفوقها وكفاءتها في حل القضايا الاجتماعية،
فسيتم تخطي الدولة القومية تلقائيا. لكن هذا لا يعني البقاء بلا دفاعٍ تجاه هجمات الحداثة الرأسمالية، وعلى رأسها الدولة
القومية. بل ستمتلك الكونفدراليات الديمقراطية قوات الدفاع والحماية الجوهرية الذاتية عن المجتمع في كل الأوقات.
ولا تكتفي الكونفدراليات الديمقراطية بالتنظيم داخل دولةٍ واحدةٍ فقط. وإنما بإمكانها تنظيم ذاتها قدر ما تشاء فيما وراء
الحدود، وتشكيل اتحاداتٍ كونفدراليةٍ عليا، وامتلاك دبلوماسياتٍ مجتمعية ديمقراطية نشطة عائدةٍ لها.

إمكانية حل لوقف العديد من الحروب والاشتباكات والتوترات :

الكونفدرالية الديمقراطية تجسد إمكانية حل لوقف العديد من الحروب والاشتباكات والتوترات التي لا تزال قائمة في الشرق الأوسط، والنابعة من أشكال الظلم التاريخي– الاجتماعي. ودرب الكونفدرالية الديمقراطية في الحل هو درب السلام والعدالة والحرية مقابل عراقيل الحداثة الرأسمالية والدولة القومية، اللتين تعتبران المسؤول الأساسي عن الحروب والصدامات.
وضمن هذا الإطار، فمن الأهمية بمكان بذل الجهود أولا في سبيل وضع حد للحروب والاشتباكات، وتلافي التوترات، وتذليل أشكال الظلم التاريخي. كما ينبغي صياغة الحلول الديمقراطية غير العاملة أساساً بمبادئ وممارسات الدولة القومية، في الأجندة بأقصى سرعة. وهنا على الكرد، العرب، الأرمن، الأتراك، اليهود والسريان الاشوريين وكافة الشعوب أن يتحلوا بأشكال الاستقرار الكومونالي الديمقراطي. ويجب تيسير الأمور في سبيل ذلك. فكلما دام الإصرار على المواقف الدولتية القومية، فلن يكون ثمة مهربا من استمرار الصراع الإسرائيلي– الفلسطيني، والصراع بين الكرد والشيعة والسنة في العراق، وكذلك الحروب والتناقضات العنيفة في كل من سوريا، اليمن، ليبيا، كشمير، أفغانستان، بلوجستان، كردستان، لبنان، السودان وتونس والعديد من دول المنطقة.
ولهذا السبب بالتحديد، ثمة حاجة ماسة للبنى الكونفدرالية الديمقراطية. وأي حل ديمقراطي سيوطد في أي مكانٍ من أماكن الصراع المحتدم في المنطقة، وخاصة في العراق وسوريا وتركيا سوف يستطيع تعميم تأثيره تسلسلياً على كافة المناطق التي تشكل قضية إشكالية. ولهذا السبب أيضاً، فمستقبل الشرق الأوسط يكمن في الكونفدرالية الديمقراطية.

إعادة النظر في الذات:

للحركات المناهضة للنظام حاجة في إعادة تقييم الأوضاع وإعادة النظر في ذاتها مجدداً. فإذ ما كانت القضايا بلغت حدها الأقصى في مكانٍ ما، وكانت الحركات عاجزة عن حلها؛ فمن المحال حل القضايا هناك، حتى لو تفكك النظام وانهار.
من غير الممكن أن تسير الحركات المعنية بقضايا المرأة والبيئة صوب أهدافها بمنوالٍ مبدئيٍ راسخ، ما لم تتخط
الحداثة. من هنا، فالتزام هذه الحركات بكلياتية حركة المجتمع الديمقراطي شرط لا غنى عنه من جهة المبدئية ولأجل
إحراز النجاح. أما خروج الحركات اليسارية، التي هي ثمرة الممارسة العملية للاشتراكية المشيدة التي كانت في الاتحاد السوفيتي القديمة، من كونها متمحورة حول السلطة، وتحولها إلى تنظيماتٍ متمحورةٍ حول الديمقراطية؛ فسيغدو سبيل الخلاص السديد. كما على هذه الحركات أن تنقذ أنشطتها النقابية والحزبية من الاقتصادوية الضيقة، وأن تلحقها بكلياتية الحركات المجتمعية الديمقراطية كضرورةٍ من ضرورات تحقيق الانطلاقة وإحراز النجاح.
كما أن قيام الحركات التقليدية والثقافية والمناطقية والإقليمية والوطنية الأخرى بتغيير تعابيرها بشأن الحقيقة وبناها
المتمحورة حول مختلف مصطلحات ونظريات ومؤسسات الحداثة والدولتية القومية كسبيل حل للقضايا التي تعاني منها، والتحامها وتكاملها بالمقومات النظرية والبنيوية للعصرانية الديمقراطية؛ يعد شرطاً لا بد منه في سبيل إنجازها انطلاقتها
وإحرازها النجاح. إذ إن الأممية الجديدة لن تكون ممكنة، إلا بمدى تجاوز هذه الحركات للحداثة الرأسمالية عموماً
وللدولة القومية خصوصا.

تجاوز السوسيولوجيا الوضعية:

إن التيارات الأيديولوجية والسياسية المناهضة للحداثة الرأسمالية أو للنظام العالمي المهيمن مرغمة على الارتكاز إلى نشاطات علم الاجتماع الذي يتعدى السوسيولوجيا الوضعية. ذلك أن السوسيولوجيا الوضعية من الشركاء الاحتكاريين لتصاعد هيمنة الحداثة الرأسمالية، والذين قدموا الثمار الإيجابية للجهود العلمية الإيجابية والثمينة للغاية في تلك المرحلة إلى احتكارات رأس المال والسلطة كرأس مال التواطؤ معها، وجعلوها شريكا لهم فيها.
بناء عليه، فصلب محاولات علم الاجتماع الجديد يتمثل في تحطيم الاحتكار العلمي المسخر في التهافت على خدمة النظام القائم، وفي استلام محاسن إرثه، وتصييره جميعة وتركيبة عبر انتقاد الواقع العيني، ومن ثم تقديمه كحقيقة. بإمكان كل نشاطٍ أيديولوجي وسياسي واقتصادي مناهضٍ للنظام، أن يحقق النجاح ويستمر في التطور، فيما إذا اتخذ هذه الأعمال أساسا. كما وبالمقدور إنشاء الوحدات الأولية لنشاطات علم الاجتماع على شكل مؤسساتٍ أكاديميةٍ ومعاهد. ويمكن تأسيس هذه المؤسسات في شتى مجالات العلاقات الاجتماعية حسب الحاجة.
من هنا، بالمستطاع تعريف التيار الأيديولوجي بأنه نشاط تكييف المعارف المارة من المرحلة المؤسساتية مع الميادين الاجتماعية. وهو يتميز بإرثٍ غني من الخبرة في ثقافة الشرق الأوسط. وأولى مراحل انتشار الأديان، وعمليات إنشاء الطرائق والمذاهب الدينية، إنما تعكس هذه النشاطات.
بالإمكان اعتبار فعاليات المجتمع المدني الراهنة أيضا مثالاً، ولو ناقصاً، لهذه النشاطات. فالفامينية التي تعد حركة مهمة في المجتمع المدني، هي تيار أيديولوجي أساساً. لذا، فهي ملزمة بالاعتماد على أرضيةٍ علمية. إلا أن التيارات الفامينية تواجه الوهن والفشل مرارا بخصوص تحليل المجتمع الجنسوي ذي الحاكمية الذكورية التي تستند إلى قوة الهرمية والسلطة والدولة المتحكمة بالمرأة بكل وطأتها، وفي تقديم نماذج الحل، وفي تجسيد مساعيها بهذا الشأن في حياتها العملية. من العسير على روح النضال النسائي الحر أن يحرز النجاح، من دون امتلاك شخصياتٍ خارقة. بل وحتى أن نجاحاته المحدودة المتحققة، ستعاني الانصهار بتحامل المجتمع الجنسوي وضغطه اليومي والشامل جدا عليها. بالتالي، فتكوين وممارسة الكومونات الأيديولوجية والسياسية والاقتصادية المتمحورة حول حرية المرأة، أمر لا استغناء عنه.
إن الأساس الضروري لإحراز النجاح أثناء دمقرطة ثقافة الشرق الأوسط، هو تقييم المجتمع المدني كضربٍ من قبائل وكلانات العهد الحديث، وإبداء الموقف ذاته إزاء التقاليد والشرائع الدينية أيضا؛ وبمعنى آخر مقتضب، فالأساس هو تطبيق علم الاجتماع بتنظيمه وفق هذه التقاليد أو إكماله ولحمه مع إرثها حسبما يتطلب الأمر، بحيث يذكر بحيوات المؤسسات الكلانية والقبلية والمذهبية والطرائقية والدينية.
و يجب أن تكون هناك علاقة وثيقة وتفاعل متبادل بين التيارات والحركات السياسية وبين التيارات والحركات الأيديولوجية، مهما كان لهم فوارق فيما بينهم. وكما أن التيارات السياسية المفتقرة إلى القيمة الأيديولوجية لا تكون قيمة كثيراً، فالتيارات الأيديولوجية غير المنعكسة على الواقع السياسي أيضا لن تبلغ مرتبة قيمة ومعتبرة. يظل الهدف الأولي للنضال الأيديولوجي هو تطوير المجتمع الأخلاقي والسياسي أي الديمقراطي. وهذا غير ممكن إلا بالممارسة الأيديولوجية المرتكزة إلى علم الاجتماع، ولن نتمكن من صون وتطوير المجتمع الذي يواجه احتكارات السلطة ورأس المال، إلا بالممارسة الأيديولوجية والسياسية المعتمدة على علم الاجتماع. كما يستحيل تحقيق دمقرطة ثقافة الشرق الأوسط، ما لم تنقية ثقافته السياسية من الإرث الهرمي والسلطوي والدولتي، وما لم تزاول الممارسة الأيديولوجية والسياسية والتي أصبحت نمطا للحياة اليومية إزاء الوقائع الراهنة للسلطة والدولة.

الانقطاع الجذري عن مفهوم وبنية الحداثة الرأسمالية:

شرعت القوى الاحتكارية في أوروبا (مركز هيمنة الحداثة الرأسمالية) في إنجاز الإصلاحات الجذرية داخل بناها بعد أعوام 1950م، وذلك تأسيساً على الدروس والعبر التي استخلصتها من الحروب والاشتباكات والتوترات الدائرة خمسة قرونٍ بحالها. والاتحاد الأوروبي هو ثمرة هذه الدروس. إنه لا يهدف إلى تجاوز الحداثة الرأسمالية، بل إلى جعلها قابلة أكثر للعيش والديمومة.
لذا، فالدمقرطة في ثقافة الشرق الأوسط في ظل تأثير هذه الإصلاحات أمر شاق. وستجذب الحداثة ثقافة المنطقة إلى أجواءٍ يسودها مزيد من التناقضات والصدامات والحروب، عن طريق النتائج الأكثر سلبية للنزعة الاحتكارية. وما من إمكانيةٍ للنفاذ من ذلك، إلا بالانقطاع الجذري عن مفهوم وبنية الحداثة الرأسمالية، وبتبني العصرانية البديلة لها.

والعصرانية الديمقراطية تنبع من هذه الحاجة التاريخية والجذرية. ذلك أن العصرانية الديمقراطية، التي تواجه الرأسمالية والصناعوية والدولتية القومية ببديلها في المجتمع الاقتصادي والمجتمع الأيكولوجي والكونفدرالية الديمقراطية، إنما هي بمنزلة العامل الأساسي للدمقرطة في ثقافة الشرق الأوسط.
تنجز قوى العصرانية الديمقراطية تركيبة جديدة مؤلفة من مناهضي الحداثة من جهة، ومن مجتمع الزراعة– القرية الذي احتل مكانه ضمن سياق الخلفية التاريخية في القطب المقابل دوما للمدنية المسيطرة، وأنساب القبائل الرحالة، والحرفيين وصغار الكسبة، ومناهضي العبودية من الجهة الثانية. بالتالي، وحصيلة مساعي الثورة والإصلاح التي بادرت إليها بالتأسيس على المجتمع الاقتصادي والمجتمع الأيكولوجي والمجتمع الوطني الديمقراطي، فستتمكن من إثبات تفوقها بجدارة بكفاحها الطويل المدى تجاه عناصر الحداثة الرأسمالية الثلاثة.
إن الحديث الذي يؤكد أنه إما الحرب أو السلم سيظل قائما إلى الأبد بين الحداثة والعصرانية المختلفتين والمتناقضتين غير صحيح. وكما يمكن للثورات والإصلاحات أن تتصاعد متحاربة ومتصادمة إلى جانب حملاتها وثوراتها المضادة، فبمقدورها الاستمرار بتطورها على شكل وفاقٍ ضمن أجواء السلم أيضا.
كذلك الحداثة والعصرانية بنيتان على علاقةٍ وتناقضٍ شائكين فيما بينهما، بحيث تكونان منفتحتين لسياقات الحرب المتكاثفة أحياناً، ولسياقات السلم والوفاق أحيانا أخرى. وكينونتهما كبديلين لبعضهما بعضاً، لا تتحقق بالأحداث والسياسات اليومية التي يعبر عنها بمصطلحي “الفترة قصيرة المدى” و”الفترة متوسطة المدى”، ولا بالتغييرات الحاصلة في مراحل نضوج وثبوت النظامين. بل بالمقدور إنجاز التحولات الجذرية في هذا المنحى، كنتيجةٍ للأزمات البنيوية طويلة المدى على صعيد النظام. إن الكفاح ومساعي التحول إلى بديلٍ فيما بين المدنية والحضارة، وبين الحداثة والعصرانية، سواء القائمة طيلة خمسة قرون، أم قرنين؛ إنما هي شأن معني بالمرحلة والسياق، ولا تبرح مستمرة بأعلى وتيرة.
ومثلما الحال في كافة أصقاع العالم، ففي الحقل الثقافي للشرق الأوسط أيضا، سيتم تجاوز الحداثة الرأسمالية المتخبطة في الأزمة البنيوية، عن طريق نمط الحياة البديلة قصيرة ومتوسطة وطويلة المدى، ومن خلال مفهوم (استراتيجية) وتنفيذ (تكتيك) التنظيم والممارسة؛ وستتحقق العصرانية الديمقراطية كعصرٍ رئيسي من خلال قيمها، وستجد بذلك معناها.

وعليه يمكننا القول أن محاولات إعادة تبلور المشهد الإقليمي وربما العالمي ومن منظور الحداثة والمدنية نتيجة الأزمات في بنية النظام الرأسمالي العالمي وأدواتها المختلفة والحرب العالمية الثالثة المخاضة في المنطقة وفي أوكرانيا وغيرها، ونتيجة تداعيات الحروب الدائرة على أمن الطاقة والغذاء وانتشار الإرهاب والوضع الاقتصادي والسياسي والاجتماعي المتوتر والقلق، لن تكون هذه المحاولات ذات فائدة ونجاح أكيد مالم تعترف وتتوافق وتأخذ بعين الاعتبار منحى وسياق الحضارة والعصرانية الديمقراطية لخصوصيات و لمجتمعات وشعوب وأمم المنطقة والعالم المختلفة والمتنوعة، وفي الشرق الأوسط ذات التعدد الثقافي والأثني والديني والمذهبي ورغم كل التحركات واللقاءات والأطر الاقتصادية والسياسية والعسكرية المتشكلة والتي يراد تشكيلها ورغم العلاقات الكثيرة بين دول المنطقة ونظام الهيمنة العالمي ونواتها في الشرق الأوسط والمحاولات المتعددة لإعادة تطبيع العلاقات بين الدول الإقليمية من باب السلطوتية والتمكين في الحكم والاستمرارية في النفوذ والهيكيلية الموجودة للدول القومية الوظيفية والمصالح الدولتية المختلفة والمتوافقة مع مشاريع الهيمنة العالمية على المنطقة وأجنداتها. إلا أن طريق الحلول الديمقراطية و التحولات الوطنية الديمقراطية القادمة من تحركات ومصالح وقوى المجتمعات والشعوب والأمم كبديل وسياق مجتمعي ديمقراطي كالكونفدرالية الديمقراطية لأمم الشرق الأوسط كخيار استراتيجي لأمم المنطقة وإن بالتوافق والاحترام والاعتراف المتبادل بين الطرفين من القوى المجتمعية الديمقراطية من جهة والقوى الدولتية-السلطوية من الجهة الأخرى أو بالعمل الأحادي من طرف القوى المجتمعية إن تم الرفض من الجهات الأخرى من الدولتية القومية والهيمنة العالمية، هو طريق الحل الذي نراه ممكناً ومتوافقاً مع البنية الاجتماعية والثقافية للمنطقة والذي سيحقق الحل الديمقراطي للقضايا العالقة وينجز العيش المشترك وأخوة الشعوب ويعطي الحق لكل المجتمعات والشعوب والخصوصيات في حماية نفسها وإدارة مناطقها ضمن منظومة الكونفدرالية الديمقراطية والاقتصاد المجتمعي والايكولوجي التي تحقق وتحافظ على وحدة المنطقة الكلية وتكاملها الثقافي والحضاري والاقتصادي بريادة المرأة الحرة والشباب الواعي المنظم.

 

 

to top