الجمعة 27 ديسمبر 2024
القاهرة °C

أحمد شيخو يكتب : حرب الحرية لأجل الوجود والهوية

الحدث – القاهرة

لماذا يعتبر يوم 15 أغسطس(آب) من عام 1984، يوم عيد و انبعاث للشعب الكردي وتغيير قدره وتاريخه ومستقبله، و هل من الممكن الحصول على الحرية والحفاظ على الوجود عبر النضال السياسي و الأيدولوجي فقط في الشرق الأوسط.؟
ما هي الظروف والأوضاع التي دفع الشعب الكردي في البدء بالكفاح المسلح منذ 37 سنة ضد دولة الإبادة(تركيا الفاشية) وماهي الأبعاد والتداعيات التي أوجدتها؟
هل للشعب العربي إسهام في انطلاق مسيرة الوجود والحرية والهوية والحياة الحرة في قفزة 15 أغسطس ؟

بعد إنهيار الإمبراطورية العثمانية وتقسيم المنطقة ومع معاهدتي القاهرة 1921 و لوزان 1923 تم ترك الشعب الكردي لممارسات دولة الإبادة (تركيا الفاشية) التي أقيمت على أكثر من نصف أراضي كردستان الوقعة حاليا في جنوب شرق تركيا .
ومنذ البداية ومن أعوام السبعينات والثمانينات أدرك وفهم القائد عبدالله أوجلان وحزب العمال الكردستاني حقيقة وضع الابادة الذي يتم فرضه على المجتمع الكردي وأبعادها الاجتماعية وحقيقة عداء دولة الإبادة التركية، وهذا مما جعل أن يتم خوض كفاح ونضال فعال ومؤثر بريادة حزب العمال الكردستاني، وأن لايتم الوقوع في قفص الإبادة وتحت تاثير الحرب الخاصة لدولة الإبادة التركية.

في المنطقة ما كان بالمقدور نيل أية حرية، من دون وضع الحرب في الحسبان. وما كان بالإمكان الحظي حتى بالهوية الذاتية حينذاك، فما بالنا باكتساب الحياة الحرة. وربما إطلاق تسمية على الهوية الذاتية بحدّ ذاته كان محفوفاً بالمخاطر الكبرى. وفي المحصلة، كان الخطوة الأولى إطلاق اسم للهوية الكردية الذاتية رغم مهالكها. ومن ثم الخطوة الثانية الكبرى المبادرة إلى خوض حرب الحرية لأجل الهوية.
ولكن كانت هناك المشكلة الفلسفية الأساسية التي تتعلق بالعلاقة بين الهوية والحرية. أكان بالإمكان عيش الهوية من دون حرية؟ أكانت الحرية بمعناها الفرديّ ممكنةً من دون هوية مجتمعية؟ ولئن كان من الصعب إعطاء جواب إيجابيّ على هذين السؤالين الأساسيّين، فسيتطلب حينها إضفاء المعنى على العلاقة بين الممارسة والحرية، أي بين الإرادة والحرية.
فطراز القمع والاستغلال المسلّط على الهوية الكردية، ليس كطراز القمع والاستغلال الذي تؤديه أية دولة قومية أوروبية مثلاً. ذلك أنّ أساليب الإبادة الثقافية الطويلة المدى والمستشرية في كافة الحقول الاجتماعية قائمة في كردستان على قدم وساق. وعليه، يستحيل الحديث عن الوجود أو الهوية ما دامت تلك الأساليب سارية. أما الحرية، فلا تسري عندئذ إلا على عناصر الحداثة للدولة القومية الحاكمة، حيث يعيش سواد المواطنين –هناك أيضاً– عبوديةً عصرية. أما بالنسبة للكرد، فيستهلك وجودهم وهويتهم جزءاً تلو الآخر إلى أن يزولا. وكلّ وسائل الصهر والإبادة دائرة على قدم وساق في سبيل ذلك.
موضوع الحديث هنا ليس قمعاً سياسياً واستغلالاً اقتصادياً فحسب. بل إنّ الوجود التاريخيّ الاجتماعيّ والهوية الذاتية بحدّ ذاتيهما يعانيان من الإنكار والإبادة. بالتالي، كان من المحال نيل الحرية بكفاح سياسيّ واقتصاديّ من الطراز الأوروبيّ. كما ولم يكن ثمة داع لخوض حرب الوجود في أوروبا آنذاك. ففيما عدا بضعة استثناءات، فقد كانت الهويات لا تتعرض هناك للإبادة والإنكار، حتى ولو تعرضت للقمع. من المهمّ التمتع بالوجود والهوية، مهما قيل أنه لا قيمة للهوية الذاتية من دون حرية. الوضع مختلف في الظاهرة الكردية. إذ يتمّ إنكار الوجود الكرديّ وهويته. وتنظّم الإبادة التعسفية على الأجزاء المتبقية منهما. والحال هذه، يغدو الوجود والحرية مصطلحين متداخلين بحيث يستحيل تحقّق أحدهما من دون الآخر. أي، علينا بكسب الوجود إن كنا نروم إلى الحرية، وعليك بنيل الحرية إن كنا نطمح في الوجود.
هذا وبالرغم من سيادة الوسائل النفسية والثقافية الكثيفة (الأجهزة الأيديولوجية) خلال مراحل الإنكار والإبادة، إلا إنّ أساليب التطبيق الأولية كانت تستند إلى القوة الجسدية. فالجيش، البوليس، الكونتر كريلا، الميليشيات الفاشية المدنية، المرتزقة، والميليشيات العميلة؛ كلّهم قائمون على نشاطاتهم كشبكة متغلغلة في مسامات الوجود كافة، وبمساندة الناتو والقوى الحليفة الأخرى.
إنّ قوى الإبادة الجسدية المرتكزة إلى خلفية تاريخية عمرها مئة سنة بأقلّ تقدير، تطمع دوماً في استخدام القوى السلطوية والهرمية التقليدية أيضاً. لذا، يستحيل كسب الوجود والهوية أو نيل الحرية؛ من دون وضع حقائق تلك القوى الجسدية نصب العين، ومن دون الشروع بممارسة أو خوض صراع يستهدفها.
إنّ بعض الانطلاقات الضحلة وتيارات القوموية البدائية الملتفة حول الطبقة البورجوازية، والتي تشاهد بين صفوف المتواطئين الكرد العصريين؛ وكذلك الشوفينيات الاجتماعية التركية والإيرانية والعربية المتواطئة مع الدولة القومية الحاكمة؛ تقوم بالتحدث عن كفاح عامّ ومعياريّ لأجل الحرية، دون أن تضع نصب أعينها نظام الإبادة والإنكار المسلّط على الوجود والهوية الكرديّين، ولا وسائل وسبل ممارسات التطهير العرقيّ والتغيير الديموغرافي. لذا، ومهما كانت صادقة، إلا إنها موضوعياً تؤدي دوراً أكثر سلبيةً مما عليه قوى الإنكار والإبادة الواعية لمآربها، نظراً لتغافلها عن حالة الإبادة الجماعية القائمة. فهي تقول أنه يمكن الحظي بالهوية ونيل الحرية بالثرثرة الديماغوجية الزائفة التي لا طائل منها عملياً. أي أنها تحاول فرض قول “آمين” لدعاء لا يستجاب، وكأنها تسعى إلى مداواة كائن على مشارف الإنكار والإبادة باقتراح أساليب أشبه ما تكون بإعطاء الأسبرين مثلاً إلى مصاب بمرض السرطان. وهي بذلك تزعم أنها تداويه، لكنها في الحقيقة تتسبب في وفاته. والنتائج بيّنة للملأ، بالرغم من اختبارها تلك الأساليب لسنوات. بمعنى آخر، فهي تظنّ أنه يمكنها التمتّع التامّ بهوياتها الذاتية وعيشها بحرية عبر الرياء وبخوض نضال أيديولوجيّ وسياسيّ يعتقد بوجود حقوق الإنسان وحرياته التي هي غائبة أصلاً. بل يتعدى الأمر كونه اعتقاداً ليبلغ حدّ الترويج له، سعياً منها للتشويش على وعي الشعب وتقزيم إرادته وحركة حريته ومقاومته ونضاله المتعدد.
من الواضح أنّ النضال بأساليب ووسائل تشلّ تأثير أساليب نظام الإنكار والإبادة –حتى ولو كانت من نوع مختلف– يعدّ شرطاً لا بدّ منه لكسب الوجود والهوية والحرية معاً. إذ لا يمكن للوسائل الأيديولوجية

والسياسية أو الناعمة أن تكون معيّنةً في الظروف القائمة رغم ضرورتها. ولن يصبح تأثير هذه الوسائل سارياً، ولن يناط بدور ثمين؛ إلا بعد الحدّ من وسائل الإبادة والإنكار عبر الأساليب والوسائل الثورية والمقاومة المشروعة.
وبالأصل، كانت تلك الحقيقة، أي جرأة حزب العمال الكردستانيPKK على الكفاح بالوسائل والسّبل والأدوات الصحيحة، مؤثراً أساسياً في حظي الحالة العملياتية الموجودة في انطلاقة PKK بمؤازرة الشعب القوية. بمعنى آخر، فاستراتيجية حرب التحرير الوطنية المضادة للاستعمار، والتي تبنّاها في البداية، كانت تشتمل على حقائق مهمة. ولذلك كانت تلقى الدعم والمؤازرة. فضلاً عن أنّ بعض العمليات المحدودة المنجزة في هذه الوجهة الاستراتيجية، كانت قد لاقت اهتماماً ودعماً خارقين من الشعب الكردي.

كانت الإبادة الثقافية للشعب الكردي وصلت لمرحلة شبه الإتمام وكان الإنكار والإبادة مستمر للقضاء على الأمة والمجتمع الكردي ومحاولة إلحاقه كتابع وذيل ومصهور في بوتقة القومية الدولتية التركية وخصوصاً بعد إفشال الإنتفاضات والثورات الكردية بين 1925 و1940 عبر تلاقي مصالح الهيمنة الإنكليزية وبعدها الأمريكية وحتى السوفيتية مع مصالح السلطات القوموية لدولة الإبادة التركية المستحدثة وبعد العديد من المجازر وجرائم الحرب وعمليات التهير العرقي والتغيير الديموغرافي التي راح ضحيتها الملايين من الشعب الكردي في مناطق باكور كردستان أي شمالي كردستان في جنوب شرق تركيا الحالية وبشكل أكبر في مناطق غربي الفرات وشرقه أيضاً.

كانت الطلقة الأولى وتأسيس قوات تحرير كردستان في 15 آب (أغسطس) بقيادة القائد الشهيد عكيد (معصوم قوقماز) في أروه(دهيه) في منطقة سرت بمنطقة بوطان التاريخية التي إنطلق منها سابقاً أولى حركات الأمة الكردية في التحرير ضد العثمانيين زمن إمارة بدرخان الكردية.
ومن المهم أن نعرف أن الطلقة الأولى كما قالها الثوري الجزائري فرانس فانون ” إن الطلقة الأولى هي ضد الضعف والخوف قبل ان تكون ضد العدو” وتحرر الشعب وأبنائه من الخوف والضعف و بدء بناء الكردياتية المقاومة والحرة والمستمرة منذ حوالي 37 سنة حتى الآن، ولاشك أن قفزة 15 آب كانت صدى لصوت وهيبة المقاومة العظيمة التي أبدها القائد التاريخي للشعب الكردي مظلوم دوغان ورفاقه في سجن آمد (ديابكر) المعتقلون على يد فاشية انقلاب عام 1982م. كذلك هي تتمة لمقاومة حلواني وسويرك في منطقة اورفا ضد عملاء دولة الإبادة التركية وفي نفس الوقت هي استمرار لتدفق خط المقاومة والعيش بكرامة وحرية المستمر منذ رستم زال وكاوا الحداد وكل المقاومين والمدافعين عن الحياة الحرة في كرستان منذ 12 ألف سنة على الأقل كما أكدته البعثات والتنقيبات الأثرية في العديد من المواقع مثل غرابي رشكي في أورفا وفي مغارة دو دري في عفرين وفي بعض القرى في هولير (أربيل).
ولم تكن قفزة 15 آب عسكرية فقط بل أن جانبها الاجتماعي والنفسي والأخلاقي والإنساني والسياسي في المجتمع والشعب الكردي والشعوب التي تناضل لأجل حريتها كبيرة. ومن الصحيح القول أنها إنعطافة تاريخية و عيد للإنبعاث و الحرية وملحمة نوروز جديدة للشعب الكردي وللشعوب المظلومة .

لقد كان قائد قفزة 15 آب الشهيد القائد عكيد من بين المجموعات الأوائل الذين تدربوا مع المقاومين الفلسطينيين في معسكراتهم في لبنان بعد قدوم القائد أوجلان إلى ساحة لبنان وسوريا في عام 1949 وإحساسه باحتمال قرب إنقلاب عسكري دموي وفاشي في تركيا حصل في 12 أيلول في 1980 ، وربما لأول مرة في تاريخ كردستان المعاصر كان التموقع في الشرق الأوسط لقائد ثورة مثل القائد عبدالله أوجلان يتسم بماهية تلبي أحد المتطلبات الاستراتيجية للحرب الشعبية الثورية. ذلك أنّ وضع التوازن الذي تخندق فيه لم يكن يسمح بأية إملاءات قسرية عليّه. بل كان يحتوي الظروف المناسبة لدعم الحرب الشعبية، وليس لتقديم التنازلات بصددها. لقد تحقّق وضع استراتيجيّ بالغ الأهمية. حيث كانت الظروف مناسبةً للغاية لتصعيد الحرب الشعبية، سواء من حيث عقد العلاقات الاستراتيجية، أم على صعيد تأمين وتغطية الدعم التكتيكيّ في حقل التدريب والاحتياجات اللوجستية بوجه خاص.
ولقد كان القول للفلسطينيين والعرب مطابقاً تماماً لما قالوه قبلاً للثوار الأتراك؛ حيث قالوا ما أفاد به أحد القادة الشهداء “كمال بير” بعبارته: “لن يكون خلاص وتحرر الأتراك أو العرب أو أيّ شعب شرق أوسطيّ موضوع حديث، من دون تحقّق الثورة الكردستانية”. بهذا المنوال كان الأداء للدور التاريخيّ والأمميّ. مع ذلك، فقد تم تلبية مقتضيات المهامّ الثورية في تلك الساحة بنحو يشار له بالبنان. ومثلما لم يقوموا بحملة خاصة تستهدف إسرائيل، فقد قدم حزب العمال الكردستاني 12 من عناصره شهداء بعد خوض مقاومات ملحمية، جرّاء احتلال لبنان من قبل إسرائيل عام 1982 في معركة قلعة شقيف. وقد كانت ذكرى هؤلاء الشهداء النبع العين الذي كان الحزب يقتات منه طيلة سنواتنا العشرين التي أمضاها هناك. نسيانهم أمر محال، وذكرياتهم باقية و هم القيم الأممية الحقة والعلاقة العربية الكردية التي تستطيع أن تتحول لشراكة استراتيجية عربية كردية تحقق الاستقرار والأمان والسلم والحرية والديمقراطية للمنطقة وشعوبها ومجتمعاتها، كما حصل بين الكرد والعرب في تجربة الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا وقوات سوريا الديمقراطية.
وعليه فإن قفزة 15 أغسطس هي ميلاد وإرجاع للشعب الكردي من حافة الموت وإحيائه من جديد ورفض الإبادة الجسدية والثقافية ومقاومتها والبدء بمسيرة الحرية والديمقراطية التي هي مستمرة وتدخل عامها 38 كأطول ثورة في تاريخ البشرية لشعب يريد حريته وحقوقه الطبيعية كأي أمة وشعب. وتلك الطلقة الأولى كانت كفيلة بإيقاظ الشعب الكردي من سباته المفروض عليه من قبل دولة الإبادة التركية وقوى الهيمنة العالمية واصبحت مسيرتها و أبعادها السياسية والاجتماعية والإيدولوجية تمثل اليوم أهم فلسفة ومنظومة للنضال والمقاومة والحياة الحرة متجسدة في تعايش مشترك وأخوة للشعوب و تحرير للمرأة و مجتمع كردي ديمقراطي وطني وريادة سياسية واجتماعية ودفاعية كمنظومة المجتمع الكردستانيKCK وقوات دفاع الشعبي ووحدات المرأة الحرة ، ورؤية وبراديغما ونظام بديل لنظام الهيمنة العالمي وحداثته الرأسمالية عبر مشروع العصرانية الديمقراطية وركائزها الأمة الديمقراطية والاقتصاد التشاركي المجتمعي والبيئي.

to top