الأربعاء 25 ديسمبر 2024
القاهرة °C

أحمد شيخو يكتب : خيارات شعوب المنطقة للانتقال للديمقراطية

الحدث – القاهرة

من غير الممكن أن تستطيع شعوب المنطقة التخلص من الأزمات وتخبطها في البلاء والكسل والبطالة والجهل والإرهاب والتبعية و الإبادة الجماعية والتطهير العرقي والتغيير الديموغرافي دهراً من الزمن ، ما لم تنتفض في سبيل الديمقراطية وتعمل من أجلها . والمجتمعات والشعوب التي تعرف كيف تكون ديمقراطية ، تستطيع حينها بناء أوطانها ونظمها وإداراتها، ومختلف أنواع قدراتها ومواردها، وكيف تعطي معنى وقيمة لأشكال كدحها وثقافاتها، وكيف تبني علاقاتها الصحيحة والمفيدة في داخلها ومع محيطها. حينذاك، لن يبقى في الوسط سوى سلوك و كدح الإنسان المثمر والمعطاء والمستقر . ولدى تلاقي و اتحاد هذا الكدح والعمل بعصر العلم والتقنية ، ربما لن يبقى ثمة أثر للخنوع والتبعية و للمجاعة والبطالة وللأزمة بالمجمل . البطالة والكسل والتبعية الذين هم ثمرات من ثمار غياب الديمقراطية ، والتعود على العبودية . وإذا كانت ثمة رغبة حقيقية في القضاء عليهم ، فلن يستطيع المرء إحراز النتائج المرجوة ، إلا ببناء التنظيم الديمقراطي والعملية الديمقراطية و التحول الديمقراطي في الدول والنظم الاقتصادية والسياسية.
إن الصراعات المختلفة ومنها الاقتصادية والسياسية والعسكرية الحقة مرتبطة بمثل هذه العملية الديمقراطية . أما السبل الأخرى ، فهي العوبة من الاعيب النقابات العمالية الصفراء وحداثة النظام العالمي المهيمن وأدواته ، والتواطؤ مع النظم الاقتصادية النهبية . ولا تعني سوى البقاء طيلة الحياة في دائرة عبودية نظام الهيمنة العالمية وأدواتها الإقليمية من الدول القومية كموظف وعامل وقروي وشعوب ودول تابعة لاحول ولا قوة له. والمجتمعات أو البلدان التي عرفت كيف تكون ديمقراطية في التاريخ ( مثال المجتمع الإسلامي في المدينة المنورة اثناء وجود النبي محمد عليه الصلاة والسلام و أثينا وبابل ذات 72 شعب ولغة وغيرهم ) وفي حاضرنا مثل البعض من الدول(سويسرا، إنكلترا و أمريكا وغيرهم) ، هي المجتمعات الأكثر غنى وتفوقاً وقدرة على مواجهة التحديات.
إن التاريخ في الشرق الأوسط والمنطقة بشكل عام ، هو التاريخ الذي قضت فيه الأيكولوجيا ( علم البيئة ومنطقهاالفكري والسلوكي ) نحبها . ولدى اغتراب حضارة المجتمع الذكوري الطبقي عن الطبيعة ، تطور دمار البيئة الدائم بشكل مستمر وألفية بعد ألفية ؛ لتتحول كل غاباتها وأراضيها إلى صحراء قاحلة ، رغم أن تلك الغابات والأراضي هي التي شكلت شرايين الإنسانية الأكثر عطاء . لقد كانت مساحات أولية شقت الطريق نحو الحضارة ، بأعشابها ونباتاتها وحيواناتها. لكن ، وعندما فرض الإنسان العبودية على أخيه الإنسان ، سلط فأسه الظالمة، وتخريباته على الطبيعة بالتوازي. وهكذا تحولت الأراضي الأشبه بجنات النعيم إلى صحراء مجدبة . ولدى غياب الغابات ، غابت الأراضي المثمرة . وبغياب الأراضي المثمرة ، غاب العشب والحيوان ، ومعهما غاب الإنسان . لقد جاع وعطش وبطش وتوحش ، فلم يستطع البقاء. المحصلة ، كانت أن تحولت أغنى الأراضي إلى أفقرها ، وإلى أراضي مهجورة . تلك الأراضي التي كانت تشهد النزوحات والتدفقات إليها من أربع جهات العالم ، غدت أراض يهرب منها الإنسان إلى جهات العالم الأربع ؛ لتتحول إلى براري موحشة وسهوب مقفرة ومناطق قتال وخراب ودمار.
لم يكتب تاريخ الأيكولوجيا في المنطقة ، مثلما لم يدون بعد تاريخ المرأة أيضا . كيفما أنه ضروري معرفة تاريخ المرأة من أجل بلوغ المرأة الحرة ، فمن الضروري أيضا معرفة تاريخ الأيكولوجيا في سبيل بناء المجتمع الأيكولوجي . واي ديمقراطية أو مجتمع يناديان بحرية المرأة ، ولا يستندان إلى وعي البيئة وعلمها وعملياتها ؛ لا يمكن أن يكونا الخيار الحق للشعوب . بشكل اعم ، ولن يكون هناك أي فارق بين الديمقراطية وحركة حرية المرأة ، وبين العوالم

الرجولية التسلطية الأخرى ؛ ما لم تعتمدا على حركة إعادة إخصاب الأراضي ونشر الغابات تجاه عملية التآكل والتعرية الجارية. ومعالجة التلوث وتغيرات المناخ، الحركة الأيكولوجية شرط لا استغناء لنا عنه من أجل المجتمع الجديد الذي هو هدف الجميع من المجتمعات والشعوب .
الأيكولوجيا ليست اقتصاداً فحسب . بل هي ذهنية . وهي تعني العودة مجدداً إلى المفهوم المفقود للطبيعة الحيوية والمقدسة . فبدون تحلينا بوعي خاص إزاء الطبيعة النابضة بالحياة ، المتحدثة إلينا ، الموجودة معنا ، والموجدة إيانا ؛ فالحياة مع طبيعة جامدة مفتقرة لقدسيتها ، ومع أراض سوداء داكنة كالموت المظلم ، ومع مناخ مضطرب ليست سوى حياة غابت فيها القيم بنسبة كبرى مرحجة لمصائب كبيرة.

لا يمكن أن يشمل وعي الطبيعة مسألة تلوث المياه والهواء فحسب . بل إنه يعني الالتحام الكلي بالطبيعة ، والتحول من الطبيعة الممسوحة والمقسمة إلى أجزاء وفتاتات ، إلى الطبيعة المتكاملة . هذا ما يعني بدوره بلوغ المجتمع الديمقراطي والتشاركي . ثمة تداخل عظيم هنا ، وتبجيل لسلسلة سياق التطور الطبيعي الخالق للإنسان . بمقدورنا خلق المجتمع الطبيعي ، الذي حققه المجتمع السابقة تلقائياً ، في راهننا ، عبر العلم والتكنولوجيا .

قد تبدو المشاكل الأيكولوجية مجرد خيالات وفانتازيا ورفاهية فارغة، مقابل المشاكل الدموية التي يعانيها الشرق الأوسط ودول المنطقة وشعوبها ومجتمعاتها . لكن علينا أن لا ننسى أنه بخيانة الأيكولوجيا بوعي تم بلوغ هذه المشاكل الدموية والمجاعية والبطالية والأزمات مراحل متقدمة . وإذا لم نعتمد الحكمة هنا ، فلن يمكننا الحديث عن مجتمع سليم دون الاعتماد على الأيكولوجيا ولن يكون بالمقدور تحقيق التحول الديمقراطي و تأسيس مجتمع ديمقراطي و تحقيق حرية المرأة .
لقد بلغت مجتمعات وشعوب ودول المنطقة و الشرق الأوسط بكافة شعوبها مفترق الطريق . فاتجاهات الويلات المتحدة الأمريكية كقوة مهيمنة بعيدة كلياً عن إيجاد الحل . بالمقابل ، فسلوك جديدة شبيهة بفيتنام ، أمر غير منطقي . هذا ومن المستحيل تكرار تجربة تركيا المعاشة في العشرينات من القرن الماضي . أي لا يمكن تكرار تجربة تركيا التحررية الوطنية ، أو فييتنام التحررية مثلما كانت في الماضي ؛ لأسباب عديدة أولها غياب التوازنات السوفييتية. وحتى لايمكن تكرار تجربة الدول العربية في بدايات نشؤها والأهم من ذلك عدم بقاء نظام الهيمنة العالمي على حالتها الماضية ، فشروط المرحلة التاريخية وأهدافها ، وحروبها وصراعاتها التنظيمية ، ستكون مختلفة .
يتمثل الأسلوب الأكثر معنى تجاه أمريكا الراهنة وشركائها ، في تحقيق التحام قوى الحرية للشعوب والمجتمعات بمنهاج ايكولوجي وديمقراطي وتحرري مبدئي قابل للتنفيذ ، وبأجهزة تنظيمية واسعة الآفاق ؛ والعمل على تفعيلها بموجب ذلك . قد تكون مثل هذه الحرب أقل دموية ، لكنها الأكثر وعياً ورسوخاً في نتائجها . يمكننا تطبيقها بالتوافقات المبدئية إن تطلب الأمر . وإلا ، فبالاعتماد على القوات الدفاعية الذاتية، لتحقيق الديمقراطية في القرية والمدينة والجبال والصحارى وكل الأماكن.

لا فرصة للنجاح من أجل الشعوب العاجزة عن دمقرطة ذاتها. في حين لو تحركت الشعوب عبر مؤتمراتها الممثلة لإراداتها الحرة الحقيقية بالشكل الاعم ، وعبر مختلف أنواع المنظمات المعنية بالمجتمع المدني والتعاونيات ومجموعات النشاطات التشاركية والاتحادات الديمقراطية ؛ فستجد أنه ما من قضية معنية بالمجتمع إلا وستكسبها . وإذا ما حصل نهوض الشعوب بناء على هذه الخلفية في المرحلة التاريخية الجديدة للشرق الأوسط والمنطقة فلن تكتفي حينئذ بإفراغ ممارسات حداثة نظام الرأسمالي العالمي الماضية وما شابهها ، بل وستقوم بالريادة للدمقرطات الأكثر سلماً وأمناً، عبر التوافقات المبدئية والمفعمة بالمعاني. بهذه الشاكلة يمكنها تحقيق نهوض يليق بحضاراتها التاريخية العريقة . إن قيل : اين بقي دور الثوار ؟، فسنقول أنه عليهم ، قبل كل شيء ، معرفة الوصول إلى حقائق علم الاجتماع، ذلك أن الثورية المفتقرة إلى علم الاجتماع ـ أو التحول الاجتماعي المفتقر إليه ـ قد تمتزج أحيانا بالجنايات والخيانات ، دون أن تنتبه لذلك . والسبيل الوحيد والفريد لإعاقة ذلك ، هو إنقاذ علم الاجتماع من قبضة قوى السلطة وتوابعها المعرفية ، وإعادة بنائه ، وتأسيس مدارسنا وجامعاتنا وأكاديمياتنا الخاصة بعلم الاجتماع الذي نرمي إليه . كذلك يتجسد في العمل بذهنيتنا المعتمدة على علم الاجتماع أساساً ، في مجمل سياستنا . قد يكون الأهم من كل ذلك ، هو سيادة الأخلاق الاجتماعية ، وإبداء الصبر والإيمان والعزم اللامتناهي للسير في السبيل الصحيح المرسوم في السياسة الأخلاقية الديمقراطية . هذا بالإضافة إلى عدم الرجوع إلى الوراء ، عدم الوقوع في الخيانة ، وبالتالي عدم التذرع بأي شيء من أجل ذلك . وكذلك تناغم وتوافق الأخلاق لحظة بلحظة مع عالمنا الذهني الممزوج بالعلم ؛ والعيش الدائم مع الوعي . في هذه الحالة ، عندما يتكاتف العلم والسياسة والأخلاق ، سنرى بأم أعيننا أنه ما من قضية اجتماعية إلا وسنتغلب عليها ، وسنفلح في تسخيرها في خدمة البشرية عموما ، وفي خدمة

شعوب منطقتنا ، التي هي جزء لا يتجزأ من البشرية ، على وجه الخصوص . فأخلاقنا التي تمثل وجدان وضمير التاريخ والمجتمع ، إنما تأمرنا بممارسة سياسة ديمقراطية مفعمة بالوعي كهذه وبتأمين التغير والتحول الاجتماعي والديمقراطي المراد والمرتاى عبرها :

وعليه ؛ ثمة ثلاثة خيارات مبدئية أمام شعوب الشرق الأوسط والمنطقة في عصر الانتقال إلى الحضارة الديمقراطية أو الحداثة الديمقراطية :

استمرار الوضع الراهن:

أي النظام القائم كما هو. لقد انتهى عمر النظام المحافظ على وجوده بالانتفاع من نظام التوازنات الذي ساد القرن العشرين. تبذل المحاولات لتخطي حالة الأزمة الحالية المتسارعة مع انهيار الاشتراكية المشيدة ( الاتحاد السوفيتي ومادار في فلها )، والمؤدية بالتالي إلى زيادة وزن التقطب الأحادي ؛ عبر إمبراطورية الفوضى ، في ظل الهيمنة الأمريكية. تتزامن حملة العولمة الكبرى الثالثة مع هذه المرحلة أو حتى يمكن تسميتها بالحرب العالمية الثالثة. كما تقف الجماهير الفقيرة بمجتمعاتها وشعوبها حجر عثرة على درب زيادة الطلب المتعاظمة كالسيل الجارف مع الثورة العلمية والتكنولوجية . من غير الممكن أن تبلغ العولمة مآربها ، دون حلها لهذا التناقض . ويرى في البنية الثابتة الراهنة للدولة القومية المتصلبة والمتزمة عائقاً أساسياً . من هنا ، يزداد احتمال إعادة بناء هذه البني وتخطيها، بموجب سيادة الأنانية و الفردانية والتحول الليبرالي ، والدمقرطة .بالمقدور رؤية هذا التطور ذات الجوانب الإيجابية والسلبية معاً بالنسبة للمجتمعات والشعوب ، بأنه مؤثر موضوعي في التسريع من اليقظة والفاعلية والحركية الديمقراطية . بالتالي ، تؤدي القوة المهيمنة للنظام القائم من جهة ، واليقظة والحركية المتزايدة للشعوب من الأسفل من الجهة الثانية ، إلى شل تأثير استمرارية الوضع الراهن تصاعدياً . هكذا تزداد عزلة هذا الوضع القائم الساعي لتحويل العقم إلى طراز حياة راسخ ، ولتمويه وجهه بالمكياج لدى ملاقاته المشقات، ولإطالة عمره بالممارسات الاستفزازية بين الفينة والفينة . يسعى النظام القائم المزداد تهيجاً وغضباً وفظاظة ، إلى التملص وهدر الوقت ، لعجزه عن كسب دعم الأنظمة المعتمدة على أمريكا وروسيا ، مثلما كان في الماضي . هذا ومن غير الممكن حصوله على النتائج المرتجاة باستخدام الديماغوجيات اليمينية واليسارية المزيفة القديمة أو المفاهيم القوموية والإسلاموية . ومن المحال الحظي بالدعم من اجل ضبط المجتمع والدولة والتحكم بهما عن طريق الفاشية أو الاستبداد أو نظام الفرد الواحد. فازدياد انهيار الدولة القومية القائمة المفتقرة لمؤازرة الشعوب مع مرور الأيام ، والتحام شريحتها العليا بالبنية المهيمنة العليا ، وازدياد بحوثات حشود الشعوب الغفيرة في الأسفل عن النظام الديمقراطي ؛ كل ذلك سيشل من فاعلية هذا الخيار القسري ، ليتركه مهمشأ تماماً . قد يكون بمقدور هذه المرحلة الحالية المتكاثفة طرداً في الشرق الأوسط ، أن تخرج المشاكل المتفاقمة باستمرار من كونها عائقاً وحجر عثرة ، وإن لم تؤد إلى حلها بشكل تام . تتخبط كل دول المنطقة ومنها بعض الدول العربية ، وتركيا وإيران ، و حتى مجمل دول المنطقة بين كل من الوضع الراهن والتغيير . لذا ، فهي عاجزة عن حسم قراراتها بشأن المرحلة المقبلة . لكن الاحتمال الأكبر الوارد هو ولوجها في مرحلة التغير في ظل التأثير المتكاثف لمشروع الشرق الأوسط الكبيرأو الجديد ، الذي تفرضه أمريكا من الأعلى من جهة ؛ ولمشروع المجتمع الديمقراطي وحرية المرأة والأيكولوجي ، الذي تفرضه الشعوب من الأسفل من الجهة الثانية .

النظام المختلط الديمقراطي المحدود :

والذي يغلب عليه الجانب العملي . حيث مر الزمن على عهد تأسيس النظام الذي بنته الهيمنة العالمية ماضياً بإرادتها الأحادية . من العسير أن تستطيع أمريكا ، القوة المهيمنة الجديدة ، تأسيس نظام مشابه بإرادتها الأحادية . ومقابل ذلك ، باتت الجماعات القومية المختلفة ، التي أسست أنظمة الدولة القومية في الماضي القريب ، مفتقرة إلى مهاراتها في حل المشاكل ، لتتحول بذلك إلى مصدر للمشاكل في الداخل والخارج على حد سواء. اما المواقف المستقلة كلياً، والتي برزت في فترة معينة من مرحلة التوازنات بين الأنظمة ، فتزداد مشقاتها تصاعدياً . يبرز العصر التبعية المتبادلة إلى الأمام . كما تسرع حملة العولمة الكبرى الثالثة من وتيرة هذه المرحلة . ويتخلى زمن العلاقات الدولية ( العلاقات بين الدول ) عن مكانه لزمن العلاقات بين الشركات والمؤسسات ، بحيث تتحول الدولة القومية إلى دولة شركاتية أو دويلات للشركات الكبرى. كما يترك رأس المال الوطني مكانه لرأس المال بين الشركات وعلى الصعيد العالمي. من جانب آخر ، تبدي الثقافات الذاتية والمحلية حيوية عظمى ، بحيث تصبح المحلية قيمة بحد ذاتها . أصبح بالإمكان تعريف هذه المرحلة بالعصر الذي تبرز فيه العولمة والمحلية في الصدارة في ظل هذه المؤثرات . أما النظام السياسي المتزامن مع هذه الظاهرة ، فمن المحال أن يكون على شاكلة الديمقراطيات البورجوازية القومية الماضية ، ولا بشكل استبدادات أو توتاليتاريات التحرر الفاشية أو الديمقراطيات البورجوازية القومية الماضية ، ولا بشكل استبدادات و توتاليتاريات التحرر الوطني والاشتراكية المشيدة للقوميات المتخلفة . بل يمكن أن يصبح ديمقراطيات مختلطة مرتكزة إلى عيش كلا النظامين معاً . أما الأسلوب الأكثر ظهوراً ، فهو التحالفات الديمقراطية للمجموعات الاجتماعية ذات المكيال القومي والمحلي . في حين أن زمن إدارات الدولة والإدارات الداخلية لليمين واليسار ذي الحزب الواحد القديم ، يتخلى عن مكانه للإدارات المتعددة الأحزاب والكيانات المجتمعية ، وذات التأثير الديمقراطي . هكذا يغدو بمستطاع كل مجموعة قابلة لتمثيل ذاتها ، بأن تكون على تماس قريب مع النظام العالمي ، ليزداد التالف معه ، وليتم امتصاص زيادة العرض الموجودة . يزداد احتمال سيادة هذه المرحلة المعاشة في عموم العالم ، داخل بلدان الشرق الأوسط أيضا . فضرورة اجتياز البني القائمة الأقدم ، تجعل من هذا الخيار أمرأ راهنا . من هذه الحاجة المهمة تنبع أهمية مشروع الشرق الأوسط الكبير لأمريكا . أما بالنسبة لشعوب الشرق الأوسط ، فغياب الوعي والتنظيم والفكر اللذين يخولانها لتطوير ديمقراطياتها الذاتية بمفردها ، وكون إراداتها ممزقة أشد تمزيق ، وتيقظها وحركيتها حديثة العهد ؛ كل ذلك يصعب من احتمال تكوينها لخيار ديمقراطي بإرادة

أحادية ، ويتركه مجرد يوتوبيا أو أهداف معلقة حتى إشعار آخر . رغم ذلك ، فهذا ما يفرض عليها تطوير ديمقراطياتها الداخلية بكل عناية ودقة وكفاءة ، عبر عقد الوفاق المبدئي ؛ كوظيفة لا غنى عنها ، ولا يمكن إمهالها أكثر . تزيد الخاصيات الحرة والخلاقة لمساحة الفوضى البينية ، من أهمية عصر الانتقال والتحول ، وتفسح المجال أمام الشعوب لتحتل الصدارة في الديمقراطيات المختلطة .

الأمة الديمقراطية:

وهو بناء المجتمع الديمقراطي وحرية المرأة والأيكولوجية(الثورة البيئية) للشعوب ، بحيث لا يهدف إلى الدولة، ويولي الأولوية للأخلاق والسياسة الديمقراطية والديمقراطية المباشرة. وهذه المهمة راهنة ومرحلية في كل زمان ومكان ، لتسيير هذه القضية النبيلة بخطى متواضعة وسديدة . قد تعاش بكثافة منخفضة أو عليا في بعض الأزمان والأماكن . إن تعلم الشعوب والمجموعات ومختلف المجموعات الحرة كيفية عيشها بتطويرها ديمقراطياتها الداخلية ، وبتحقيقها حرية المرأة الاجتماعية ، وبتلبيتها احتياجات المجتمع الأيكولوجي ؛ سيقربنا أكثر فأكثر ، ومع مرور كل يوم ، من هذا المجتمع وديمقراطيته . أما المجتمعات والشعوب العاجزة عن إدارة ذاتها دون الاعتماد على الدولة ، فمن المحال أن تحقق الحرية والمساواة التي ترمي إليها . إن الديمقراطية والتشاركية والحرية المأمولين من الدولة ، هما في الحقيقة إنكار للديمقراطية والتشاركية والحرية . حيث أسفر هذا الأسلوب المجرب مئات المرات في التاريخ ، عن تعزز القوى التسلطية والاستغلالية في كل مرة . أما في الديمقراطيات غير الهادفة إلى الدولة ، فالمجتمعات والشعوب مضطرة لتأمين دفاعها الذاتي بذاتها . وعلى قوى الدفاع الذاتي أن تعرف كيف تصون كل القيم الواجب صونها ، وعلى رأسها ديمقراطية المجتمع والشعب ، في كل مكان يستدعي وجودها في القرية ، المدينة ، الجبل ، البادية والضواحي وفي كل الاماكن ؛ وذلك تجاه النهابين والسلابين والمختلسين و المستبدين والأدواة والسلطويين .

وفي الحقل الاقتصادي ، بالمقدور تطوير اقتصاد لا يعتمد على التبضع والربح الأعظمي، ويلائم سلامة الشعب واحتياجاته ، ولا يضر بالبيئة . وذلك عن طريق الاتحادات والتعاونيات الاقتصادية الديمقراطية ومختلف مجموعات الأنشطة الأخرى . ولا يمكن للبطالة ، التي تعد خاصية بنيوية في النظم الاستعمارية والسلطوية والقوموية والإسلاموية ، أن تشكل معضلة في مجتمع الشعب الديمقراطي والأيكولوجي والذي يتحقق فيه حرية المرأة، و يمر السبيل الأصح للعبور إلى الديمقراطية والتشارك المفعمة بالمساواة ، من هذا المجتمع ، الذي تلعب فيه الأخلاق والسياسة المجتمعية دوراً أساسياً عوضاً أو مساعداً أو مكملاً للقانون والسياسة العامة، ويتميز برفعة الشغف بالحياة عبر التدريب والتعبئة الخلاقة وبناء الذهنية التشاركية الديمقراطية ، ولا يعترف في داخله بالحرب ، بل تسوده العلاقات الأخوية والودية والصداقات والسلام . إذا ما عملنا على تحقيق الالتحام بين المجتمع والأنظمة الإثنية الأقرب إلى المساواة ، والتي طالما شهدتها شعوب الشرق الأوسط دهراً طويلاً من التاريخ من جهة ، وبين الإمكانيات العلمية والتكنولوجية الراهنة من جهة ثانية ؛ فإن العيش في المجتمع الديمقراطي والأيكولوجي والمتحقق لحرية المرأة الأكثر اتساعاً آفاقه ، سيجد معناه كقيمة مثلى ونبلى.

وعليه نجد أن مجتمعات وشعوب المنطقة ومع كل حالة الأزمات المستفحلة والتدخلات الخارجية ومشاريع الهيمنة والنهب، لديها الفرص والظروف والقدرات الذاتية في العمل على الاستفادة من كل الظروف والتحديات والتناقضات والعمل على الدفع والمثابرة لتحقيق وإنجاز عملية التحول الديمقراطي في الكيانات المفروضة منذ مئة سنة الأخيرة وسلك كل دروب التوافق والاعتراف المتبادل في ظل مساحة الحرية للمجتمعات والشعوب مقابل كيان الدولة وتدخلاتها وتبعيتها الخارجية. والوصل إلى تحقيق المجتمع الديمقراطي والأيكولوجي وحرية المرأة وبالتالي إيجاد بديل مجتمعي ديمقراطي عن مشاريع الهيمنة والنهب والاستبداد والتشرذم إما بالتوافق والاعتراف المتبادل بين كيان الدولة والمجتمع أو بالقدرات الدفاعية الذاتية المجتمعية في حال استمرار عدم القبول والاعتراف المتبادل، الذي من الوارد أنه لن يستمر بحسب التداخل والتفاعل وإمكانيات التشارك والأخوة والظروف الراهنة والتغيرات التي تريد إجرائها القوى العالمية في بنية الكيانات القومية والأدواة الإسلاموية وفي بنية وذهنية ومنطقها لتأمين استمراريتها وهيمنتها ولو بالتشارك والقبول ببعض التغيرات الديمقراطية ومطالب الشعوب إن تكاتفت الشعوب وخلقت تحالفات ووصلت لمرحلة من القوى الفعلية لاتستطيع القوى العالمية تجاوزها عندما تريد تأمين مصالحها واستراتيجياتها العالمية.

to top