الإثنين 23 ديسمبر 2024
القاهرة °C

أزمة التأليف بين الأديب والناقد

آزاد كردي

لا أريد أن أكون متشائماً أكثر حيال ما يكتب ويطبع من أدب بشكل عام ودواوين شعرية بشكل خاص في هذه الآونة أو على الأقل ربما مشاركته في الفعاليات الثقافية والأدبية أو على مواقع التواصل الاجتماعي. وتعد الكثرة من الذي ينشر إنما يدور في فلك الغث السمين دون أن يبعث ذلك التأثير والإحساس الخفي في تحريك مشاعرنا ووجداننا تجاه قضايا مختلفة تمس واقعنا بأي حال.

ويكاد يجمع جمهور النقاد على أن اللغة الشعرية، هي تلك الحالة الرقيقة التي تتبدى من خلال اللفظ أو المعنى، فالأمر في أدب الوقت الراهن بعيد عن جوهر تلك الحقيقة برمتها. ومهما يكن، فالشعر –الآن- فشل في بلوغ التأثير الجمالي وكأن هنالك كثيب من رمال الكلمات تذروها الرياح أينما تشاء فلا أمل يرتجى منه أو فائدة ما، كما أن النقاد ليسوا بأفضل حال من الأدباء أنفسهم، فهم بعيدون عن الذائقة النقدية التي تعتبر الأساس الصحيح لفهم النص الأدبي، وكأنما حال الأدباء مع الشعر في واد وحال النقاد مع النقد في واد آخر، حتى أني أكاد أجزم أن هناك حَيرة أدبية في الوقوف على ملابسات غياب العلاقة بين النص ومتلقيه، أو على الأقل بين الشاعر والناقد، كما ينبغي.

التأليف بين إشكالية التوظيف وأزمة التجربة

ولاشك أن غياب النقد الأدبي عن ممارسة وظيفته الحقيقية في هذه الفترة التي اختلط بها الحابل بالنابل، أفسح المجال لظهور المتطفلين أو أدعياء الشعر أو متسلقي الأدب على صهوات غيرهم، بما يتوافق مع غاياتهم ومصالحهم وأهوائهم الشخصية لكن هذا الأمر برمته عند هؤلاء لا يعدو كونه “بروبا غندا” شعرية لا غير يستجدى فيها غزو قلوب المعجبات أو المعجبين فحسب.

 وأمام هذا الواقع الأغبش، بات النص الأدبي يتأرجح بين أفواه الأدعياء فباتوا في عجلة من أمرهم لطباعة نتاجاتهم الأدبية في كتب على الرغم من عدم نضج التجربة الشعرية عند البعض منهم، وما أرمي إليه أننا عند قراءة بعض النصوص لهؤلاء بات الأمر كما لو أنه استعراض في حلبة الشعر أو أنه استعجال في دخول عالم الشهرة، حتى غدا النص الأدبي أمام كثيب من الكلمات المتلاصقة والمتراكمة فوق بعضها البعض؛ لا يحمل في ثناياه أية أحاسيس، لا بل قد تكون القصيدة برمتها جثة هامدة قبل ولادتها على فم القلم، لا حياة فيها البتة، وهذا ما نود أن نتساءل عنه، لماذا وصل الشعر إلى مرحلة ما عاد قادراً على الإمتاع والمؤانسة وبات في حلبة الاستعراض والشهرة.

وأين هم النقاد الذين يهتدي بهم الشاعر للاستدلال إلى بوصلة الحقيقة التي طالما كانت مثار سجال حاد بين الشعراء في أيهم كان الأشعر لا سيما في عصر الجاهلية والمخضرمين في حين كانت الريادة للأكثر فحولة منهم.

التأليف بين جدلية النص والمتلقي

ولا غرابة أن نجد في التاريخ الأدبي أمثلة كثيرة على أن قول الشعر كان في أول عهده يمر عن طريق الذائقة النقدية التي يعيشها الناقد تجربة مريرة من الخبرات التي تمتد لعقود طويلة في التماس الحسن من الرديء في الشعر.

فيما نشأ النقد في ظروف أتاحت له القيام بدور الرقيب قبل أن ينطلق الشعراء في قول الشعر أي بمعنى أن الشاعر كان لا يؤذن له بقول الشعر حتى يعاود ناقداً من أجل أن يجاز أو يأخذ الرخصة الشعرية منه، وخير مثال على ذلك؛ الشاعر والناقد النابغة الذبياني الذي قضى شطراً من حياته الأدبية في النقد وتصويب شعر الشعراء الذين كانوا يتوافدون على قبته التي بناها من أجل التحكيم في النصوص الأدبية قبل أن يأذن للشعراء فيما بعد بإذاعة الشعر وروايته بين الأمصار. وأياً يكن، فثمة إشكالية أخرى بين جدلية النص والمتلقي فيما يسمى بالنقد “أفق المتلقي” إذ من المفترض وجود علاقة تواصل وتفاعل فيما بينهما عبر منظومة من المكونات الجمالية والوظيفية بحيث تعمل على كسر هذا الأفق وخلق مساحة جمالية، لكن تفاوت هذا المصطلح سمح بوجود النتاجات الأدبية المتفاوتة، وهو ما يعني أن هناك عدم تماثل في فهم النص من متلقٍ إلى آخر بحسب أفق التجربة بين الأديب والمتلقي.

الشعرية بين المصطلح وإشكالية التأليف

لم يتمكن أيٌّ من الأدباء والنقاد الوقوف إزاء وضع تعريف واحد لمصطلح الشعرية، وذلك لأنه يعد من أكثر المصطلحات القديمة والمعاصرة اختلافاً التي تختلف حولها التيارات الأدبية والنقدية أيضاً. ويمكن أن نعزو ذلك إلى أن معيار الشعرية مختلف زمانياً ومكانياً ومختلف أيضاً بين الأدباء والكتاب أنفسهم. وجلياً أن نذكر أن الإنسان منذ القدم قد عرف الشعر حيث اهتم الإنسان بعدد من الدلالات الفنية كان على رأسها؛ مفهوم الشعرية. وبذلك لم يستطع الأدباء والكتاب اليوم الوصول إلى تعريف للغة الشعرية بالشكل الذي يوائم بين قوة النص الأدبي مع متطلبات العصر. فتجد في هذه الأيام جمهور الكتاب والأدباء لا يملكون التجربة الفنية القادرة على التأثير بجمهور القراء، فكانت نتاجاتهم الشعرية هزيلة خالية من التجربة الفياضة، فقد صار همّهم إصدار باكورة أعمالهم بسن مبكرة وهذا لا يخفى أثره العميق في أن نتاجاتهم فاقدة للنضوج الأدبي ما أدى إلى وجود العشرات من المؤلفات التي تخلو من شاعرية حقيقية. لا ريب أن هذه النتاجات ستثير في نفس القراء مشاعر الملل السريع كون القافية والروي والصور قد تكررت في أكثر من موضع سواء عند الأديب والكاتب نفسه أو عند غيره، ستغدو خالية من الإحساس وأقرب للوجدانيات والخواطر.

فقدان التجربة الفنية عند الأديب والناقد

ينظر للشعر على أنه ليس واحداً وذلك مرده أن التجارب الشعرية تختلف باختلاف اللغة الشعرية، فمن ذلك النثر الذي يقابل الشعر، فهو عند غالبية الأمم يمثل القاعدة بينما يمثل الشعر استثناء: “إن لغة الشعر تضع منطقها الخاص بها وتخلق وجوداً متميزاً لها وتصعب من محاولة الإمساك بخيوطها المتداخلة، فهي بهذا التمويه والغموض والانزياح أضحت أقدر على رؤية أكثر جمالية”. وتؤثر اللغة الشعرية بتمايز قوة النص الأدبي من أديب إلى آخر إذ تكسبها متانتها وقوتها وصورها وغيرها، فهي المعيار الرئيس الذي يتحاكم إليه في تلقي النص سواء من الجمهور أم النقاد أيضاً. لقد كان الشعراء في العصور المتقدمة يعنون عناية كبيرة بجودة القصيدة في بنيتها الشكلية والمعنوية حتى لا تكاد تعثر في القصيدة على البيت الشعري الضعيف لأنها سبكت بقريحة لها تجربتها العميقة بالحياة وبصيرة في التصرف باللغة الشعرية بحذاقة مطلقة، أما ما يحدث في الوقت الراهن من قبل الأدباء والكتاب، فاستسهلوا التأليف حتى وصلت النتاجات إلى درجة الإسفاف؛ بسبب تسرعهم بالكتابة وانصرافهم عن القراءة الدائمة، وبناء على ذلك يزداد مفهوم الشعرية أهمية في الدراسات النقدية الحديثة، إذ يمكن من خلالها تمييز وتقييم الخطاب الشعري العادي من الممارسة الفنية الإبداعية؛ باعتبارها تمنح النص الأدبي علاقات مؤثرة بينها وبين الجمهور. ولا شك أن غياب الناقد عن إجراء دراسات نقدية عن كثير من القضايا الأدبية المستجدة، أفقد النقد جوهره الحقيقي، وبات مجال الدخول إلى ميدان الأدب مطية لمن شاء الأمر الذي اتسم بكثرة النتاجات الأدبية في الآونة الأخيرة دون أن يكون لها أي تأثير عند جمهور القراء. فحريٌّ بالناقد أن ينفذ بكل ما أوتي من خبرة ومهارة في تفاضل الأدباء والكتاب في تناول قضايا التأليف والكتابة المعاصرة التي تبدو حالياً في حاجة وضرورة ملحة إلى مراجعة وتقييم كبيرين في الوقت الحاضر.

المراجع:

– جمالية التلقي في الكتابة الشعرية: ماجد قائد قاسم مرشد

– لغة الشعر: رجاء عيد

to top