أوقع نظام حزب البعث السوري منذ استولى على السلطة في دمشق بقوة السلاح عام 1963، شرخا كبيرا بين أبناء المجتمع السوري المتميز بفسيفساء عرقية ودينية يندر وجودها في المجتمعات ذات التاريخ الممتد عبر الآلاف من السنين، إلا في المدنيات الحديثة والدول التي قامت على الهجرات والمهاجرين من شعوب الأرض كافة، كما هو الحال في الولايات المتحدة.
دفع الأكراد السوريون، وهم الأقل عددا وحظا بعد عرب سوريا، الثمن الأغلى على يد البعثيين وحلفائهم من العسكر حماة النظام من جهة، ومن أصحاب الفتاوى الدينية، وكان الأكراد أشبه بـ”عكّازة” اتكأ عليها كل من حكم سوريا إثر الانقلاب الدموي حين يتعثّر سياسيا، من هؤلاء الحكام يوجد حافظ الأسد ثم ابنه بشار الأسد، وقد حكما البلد خمسة عقود بعنصرية طائفية أحد مظاهرها كان أن “فرّق تَسُد”.
بالنظر في تاريخ المشهد السياسي السوري ما بعد الحرب العالمية الأولى، وإثر انهيار إمبراطورية الرجل المريض ودولته العثمانية وظهور اتفاقيات لتقاسم تركته ومنها اتفاقية سايكس – بيكو بين فرنسا والمملكة المتحدة التي خصّت الهلال الخصيب، وبمصادقة روسيا وإيطاليا، تمكن ملاحظة كيف رُسمت حدود سوريا الحالية، وكيف تمّ إخضاعها للانتداب الفرنسي ضمن منطقة نفوذه المباشر.
لم ينتظر الشعب السوري طويلا ليدافع عن بلده بحدوده الجديدة. وكان أكراد سوريا من المناضلين الأشداء ضد الاحتلال الفرنسي. ودافعوا عن انتمائهم الوطني لسوريا. إلا أنه، وإثر الاستقلال السوري، تنكّر البعثيون لحقوق الأكراد ولم تتم مساواتهم مع أيّ مواطن سوري له حقوق وعليه واجبات.
وتم التعامل مع الأكراد كمواطنين من الدرجة الثانية، بعدما تنصّل البعثيون من حقيقة وجود الأكراد كقومية أساس تعيش على أرضها التاريخية، فأقرّ الحزب الحاكم بحقهم إجراءات قمعية تمثلت في منعهم من التعليم بلغتهم الأم، وتنفيذ مقتضيات الإحصاء الاستثنائي لعام 1962 في محافظة الحسكة والذي حُرم بموجبه عشرات الآلاف من الأكراد من الجنسية السورية وما ترتّب عليه من نتائج تمييزية، فضلا عن تطبيق مشروع الحزام العربي الذي أوجب ترحيل الآلاف من العائلات الكردية من أراضيها، وكذلك حملة تعريب طالت أسماء المدن والقرى الكردية.
كما تم اتخاذ إجراءات تمييزية أخرى بحق أبناء سوريا من الأكراد، ما أدّى إلى انهيار الثقة بينهم وبين إخوتهم في الوطن، رافقه احتقان مجتمعي خطير واصطفاف سياسي ظهر مؤخرا في أشد صوره تهديدا لوحدة الشعب السوري، وغدت معالجة أسبابه استحقاقا يعادل الحراك الثوري.
شارك الأكراد في الثورة السورية منذ بواكير اندلاعها. وكنتُ بدوري قد انخرطت في تأسيس المجلس الوطني السوري في العام الأول من الثورة السورية بشراكة سياسية مع مشعل تمو المشهود له بالوطنية التي قضى إيمانا بها. وإذا استثنينا من المعادلة الوطنية السورية بعض القوى المعزولة والانفصالية الكردية، فإن الشارع السياسي الكردي بغالبيته يقف بقوة مع وحدة سوريا أرضا وشعبا في بيئة من المواطَنة المتساوية حقا وواجبا.
تشكلت خلال سنوات الثورة التسع عدة مجموعات سياسية كردية برؤى سياسية مختلفة، تلتقي حينا، وتفترق أحيانا، أو قد لا تلتقي أبدا! سأحصر الكتابة في هذا المقام على مجموعة مجلس سوريا الديمقراطية (مسد)، التي تعتبر مجموعة سياسية مثيرة للجدل لحيثيات واعتبارات متضاربة عند المعارضة السورية من جهة، وحلفائها الإقليميين من جهة أخرى.
“مسد” هي الوحيدة التي تمتلك تمثيلا خارجيا (دبلوماسيا) في الولايات المتحدة مسجلا في دوائر الحكومة الأميركية المختصة. ومقرّ مكتب مسد التمثيلي هو واشنطن وترأسه سينم شيرخاني محمد، ابنة مدينة عفرين السورية.
من أجل الفهم الدقيق لطبيعة هذه المؤسسة المعارضة أسوق طرفا من حواري مع سينم شيرخاني محمد التي قالت في التعريف عن المجلس “مسد مشروع ديمقراطي لا بد أن نتشارك فيه مع جميع السوريين لأن الحل العسكري لن يؤدي إلا إلى الدمار والتدخل الخارجي في سوريا وظهور مجموعات إرهابية مثل النصرة وداعش، وغيرها من مسميات لا حصر لها، وقد اتخذ النظام البعثي في دمشق من ادعائه محاربتها حجّة لإطالة أجله”.
وحين سألتها عن مشروع مسد ورؤيته للحل في سوريا، قالت “مشروعنا يكمن في المستقبل؛ ألا يريد السوريون أن تكون سوريا ديمقراطية تضمن حقوق المرأة وجميع المكونات العرقية فيها دون تفرقة بينهم؟ ما السبب في إقصاء بعض من السوريين عن صناعة الحلول لسوريا، هل هذه هي الديمقراطية التي نصبو إليها كسوريين؟”.
وأضافت شيرخاني “الحل لا نراه إلا “سوريا – سوريا”، نتحاور حول طاولة مستديرة ولا نواجه بعضنا على الجبهات؛ للأسف هذا لم يحدث، وهذا ما جعل بندقية السوري تتوجه نحو أخيه السوري؛ وتساءلتْ “كيف تكون البندقية موجهة إلى الكردي بمجرد أن يطالب بصون حقوقه في الدستور الجديد؟”. وختمت شيرخاني مشددة “الطائفية بعيدة عن مشروعنا، والانفصال عن سوريا ليس من أهدافنا، نحن من يدعم سوريا موحّدة لا مركزية، ونحن من نحارب من يعتدي على أرضها”.
فصل المقال أنه لا بد من الاعتراف الدستوري الصريح بالمكوّن الكردي في المجتمع السوري، وهو يعيش على أرضه التاريخية ضمن وحدة الأراضي السورية؛ فالاعتراف والاحتفاء بالهوية القومية للأكراد وبلغتهم وثقافتهم لا ينتهك سيادة ولا يهدّد وحدة؛ فالوحدة الوطنية الحقيقية لا تنبني على الإنكار البتة، بل على دعم وتمكين التنوع القومي والثقافي للسوريين بتعدديتهم التي هي سر استمرارهم كشعب سوري منسجم وعريق على مرّ العصور.
كما لا بد في سوريا الجديدة من إلغاء المراسيم والقوانين والإجراءات العنصرية التي طالت الأكراد، وضمان تمثيلهم تمثيلا عادلا في السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية كافة.
أما في إعادة بناء الجيش الوطني لسوريا الجديدة، فيجب أن يكون الأكراد ممثلين فيه كما بقية مكونات سوريا، بعيدا عن النزعة الشوفينية، مع إمكانية تبوّئهم رتبا عليا والوصول إلى موقع الرئاسة كحق دستوري مصان لكل مواطن سوري كما كان الأمر لأسلافهم من زعماء أكراد تعاقبوا على حكم سوريا وأذكر منهم محمد علي العابد وفواز سلو وحسني الزعيم وأديب الشيشكلي (دون التعليق على آدائهم السياسي في حينه).
هل ستكون المواطنة المتساوية، حقا وواجبا، هي البديل الثوري لمقصلة الحكم البعثي الذي أوغل في دماء السوريين على اختلاف انتماءاتهم الثقافية والمجتمعية والسياسية؟
مرح البقاعي
المصدر: العرب اللندنية