سيهانوك ديبو*
القضية الكردية قضية شديدة التعقيد. لأنها كذلك ربما يكون حلّها –الذي حان وقته بطبيعة الحال- بمثابة بابٍ وسيعٍ لاستقرار المنطقة ودخول رياح الديمقراطية أكثر إلى كل منطقة شرق المتوسط. إحدى أهم تبديّات التعقيد في القضية الكردية ربما تتمحور منطقاً ذهنياً؛ كما حينما يكتب الكردي بالتركية أو العربية أو الفارسية ويفكر أصلاً بالكردية. حال ذلك أيضاً؛ الروائي والمخرج والسيناريست والممثل الكردي في تركيا الراحل يلماظ غونيه. في روايته (صالبا) التي تعني حرفياً المُهَلْهِل؛ وهي التي تحتاج إلى ترجمة أكثر رصانة من التي بين أيدينا؛ يسردها غونيه في لحظات صراع ذاتي بين الوعي واللاوعي وتدفق مئات الأسئلة التي تنهمر على بطل الرواية؛ قائلاً: ليس كل نجاح إلّا مصيدة، وليس كل اكتفاء إلّا مصيدة أخرى.. أليس كذلك؟ وفي مكان آخر يكتب: إن أكبر الأصدقاء، وأعظم الرفاق، هو الحقيقة والواقع.
لا شك من أن مكونات مجلس سوريا الديمقراطية السياسية، وأغلبها التي أسست الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا في عامها السابع قد نجحت. لكن من الخطأ الاكتفاء بذلك، والوقوف عند هذا النظام السياسي الإداري؛ أي الإدارة الذاتية؛ فقط في شمال وشرق سوريا كجزء مهم وأساسيّ من عموم سوريا. فهذا المشروع يصلح لكل سوريا، فمن غير الطبيعي التوقف في (شرقي الفرات) وإلا يعتبر ذلك مصيدة، وتحاول عدة جهات مختلفة كي تتحول بقعة الضوء السورية هذه أي الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا إلى مصيدة، وقد لا تبدو هذه الجهات بالضرورة على وفاق؛ على الأقل ظاهرياً شكلياً، كما نظام الاستبداد المركزي، وقسم من المعارضة السورية التي لم تستطع مغادرة الرؤية الضيقة في تناول القضية الكردية، على العكس فإن بعض من صنوف المعارضة السورية تطرح رؤى متأخرة عن رؤية السلطة في دمشق حيال حل القضيتين الديمقراطية والكردية في سوريا، يضاف إلى كتل الستاتيك هذه؛ نظام تركيا الذي طرح بعد مئة إلّا عامين من تأسيس تركيا والمنطقة كلها؛ الرؤية السلبية المتمركزة حول عثمنة جديدة للمنطقة. بطبيعة الحال لا يمكن لداوود أوغلو أن ينجح في مهمته وفي حزبه الجديد المسمى بالمستقبل وهو المروِّجُ الأساسيّ لفكر السلطنة العثمانية، سيكون سلوكه أشبه بالائتلاف السوري (المعارض)؛ فإن عينه على السلطة دون جديد. ربما يمكن إضافةً إلى صناع المصيدة نظام الهيمنة نفسها التي تفتش دائماً عن حلول يناسبها؛ في نظرها هي الحلول. وفق ذلك، وفي ضوء احتلالات تركيا لمناطق شاسعة سوريّة فإن الحوار السيادي الأول في هذه الحالة هو حوار الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا ومجلس سوريا الديمقراطية مع السلطة في دمشق؛ حوار بعناوين رئيسية منها إنهاء الاحتلالات التركية وإجلاء جيشها ومرتزقتها وآليات اجرامها في التغيير الديمغرافي من المناطق التي قامت باحتلالها من عفرين إلى رأس العين مروراً بالباب وجرابلس وتل أبيض، دون أن ننسى (المعضلة) إدلب التي بالفعل تحتاج جهداً وطنياً وبدعم دولي لتحريرها من الإرهاب والاحتلال سوياً، يضاف إلى هذا العنوان: الكيفية الدستورية الآمنة كي تكون الإدارة الذاتية القائمة جزءً من النظام الإداري السوري العام؛ بكل متعلقات ذلك من مشاركة السلطة ضمن هذه الأطر: صلاحيات الحكومة السيادية، صلاحيات الإدارة الذاتية، والصلاحيات المشتركة فيما بينهما.
لكن مكونات الإدارة الذاتية ومكونات مجلس سوريا الديمقراطية لا يمكن النظر إليها بأنها وحدها القوى الوطنية الديمقراطية في سوريا؛ سنكون في مصيدة كبيرة –هذه المرة من جرّاء أيدينا، ومن شباك ذواتنا العنفية/ العنف الثوري الذي رافقنا وربما تأصل قصياً طبيعياً في طريق تحرير الجغرافيات السورية من الإرهاب- أن نفكر بأن مكونات مسد والإدارة الذاتية هي وحدها القوى الديمقراطية، أو نفكر في لحظة نصر ونشوة وغفلة بأن على باقي القوى الديمقراطية السورية أنْ تتراصف وتنضم إلى منظومة مسد؛ لو نشهد ذلك فإن أقرب تحليل له هو المقاربة النفسية التي تشي بأن الفريسة تقلّد جلاها، وكلنا فرائس الاستبداديات المركبة التي حلّت على المنطقة وسوريا جزء منها حتى أصبحنا في هذه الحالة المربكة من حالات الانقسام الوطني السوري. أمام مجلس سوريا الديمقراطية كي تتحول إلى مركز جذب ديمقراطي وتؤسس مع باقي القوى والأحزاب والفعاليات المجتمعية ومؤسسات وشخصيات المجتمع المدني، لا يستثنى من ذلك منصات أساسية من هيئة التفاوض السورية، وأيضاً كل منصة ومؤسسة وتجمُّع ومبادرة خارج هيئة التفاوض؛ حالها في ذلك حال مجلس سوريا الديمقراطية المغيّب المستبعد منها. وهذا من المؤكد أنه ينتمي إلى خانة الحوارات السيادية التي تفرضها وقائع الاشتباك السياسي والعملية الديمقراطية حين الاحتكام إلى صناديق الاقتراع التي ستأتي ذات لحظة سوريّة قادمة؛ قد تطول وقد تطول كثيراً؛ لكنها ستأتي.
أما الحوار السيادي الثالث الذي لا يقل أهمية عن السابقين، وربما يزيدهما بسبب دعاويها المتعددة، وبسبب منحاها الأخلاقي والسياسي في الآن ذاته؛ هو الحوار الكردي الكردي في سوريا المتمثِّل اللحظة بين (حزب الاتحاد الديمقراطي والمجلس الوطني الكردي). نصدق القول بأن عشرات الملايين من الكرد في سوريا والمنطقة والعالم، وربما مثله من الشركاء المؤمنين بضرورة حل القضية الكردية في مقدمتهم الشعب العربي؛ يهمهم إنجاح الحوار الكردي الكردي وفق مبادرة سابقة أطلقها مظلوم عبدي القائد العام لقوات سوريا الديمقراطية، واللحظة ترعاه أمريكا وفرنسا وبريطانيا، كما أن اللحظة تدعمه روسيا في مبادرة مستقلة بها، لكن؛ كان الترقب ولا يزال –هو الطبيعي- بأن تبادر بعضاً من البلدان العربية في مقدمتها جمهورية مصر العربية إلى ذلك أيضاً؛ بخاصة أن لمصر مواقف تاريخية أكثر إيجابية من حل القضية الكردية، ومواقف معاصرة كما في موقف رئيسها السيسي في نهاية العام الفائت. مطلوب بشكل ملح إنجاح الحوار الكردي الداخلي في توحيد الموقف الكردي وترتيب بيته الداخلي؛ وإنْ تحقق ذلك فإنه سيعتبر منجزاً ليس للكرد وحدهم إنما لعموم شعب سوريا وقواه الوطنية الديمقراطية، وبمثابة إفشال لكل تناول للقضية الكردية من الزاوية الضيقة الرائية بأنها الورقة التي يجب أن تبقى بيد ما؛ أيّاً تكن هذه اليد.
أما مؤتمر القاهرة3 الذي يشارك في تحضير عقده مسد، وكطرف أساسي منه، ومُمَثَّلٌ في لجنته التحضيرية؛ فقد كان من المزمع عقده في نهاية مارس آذار المنصرم؛ سوى أن الجائحة كورونا التي منعت عقد عشرات المؤتمرات واللقاءات والاجتماعات في العالم؛ قد منعت من التئامه أيضاً. وفي حال عقدِ هذا المؤتمر فإنه يكون بمثابة تصحيح لمسار رؤية المعارضة بشكل أساس؛ بالإضافة إلى نتائجها المترتبة في أن يتقوّى مسد بهذه المنصة وتتقوى المنصة به في الوقت ذاته. من ؛دون أن يخفى على أحد بأن مكونات الإدارة الذاتية كانت ممثلة وبالمساهم الرئيسي في عقد القاهرة1 والقاهرة2 في منتصف العام 2015. ولأهمية انعقاد هذا المؤتمر فإن الرأي القائل من ضرورة عقده وفق خاصية فيديو كونفرانس؛ بالرأي الصائب.
في الحقيقة ما يقوّض كتلة الأمم المتحدة ويحجم دورها ليس استعصاءها في حل الأزمة السورية فقط؛ إنما بسبب عشرات الحروب وأضعافها من الأزمات ومن انتشار الأوبئة – آخرها الكورونا الجائحة- التي ظهرت منذ تأسيس الأمم المتحدة في 24 اكتوبر/ تشرين الأول 1945إلى يومنا هذا. كلها منفردة ومجتمعة تقوي الرأي الزاعم بضرورة إعادة تأسيس جامعة أممية أخرى بدلاً من هذه الهيئة: قد تكون بديلها هو (اتحاد الأمم الديمقراطية)، وهذا مبحث بحاله ربما نتناوله قريباً. فبالرغم من طموح -سابق وآنيٍّ ولاحق- لمجلس سوريا الديمقراطية ونضاله في أن يكون له تمثيل وازن وللقوى الديمقراطية السورية في هيئة التفاوض السورية واللجنة الدستورية؛ سوى أن بعض القراءات تؤكد بأن امكانية استئنافهما؛ أي الهيئة والدستورية السورية؛ بات ينظر إليه بعين الشك، ويعتري فعاليتهما الكثير من الصعوبة إن لم نقل الاستحالة. سوى أن الاعتقاد ربما سيكون صائباً أيضاً لو نقول حين إنجاز الحوارات السيادية الثلاث فإن استعادة القرار السوري وحل قضاياه قد يكون من لدن صناعة سوريّة محضة؛ بالرغم من وجوب لزوم مستمر دائم من الدعمين الإقليمي والدولي للحل السوري. فسوريا في البدء وقبل كل هذه الهندسيات الجغرافية/ الخرائط التي ظهرت في المئوية الأخيرة من عمر المنطقة؛ تعتبر جزء طبيعي من محيطيها الإقليمي والدولي.
بالرجوع إلى يلماظ غونيه؛ غونيه يعني المسكين، بالرغم من أنه عاش فقط 47 سنة، سوى أنه قدّم الكثير، كمثال روايته التي وردنا مقتطفين منها في مقدمة المقال، وربما مقتطف آخر منها يصلح أن يكون خاتمة المقال هذا. حينما يقول:
تحرر من قناعاتك المُسَبَّقة؛ لأن تلك القناعات ما هي إلّا كلاب حراسة وضعت عند أبواب القوى التي لا تريد التغيير، أليس كل ربح أباً للخسارة يا صالبا؟
أسبوعين مضت
4 أسابيع مضت