يستحيل أن نفرق بين سياسات امريكا الاستراتيجية وفق تغيير الادارة الحاكمة، لكن نستطيع أن نفرق بين تكتيكات السياسة وأسلوبها في قوننة وقولبة الصراعات والأزمات التي تحصل في الشرق الاوسط وفق متطلبات أمريكا العليا ومصالحها الاستراتيجية.
لقد بدأت أمريكا عقب الحرب العالمية الثانية بالتركيز على الشرق الأوسط خاصة مع بروز القطب السوفيتي وتلاشي قوة الامبراطوريات الاستعمارية الكلاسيكية فرنسا وبريطانيا وأخذ المبادرة من بريطانيا في تقربها من القضية اليهودية واسرائيل بعد توجه أغلب اللوبيات والقوة الاقتصادية والسياسية اليهودية إلى أمريكا بعد أن كانت متعششة في المملكة المتحدة، وكان العامل الاقتصادي في الشرق الاوسط هو أهم عوامل الجذب والاستقطاب لاستراتيجية أمريكا.
لو قمنا بدراسة تحليلية بحتة وسلّطنا الضوء على جوهر السياسة العملية الأمريكية في مناطق الشرق الاوسط نرى أنها تعتمد على النسبة _التناسب ، النقيض والتناقض، المشكلة _ والحل، الفوضى _ الاستقرار، وإلى آخره من سياسات ضمنية تكون صعبة الحل في معادلتها وفك رموزها، فعلى سبيل المثال ومنذ استخراج النفط في الشرق الاوسط وخاصة في الخليج العربي في عشرينيات القرن الماضي ركزت أمريكا على الجانب الاقتصادي ووثقت العلاقات الاستراتيجية فقد كانت ملمة بالقوة المالية أكثر من تركيز أوروبا على الجانب السياسي والديني والقومي في الشرق الأوسط؛ فخلقت أمريكا اقتصادات متناقضة تؤتي أوكلها على الجانب السياسي فهي تدعم قَطَر ضمنياً في تمويل الجماعات المتشددة وتؤيد الموقف الخليجي ضد قطر المتضامنة مع ايران وتركيا وتربط الاقتصاد المصري والاردني بها بتقديم المعونات السنوية لجيشي مصر والاردن.
وعلى الصعيد السياسي دعمت نظام صدام في حرب الثمان سنوات ضد ايران من ثم قامت بإسقاط حكمه ودعمت حافظ الأسد في سياساته داخل لبنان للحصول على دعم سوري في حرب الخليج الثانية ضد صدام من ثم الآن تحاول إسقاط النظام في سوريا، وأخرجت الشخصيات الديكتاتورية في الشرق الاوسط وحاربتها في فترات لاحقة عن طريق ثورات الربيع العربي، وفي تركيا فقد استلمت أمريكا زمام الأمور فيها منذ أربعينيات القرن الماضي ودعمتها ضد السوفييت من خلال الناتو وكانت مسؤولة بشكل أو بآخر عن انقلابات أعوام 60 ,71 , 80 , 97 , 2016 ، كما أوجدت شخصيات العدالة والتنمية ذات التوجه الاسلامي المعتدل وفق تعريف أمريكا ! وتعاونت معها في دعمها لقيادة مشروع الشرق الاوسط الكبير والجديد وأزمات الربيع العربي إلى حين تغيرت سياسات تركيا الفاشية والتي أصبحت منفردة في قراراتها وتغرد خارج السرب الامريكي / الاوربي بعلاقاتها مع روسيا والشرق ودعم الجماعات الارهابية وفق أهداف العثمنة الجديدة.
ودعمت أمريكا تنظيم القاعدة في الثمانينات ضد روسيا وأسقطت حكمها عقب أحداث الحادي عشر من سبتمبر.
هذه كلها وقائع واحداث تاريخية حصلت خلال النصف الثاني من القرن العشرين ومازالت مستمرة.
إذاً الجوهر والصلب في استراتيجية أمريكا المرنة تارةً وصلبة تارةً اُخرى وفق تغييرات الادارة المُنتخبة هي التوازن دائماً بين الحلفاء والاصدقاء من جهة والتوازن حتى ما بين الأعداء والخصوم في دعمهم لحين وتدميرهم في أحايين أخرى لحين الوصول إلى أهداف عظمى مئوية السنين أو خمسينية لإدارة الشرق الاوسط بكل أركانه.
فالاستقرار الكبير في مناطق الشرق الاوسط يشكل مشكلة حقيقية لأمريكا لذلك هي تبحث دائماً عن نظرية النسبة والتناسب في سياسة هذا المحيط. وخيط رفيع لخلق الازمات والهيمنة عليها. من أجل إحلال السلام من مخرجات الصراعات وفق استراتيجية امريكا لأن صنع السلام هو أهم من الحرب وأشد تعقيداً فالحصول على صفة راعي السلام العالمي تتضمن في تفاصيلها وتعقيداتها الهيمنة والنفوذ على الشعوب، وأن السلام مرهون بالحرب في حال مخالفة الشعوب لهذه الهيمنة.
ما يتطلب منا من حيث المنطق السياسي هو تجنب الاكتواء بلهيب هذه التناقضات والسياسات للحصول على استقرار أكثر نسبياً مع أن التجنب وسياسة النأي بالنفس قد تكون صعبة المنال في ظل ظروف الاقتتال السياسي والاقتصادي في الشرق الاوسط، والتوازن بين كل اطراف الحل والصراع وخلق المناخ والبيئة المناسبة لجعل حياة الشعوب أكثر أمناً واستقراراً.