الحدث – القاهرة – بقلم / زهير كاظم عبود
تشكل قضية اكراد تركيا هاجسا يؤرق الحكومات التي تعاقبت على حكم تركيا ٬ ولكون اغلب الأحزاب الكردية في تركيا لجات الى حمل السلاح دفاعا عن حقوقها ٬ بعد أن عجزت عن حصولها على حقوقها المشروعة ٬ واجهت القوة العسكرية التركية التي تدافع عن سيادة بلدها وامنه ووحدته وفق اعتقادها ٬ والمتمعن في حجم الافتراق والتباعد بين الحكومة التركية وبين القوى الكردية المسلحة يلمس صعوبة التقارب وابتعاد اللجوء والتوصل الى طريق سلام يحقن دماء الطرفين ويحفظ لتركيا وحدتها وسيادتها وامنها ويحقق للكرد حقوقهم ٬ رغم أن الطرف الكردي أعلن عدة مرات وقف القتال من جانب واحد.
الجمهورية التركية الحديثة تحاول بشتى الوسائل والسبل ان تعيد ترتيب حالها على أساس الانتقال الى مصاف البلدان الاوربية شكلا ومضمونا ٬ غير ان هناك حواجز وعثرات تعيق هذا الامر وقضية حقوق كرد تركيا من بينها ٬ وهذا الامر يتطلب منها ان تعيد ترميم اقتصادها والسعي الى بناء أسس متينة لتوحيد المجتمع التركي بكل اشكاله التي يتشكل منها ٬ وان ترسم لها حلول مشتركة تحقق عملية السلام التي ستجعلها تندفع لترصين البناء التركي ٬ وتزيد من متانة بنائها الاجتماعي والسياسي والاقتصادي ٬ وهذا الامر يتطلب من قياداتها المزيد من الحكمة والتدقيق للواقع الاجتماعي والسياسي والجيوغرافي الذي يعيشه المجتمع التركي .
ولان الحلول التي يمكن لها ان تساهم في بسط عملية السلام ٬ وتوقف عمليات القتل والخسائر البشرية التي يتحملها الطرفين ٬ ينبغي ان ترتقي هذه الحلول بان تندفع جميع الأطراف للبحث الجاد عن المشتركات التي تنهي هذه الصفحة التي تشكل نزيفا للدولة التركية وخسارة جسيمة للمجتمع التركي ٬ مثلما تشكل خسارة بشرية فادحة تدفعها الأحزاب الكردية التي تحمل السلاح ٬ وتشكل الحرب القائمة بما يترتب عليها مواقف وافعال تخالف جميع المبادئ التي ينص عليها الإعلان العالمي لحقوق الانسان ٬ ولما تمثله من خسارة لجميع الأطراف مهما كانت النتائج .
الخسائر البشرية التي تقدمها القوات التركية المسلحة اكثر أهمية وقيمة من الخسائر الاقتصادية والسياسية والمعنوية ٬ والخسائر البشرية التي يقدمها حزب العمال الكردستاني أيضا تشكل اكثر أهمية من جميع الخسائر المادية الأخرى ٬ وجميع كل تلك الخسائر التي تقدمها الأطراف هي خسارة لعموم مجتمع تركيا ٬ واخلالا بالأمن والاستقرار لهذا المجتمع ٬ وأيضا تشكل شرخا في جدار السلام العالمي.
السلام يتطلب خطوات شجاعة وحريصة على قيمة الانسان وكرامته ٬ والسلام أيضا ما تحتاجه تركيا وما تحتاجه جميع القوميات التي تشكل بتنوعها المجتمع التركي ٬ وفي سبيل تحقيق السلام لا يمكن ان نحسب الربح والخسارة فالجميع يربح بالنتيجة ٬ بعكس الحروب التي اثبتت بنتائجها خسارة الجميع ٬ وفي سبيل تحقيق السلام هناك خطوات على الأطراف المتحاربة ان تقدم عليها لتبرهن على تمسكها بإحلال السلام.
بوادر التطمين واللجوء الى الحوار تقع على عاتق الطرفين ٬ ونجد ان بإمكان الأطراف ان تلجا الى بوادر ومواقف تدلل على حسن النية ٬ والقبول بالحلول التي توقف الخسارات الإنسانية من كلا الطرفين ٬ كما تقع الهدنة وإيقاف القتال والعمليات العسكرية لفترة معينة أيضا سبيلا وطريقا يمهد للحل ٬ كما ان على السلطة التركية كبادرة لحسن النية ان تقدم على اطلاق سراح السيد عبدالله اوجلان الذي يمكنه بما عرف عنه من قدرة قيادية ودور ريادي ان يبادر الى إيجاد الوسائل والسبل التي تمهد لطريق السلام ٬ سيما وانه بادر لإطلاق مثل هذه المبادرات التي نشرتها وسائل الاعلام قبل سنوات وهو في سجنه ٬ بالإضافة الى ان بقاءه بهذا الشكل وطيلة هذه المدة الطويلة سجينا في جزيرة نائية يعقد المشهد ويعرقل مشروع السلام ٬ وكذلك الامر بالنسبة للسيد صلاح الدين ديمرتاش او شخصيات تركية كردية أخرى يمكن التعويل عليها في قضية توفير فرص السلام لمصلحة تركيا عموما .
ونظرة واقعية ومنطقية تشير الى ان مهمة الوصول الى الأسباب التي تدفع مجموعة من البشر ان ترفع صوتها لتحديد هويتها ومعالم قضيتها وما أصابها من غبن وتهميش ٬ وان تطالب بحقوقها التي اقرها الدستور وأشارت اليها اللوائح الدولية ٬ وتجد ان جميع السبل والوسائل قد أغلقت بوجهها فتلجا الى السلاح للتعبير مع ما يحمله هذا الموقف من سلبيات وايجابيات ٬ ومعالجة مثل هذا الموقف لا يمكن ان يكون بمنطق القوة التي يوفرها تفوق إمكانية وقدرة هذه المجموعات البشرية ٬ لان الصراع سيبقى مشتعلا في جميع الأحوال ٬ لن نتوصل الى حل مقبول يوقف النزيف ويمنع الموت ويمنح الحقوق ويجعل الطرف الاخر صامتا او مذعنا.
التوصل الى حل للقضية الكردية في تركيا سيفتح الطريق واسعا لترميم الأوضاع التركية في كل المجالات ٬ وسيكون الصوت التركي الجديد عاليا امام جميع الدول التي ستنظر الى تركيا بمنظار التقدير واحترام حقوق الانسان ٬ بعد ان تعود القوات العسكرية الى ثكناتها ومقراتها وتساهم في بناء تركيا الجديدة ٬ ويتوقف ابدا نزيف الدم الجاري والذي لم توقفه سنوات الجمر التي مرت على جميع الأطراف التي ما توقفت يوما عن المواجهة بالسلاح ٬ لتتحاور وتجنح للسلام ٬ والجنوح الى السلام في حل القضايا السياسية الراهنة والداخلية في تركيا دليل على قدرة القيادة التركية على ترميم وبناء تركيا بزمن جديد ٬ ونيتها لطرح مشروع انساني وطني يرسم مستقبل تركيا ٬ وفي جميع الحالات ستكون الحلول التي يتفق عليها الأطراف هي الخطوات الأولية التي تؤسس هذا المستقبل الجديد ٬ وقد مضى زمن ليس بالقصير كان صوت المدافع ورصاص البنادق وصواريخ الطائرات هو الأقوى والسائد في المنطقة ٬ ويصل مداه الى مناطق مجاورة فيجعلها تفقد الامن والآمان وفي حالة ذعر وانذار دائم ٬ وما تسببه تلك الحالات على المواطنين المدنيين في تلك المدن والقرى الآمنة .
وحين نعول على اعمال العقل واللجوء الى الحكمة والاقرار بمعيار السلام والانفتاح والموقف الإيجابي، فان الامر يكون بديلا عن الموقف المتطرف والمتعنت ٬ وهو أيضا يعني القدرة على عمق التفهم السياسي للواقع التركي وما يعانيه من إشكالات تهز امنه واستقراره ٬ وقابلية العقل القيادي التركي ان يضع هذا الامن والاستقرار في أولويات تفكيره ٬ وسيكتب التاريخ تلك المواقف بإيجابية وتقدير ٬ فالحل العادل دوما مبعث فخر ودليل سمو فكري وسياسي واجتماعي .
القضية الكردية ترتبط ارتباطا وثيقا بقضية الحقوق ٬ وهي قضية حسمتها دول العالم المتمدن ٬ وأصبحت قضية الإقرار بالحقوق من ثوابت حقوق الانسان التي تعتمدها جميع الأمم ٬ ولم تعد تشكل هاجسا ودعوة لتفكيك البلدان التي يتواجد بها الكرد ٬ ولم يعد من يقر بحق الشعب الكردي بممارسه حقوقه الشرعية والقانونية خسرانا ٬ والتجارب القريبة تدلل بما لا يقبل الشك على ان الإقرار بالحقوق بالصيغ التي يتوصل لها الأطراف شكلت قوة ومناعة ومتانة وطنية مع انها تجارب وليدة ٬ الا انها تجارب مبنية على المصداقية والوطنية في جميع الأحوال .
نحن امام مفصلين مهمين في معالجة قضية الكرد في تركيا ٬ المفصل الأول هو ما نعيشه اليوم من تطاحن سياسي وعسكري يطغي على جميع الآمال والحلول ٬ ويمتد هذا التطاحن الى حدود خارج حدود الجمهورية التركية ٬ وربما تتجاوز على حدود جيرانها وسيادتها ٬ وغالبا ما تقع خسائر بشرية جسيمة ومادية على اهل القرى الحدودية في تلك المناطق ٬ وتم توظيف القوات العسكرية والأمنية التركية للقضاء على المجموعات المعارضة المسلحة للكرد واسكات صوتها ٬ والمفصل الثاني ان يتم اللجوء الى الحوار والتوصل الى أسس حياة مشتركة تقوم على مبدا الشراكة الوطنية والاقرار بحق الاخر ٬ والاستفادة من تجربة العراق في التعامل مع الاكراد بعد الحروب والحملات الدموية والابادة الجماعية التي قامت بها المؤسسة العسكرية بدفع من القيادة السياسية ٬ ومن ثم ما صار اليه الحال وفق ظروف وواقع البيئة العراقية ٬ ولامفصل ثالث بينهما ٬ وسيبقى نهر الدم جاريا والخسائر البشرية لن تتوقف مالم يعمل العقل الإنساني وفق صحوة وتفكير ضمن فرص سانحة يوفرها الواقع ٬ يبتعد فيها مفهوم الانتصار والانكسار او الربح والخسارة ٬ وتلك دعوة مخلصة ليحل السلام في هذا البلد الجميل ٬ وتجنح الأطراف جميعها وفق مصلحة تركيا الام بما لا يفرط بوحدتها وسيادتها ٬ وبما يحقق الإقرار الإنساني والمنطقي والقانوني بحق الانسان الذي تقره الشرائع ولوائح حقوق الانسان والمعاهدات الدولية .