سليمان محمود
إجازة في الأدب العربي
سوريا- قامشلي
تقدمة
يقولُ الشيخُ محمّد الغزاليّ:” أنا لا أخشى من الإنسان الذي يفكّرُ وإنْ ضلَّ لأنّه سيعودُ إلى الحقِّ، لكن أخشى على الإنسان الذي لا يفكّرُ وإن اهتدى، لأنهُ سيكونُ كالقشّة في مهبّ الريح!”.
مديدٌ هو عمرُ تخلّفنا وتراجعنا وجهلنا، وبدا لقرونٍ أن لا مخرجَ لهذه الأمة من هذا المستنقع الآسدِ، الأمّة التي تحاربُ الفكرَ والرأيَ والاختلافَ، وتمجّدُ كاملَ طاقم الاستبداد من المستبدّ وعلمائه وثقافته وإرثه ونتائجه الوخيمة.
وقد جاءتِ الثوراتُ العربية اليومَ لا لتزيحَ الظلمَ عن كاهل الأمّةِ فحسب، بل لتحاربَ الجهلَ والسهلَ والساذج والشائع، ولتُعلي من شأن (الحقيقة الغائبة) والجدلِ والفلسفة والنقاش والاختلاف، ولتضعَ على الطاولة كلَّ شيءٍ، لا لهدمه وتفتيته وإنهائه بل لترقيته وتطويره وتحسينه.
إنّ الدولةَ المدنيّةَ الديمقراطيّةَ مشروعُ يستحقّ منا كلَّ الجهد، ومن واجب النُخب المثقّفة أن تمارسَ دورها في هذا الشأن، دون أن تلجأَ للتزييف والتدليس والانحياز.
كلُّ شيءٍ يجبُ أن يُعادَ إنتاجهُ، ما بعدَ الثورات، ابتداءً من المفهوم السهلِ الممتنع(مفهوم الدولة).
تخرجُ علينا هذه الأيام جماعاتٌ مختلفةٌ فيما بينها، لتعيدَ بعثَ أجواء (الفتنة الكبرى)، حين تقاتلَ المسلمونَ وسُفكتْ دماؤهم بأيدي بعضهم البعض، وصيّرتِ المسلمَ أقسى على أخيه من قسوته على الأعداء، وأشعلت ناراً كادت أن تحرقَ الجميعَ.
واليوم، والعدوّ يتربّصُ بنا من كلّ الجهات وعلى كلّ المستويات وفي كلّ المجالات، يثيرُ القلاقلَ عند البعض ويفتنُ بين هذا وذاكَ ويدمّرُ البعضَ الآخرَ، والمشكلات الداخليّة تأخذُ بخناقنا وتتطلّبُ جهدَنا واهتمامَنا ووحدتنا.
نبحثُ عن وحدتِنا فنجدُ الشتاتَ. اهتمامُنا منصرفٌ في الاختلاف، وجهدُنا مُبدَّدٌ في الاقتتال.
إننا في حاجةٍ لأن نفهمَ: هل ثمّةَ حاجةٌ للمزيد من الخلاف والتمزّق والاقتتال؟ أليسَ من الجائزِ أن نكتشفَ أنّ خلافَنا يقومُ على وهمٍ ضخّمناهُ حتى ذهبنا ضحيّتهُ؟ أليسَ من الجائز أنّ خلافَنا ليسَ دينيّاً كما يُدّعى، أو أنّ فهمَنا يقودنا إلى أنّ المشكلةَ أعمقُ من أن تُحلَّ بالقتل والاغتيالات وخراب العمران! دعونا نستكشفُ الحقيقةَ على ضوء العقل, همُّنا المصلحة العامّة حتى نتبيّنَ(.. فتبيَّنوا)، أليسَ هذا مطلبٌ قرآنيّ؟!
كلامٌ عن الاجتهاد والنقاش والبحث( وإنّ في اختلافنا رحمةً)
سؤالٌ مهمٌ كنت أودّ البدء به: هل فهمنا على وجه الدقّة آياتِ ومبادىءَ وقواعدَ وأحكام وعبَرَ كتابِ الله؟ّ
لا جدالَ في أنّ عصرَ اليوم ليسَ هو عصرُ المدينة المنوّرة بمشاكله وصعوباته وتعقّد الحياة فيه نشاطاتها السياسية والاقتصادية والعلميّة والاجتماعية وعلاقاته الدولية وأوضاع المسلمين خاصّةً في عالم اليوم. عندئذٍ فإنّ ربطَ الحُكم- وهو تفسيرُ هذه الأمور المبنيّة على المصالح العاجلة بتفسيرٍ معيّنٍ لا غيره وفهمٍ محدَّد، يعني من ناحيةٍ استبعادَ كلّ التفسيرات والمفاهيم الممكنة الأخرى. هذا الاستبعادُ بالضرورة يولّدُ العنفَ، ومن ناحيةٍ أخرى يقودُ حتماً إلى الطغيان، وحينها نكونُ قد انتهينا إلى عكس ما نريد، نريدُ إقامةَ حُكم الله فانتهينا إلى إقامة طغيانِ بعضٍ منّا يدّعي أنّ تفسيرَهُ الأحقُّ وفهمهُ الأوحَدُ.
إنّ ما ننكرهُ ليس(الحاكميّة لله)، فكم نتمنّى أن يتحقّقَ ذلك، ولكن أن يدّعي بعضُ الناس أنه الوصيّ علينا، العارفُ بإرادة الله الخبير بمشيئته المُحتكرِ لتفسير آيات القرآن وأحكامه.
إنّ المسألةَ في جوهرها مسألةُ ديمقراطيّة النظام ومدى تأثير الناس فيه ومساهمتهم في إدارة شؤون حياتهم وخضوع النظام لهم وليس خضوعهم للنظام.
إذا لم نفهم حقيقة الوضع في عمقها فإننا نخاطرُ بأن نستبدلَ طغياناً بطغيان أسوأ وأقسى. إنّ الأمرَ لا يتعلّقُ بأسلمة النظام، فنظامُ الطغيان إذا أسلمَ يصيرُ أسوأ وأشدّ طغياناً. إنّ الأمرَ يتعلّقُ بتغيير طبيعة النظام وليسَ أشخاصه أو شعاراته. الناسُ سواسيةٌ في الدينِ إذاً سواسيةٌ في السياسة، عندئذٍ لا مناصَ من أنّ النظامَ يكونُ على دين الناس وليسَ الناسُ على دين النظام!
إنّ الاجتهادَ والتفسيرَ والبحث والنقاش أمرٌ لا مهربَ منه، آخذاً في الاعتبار ظروفَ العصر وأساليب الحياة وتراكم المعرفة. والضررُ هنا يأتي من ناحية قفلِ باب الاجتهاد والتحليل مما يجعلُ مستحيلاً انطباق تفسيرٍ أو اجتهادٍ تمّ في حالة في العصور الأولى على حالةٍ من وقتنا المعاصر، مما يولّدُ القسرَ والعنف وإرغام الناس والحياة على الجمود، مما يوهم بأنّ الإسلامَ ضدُّ التقدّم، وهذا ما ليس حقيقة.
وقد تخلّفَ المسلمونَ وضعُفَ الإسلامُ عندما أُقفلَت هذه الأبوابُ، وهذا بالضبط عندما صارَ الإسلامُ أداةَ حُكمٍ، والاجتهاد فيه صارَ اختصاصاً رسميّاً، وفهمه وجهة نظر رسميّة، وأيّ اختلافٍ يعني معارضة السُلطة والخروجَ على النظام، فيُجلَدُ أحمدُ بن حنبل ويُصلَبُ الحلاّجُ ويأمرُ هشام بن عبد الملك بقطع يدي ورجلي غيلانَ الدمشقيّ وقتله ثمّ صلبه…. إلخ.
الدولةُ المدنيّةُ هي ما كانت عليه منذ زمن الرسول، لا الدولةُ الدينيّة
الدولةُ المدنيّة: وتقومُ على أساس التعاقد/ باللغة الشرعيّة القديمة” المبايعة”/ وهي دولةُ القانون والعدالة والمساواة، دولةُ مواطنيها أي تقومُ على مبدأ المواطنيّة، أي أنها لا تقفُ إزاءَ الناس موقفاً على أساس الدّين أو العرق أو الإيديولوجيا…، ولها تمظهراتٌ كثيرة، مثلاً الدولة الهامشيّة، أي تعني بما يسمّى بالشأن العام فقط، وتتركُ المجالَ واسعاً للمجتمع المدنيّ( التعليم، الثقافة…) أي دولةُ الحدّ الأدنى.
الدولةُ الدينيّة: وهي التي يحكمُ فيها شخصٌ أو مؤسسة باسم الله، بتفويض من الله؟ هذا الحاكمُ أو المؤسسةُ يحكمُ بإذن الله، وله حقُّ الطاعة والتقديس، بأمر الله. هذا ما يمكن أن نسمّيها( الدولة الثيوقراطيّة)، وهذه لم تُعرَف في تاريخ المسلمين قطّ!
ما يمكنُ أن نسمّيه بدولة الرسول كانت أقربُ إلى المدنيّة لكن(بمرجعيّة إسلاميّة) وهنا أقصدُ البيعةَ. والحاكمُ ما كان لهُ حقُّ التشريع. نعم إنّ الطريفَ أنّ الرسولَ- في غير دائرة ما يوحى إليه- كانت تصرّفاته كحاكمٍ غيرَ مُلزمة إلى اليوم.
لنرجع إلى حياة الرسول، لعلّنا نجدُ فيها ما يفيدنا ويزيل الغموض عن أعيننا ويهدينا إلى الحقيقة، حين نحيط بأسباب الربط بين الإسلام والحُكم. ففي الثلاث عشرة سنة الأولى من الدّعوة- والتي قضاها داعياً في مكّةَ- لم يتطرّق إلاّ إلى العقائد والأخلاق والدعوة إلى توحيد الله وإقامة الدليل على وجوده. ولم يظهر للرسول أيَّ توجّهٍ سياسي، خاصةً وأنه في مكةَ لم يكن يواجهُ نظاماً سياسيّاً بل قبَليّاً، وقد عرضَ عليه المكيّون تتويجه ملكاً عليهم على أن يتركَ الدعوةَ إلى الإسلام فرفضَ لأنهُ داعيةٌ إلى دين الله وليسَ زعيماً سياسياً، والأسبابُ تبدو واضحة منها أنّ الإسلامَ في ذاته ليسَ نظريّةً سياسيّة وليس نظريّةً في الحُكم أو الإدارة، بل هو أرفعُ وأسمى من هذا بكثير.
لا شكَّ أنّ هدفَ الرسول وفحوى رسالته كان نشرَ الدين الإسلاميّ وليس حُكمَ الناس. لكنّ انتقالَه إلى المدينة ومعه أصحابه المهاجرين فتحَ مرحلةً جديدةً تختلفُ عن مرحلة الدعوة والتبشير المكيّة. اقد وجدَ نفسَه مسؤولاً عن شؤون المدينة إلى جانب مهمته الأساسيّة وهي تبليغُ رسالة الإسلام.
إنّ النبيَّ جمعَ في شخصه النبوءةَ وهي تكليفٌ إلهي، والقيادةَ المدنيّة وهو واقعُ تاريخٍ. ورغمَ كلّ الميزات الي تمتّع بها إلاّ أنه مع ذلك لم ينقطع عن مشاورة الناس والأخذ برأيهم، وهو في هذا يسنُّ سنّةً لا يجبُ تجاهلها. لقد كان يحرصُ على التمييز دائماً بين ما هو وحيٌ وبالتالي لا يناقَشُ، وبين ما هو رأيٌ شخصيّ واجتهاد منه قابلٌ للنقاش.
كلُّ مَن أرادَ أن يزعمَ أنّ الإسلامَ أوجدَ نظاماً سياسيّاً مُحدّد المعالم واضحَ التقاسيم والتفاصيل، يكون قد غالطَ الحقيقةَ. الإسلامُ أتى بمبادىءَ عامّة وتركَ التفاصيلَ للاجتهاد البشريّ. تجربةُ الخلافة الراشدة(أبو بكرَ وعمر) دون عثمانَ وعليّ، أيضاً يمكننا القولُ أنها كانت نموذجيّة، ( إذ كانت هناك بيعتان، صغرى/ وهي الترشيح/ ولا تكتملُ إلاّ بمبايعة الناس/ وهي العقدُ الرضائيّ مع الجمهور/. فمصدرُ السُلطة هو الناسُ، ومصدرُ التشريع هو الله والوحي. لكنّها تركت فراغاً وثغراتٍ دستوريّة، مثلاً( مدّة الحاكم، الطريق لتولية الحاكم، اختصاصات الحاكم أو الإمام…) وهذه ربما تمثّلُ نقطةَ ضعفٍ لا في الإسلام بل في الاجتهاد الإسلامي البشريّ الذي لم يوجِد نظاماً شاملاً سياسياً لمُتّبعيه بحيث يحميهم مما وقعوا فيه.
دولةُ الرسول إذن في جوهرها دولةٌ مدنيّة لا دينيّة بتفويضٍ إلهيّ، لأنّ إدارةَ الشأن العامّ والسياسيّ لا بدّ أن يكون شأناً مدنيّا، بشريا.
الدكتور شاكر النابلسي( وهو رجلٌ عَلمانيّ لا إسلاميّ) يقول: الرسولُ أسّسَ في المدينة أوّلَ دولةٍ علمانيّة في جزيرة العرب.
الرسولُ لم يحكم كما حكمَ باباواتُ روما، ومارسَ السياسةَ لا السُلطةَ. هذا هو فكرُ الرسول نفسه، لا الفقهاء والعلماء، وحتى في القرآن الكريم جاءت مهامه أكثرَ من واضحة، فهو( بشيرٌ- نذير- مبلّغ- مذكّر- وليس مسيطراً وليس وكيلاً وليس جبّاراً وليس حفيظا أو حارساً…). الدينُ يحرسهُ صاحبهُ بقناعته.
هنا يكمنُ التمييزُ بين ما هو (دينيّ) وما هو(دُنيويّ)، والأوروبيونَ لم يبدعوا شيئاً فيما يدّعونه مدنيّة أو علمانيّة، فهذه ليست إلاّ اقتباساتٌ من سُنّةٍ نبويّة. ألم يذكّرنا الرسولُ دائماً بأننا( أعلَمُ بشؤون دنيانا)؟!
هل نسمّي هذا( ديمقراطيّة محمّد) قبلَ أن يشيعَ المصطلحُ نفسه، وعندما كانت أوروبا غارقةً في الظلام؟
أليس في هذا عبرة لكلّ حاكم أن يقبلَ محمدُ الرسولُ نقاشَ رأيه واجتهاده! أليس ادّعاءُ أيّ وصاية يتناقضُ جذريّاً مع روح هذه السنّة؟ إذا كان الرسولُ يطرحُ رأيه واجتهاده للنقاش بل يحثّ عليه، ولم يستعمل حجّةً لفرض رأيٍ ولا لقمع اجتهادِ مُجتهدٍ، وهو الرسولُ الموحى إليه، فكيفَ نقبلُ ذلك ممن ليسَ رسولاً ولا يوحى إليه بحجة بعض الإلمام بالدين؟!
ألم يقلِ الرسولُ لأبي بكرٍ وعمرَ( لو اجتمعتما في مشورةٍ ما خالفتُكما)؟ إنّ الأمثلةَ عديدةٌ تبيّنُ أن الرسولَ كان يميّزُ دائماً بين ما هو وحيٌ(دين) وما هو رأيٌ واجتهاد(دنيا)، وإن كان الوحيُ ليس محلَّ نقاشٍ، فإنه يحرصُ على نقاش الرأي والاجتهاد، وهذا عكس ما نشاهده اليومَ عند الأدعياء. إنهم يستخدمون الدينَ لقمع الرأي والاجتهاد.
لا يمكن للدّين أن يكونَ نظاماً سياسيّاً، والدّينُ لا يحتاجُ إلى دولة
لستُ مؤمناً أو مقتنعاً بوجوب أو وجود أحزاب سياسيّة تعملُ على طريقة الدين. هناك في التاريخ كانت دولةُ(المسلمين) لا دولة(الإسلام). والآن السياسةُ هي سياسةٌ ل(مسلمين) وليست سياسةً(إسلاميّة). الدينُ نفسهُ من حيثُ هو(لا يحتاجُ إلى دولة). وفي الأصل لو تأمّلتَ تاريخيّاً أعظمَ الدول الإسلاميّة وكيف دخلها الإسلام، سترى أنه ليس بالفتوحات وسفك الدماء، بل بالدّعاة والتبشير، وتراهم نجحوا فيما لم تنجح به الجيوشُ الجرّارة. فالإسلامُ يمكنُ أن ينتشرَ ويوجدَ ويتواجد من غير أن تنصرهُ أو تقومَ به دولةٌ.
لو افترضنا اقتراحاً( يمكنُ أن يسعفَ في تقديم سيناريو تاريخيّ بديل)إن جازَ التعبير: ماذا لو بُعثَ الرسولُ أو وجدَ في حقبةٍ وفي ظلّ ظروف إمبراطوريّة تسمحُ بتداول الآراء وبثّ الدعوات للجميع، هل كان سيحتاجُ محمّدُ أن يهاجر! لمَ يُطرَدُ وهو يعيشُ في ظلّ دولة مستقرّة تحفظُ الحقوقَ وتسمحُ بالتبشير، كان لن يطردَ من مكّةَ حتماً. ونحنُ نعلمُ أنه أُخرجَ وما خرجَ برغبته.
لم يكن في وارد النبيّ أصلاً أن يبنيَ دولةً للمسلمين، كلُّ ما كان يطالبُ يه في مكّةَ هو ألاّ يُحالَ بينه وبين الناس( خلّوا بيني وبينهم أبلّغ دعوةَ ربّي)؟
ويحضرني هنا( أبو بكر الأصمّ) أحدُ مفكّري المعتزلة وهو يقول )إذا أمكنَ للجماعة أن يتناصفوا وألاّ يتظالموا وينظموا شؤون حياتهم، فليسوا بحاجة إلى سلطانٍ أو خليفة للأمّة)، لأنه كان يفهم أنّ هذا الأمرَ بطبيعته شأنٌ مدنيّ ودنيويّ بعيدٌ عن جوهر الدين وأساسياته.
إنّ الدينَ لكي يكونَ نظاماً سياسياً فإنه يستلزم وجود مؤسسة دينيّة، لكننا نعرفُ أنّ محمداً آخرُ الرسل وأنه لا يورَثُ، بمعنى أنه بوفاته صار الناسُ في الدين سواسيةً، لا سلطة دينيّة بعد الرسول، فالعلاقةُ بين المسلم وربّه علاقةٌ مباشرة. ولهذا لم يعرفِ الإسلامُ مؤسسات دينية تحتكرُ الدينَ ولا رجالَ الدين. ولهذا لكي يمكن للإسلام أن يتحوّلَ إلى نظام حكم، فإنه لا بدّ وأن يتحوّلَ إلى مؤسسة(كالفاتيكان مثلاً) وما يتبع ذلك من هرميّة الوظائف دينياً واحتكارٍ للدين. ولمّا كان الإسلامُ لا يعرفُ هذه المؤسسات فإنّ الحزبيينَ يريدونَ خلقَ هذه المؤسسة الدينية، والتي بدونها لا يمكنُ أن يكون ثمّة حُكم دينيّ، أي (الحزب الدينيّ) والذي يمكنُ بعد ذلك أن يتحوّلَ إلى مؤسسة سياسيّة أيضا، مما يعيدُ خلط الديني والسياسي كما كان في شخص النبي محمد، ولكن في غيابه! أي في الحقيقة سيطرة السياسيّ على الديني، ولكن نحن لا نقبلُ بذلك وأن يتحوّلَ الإسلامُ من علاقةٍ مباشرةٍ إلى متوسّطة.
إنّ المؤسسة الدينيّةَ نقيضُ الإسلام. والإسلامُ لا يرتبطُ بالدولة، فهو ليس جنسيّةً تُمنحُ أو تُسحب، فالمسلمُ الصينيّ لا يفقدُ إسلامهُ لأنه صينيّ، وهكذا كما أنّ تعدّدَ الدول لا يتناقضُ مع العقيدة الإسلامية، فاقد رأينا ومنذ عام 77 7م تشتُّت الدولة الإسلامية حيث تضخّمت وصارت غير قابلة لإدارة واحدة تحت أي مسميات، وقويت العديدُ من الولايات بحيث لم يكن للخلفاء في أحايين كثيرة من سلطانٍ في( دولتهم)إلاّ الخطبة باسمهم في المساجد.
الدينُ يعلمُ أنّ الإنسانَ عنده الإمكانات واللياقاتُ ليحضّرَ نفسه.
ولنكن صريحين مع أنفسنا قليلاً، النظامُ الخلافيّ أيامَ أبي بكر وعمرَ وعثمان وعلي لم يكن متطوّراً كتطوّر النظام في(روما الإمبراطوريّة مثلاً)، كانوا سبّاقين لنا بكثير، وكانوا وثنيين. بمعنى أنّ هذا الشأنُ هو شأنُ خبرات وتجارب بشريّة، إنسانيّ محض، يقدرُ عليه، لا بعنوان الدين ولا بتوجيهات نصوصيّة. الإضافةُ التي يؤكدُ عليها الإسلام هي الحفاظ على تلك المفاصل والقيم العليا فقط. الإمامُ الشاطبيّ عندما تحدّث عن المقاصد الخمسة قال: هذه المقاصدُ معروفةٌ لكلّ ملّة وفي كلّ أمّة، ثم قال( البشرُ لا يتعارضون إلا بمصالحهم).
والصحابةُ فهموا هذا قبلنا، حيث قالوا عن الصدّيق:(رضيهُ اللهُ ورسولهُ لديننا أفلا نرضاهُ لدنيانا), فالدينُ والسياسةُ إذاً(دنيا) وليست(ديناً). أمّا الزاعمُ بأنه لا يمكن تدبّر الشأن الاقتصادي أو السياسي إلاّ بالدين فهذا يجانبُ الصوابَ.
حولَ مسألة فصل الدّين عن الدولة والسياسة
يمكنُ القولُ أنّ(العلمانيّةَ) هي الحلّ لمعظم المشاكل التي نعاني منها في مجتمعاتنا، لكن علينا أن نفهمَ بأيّ معنىً؟! فالعلمانيّةُ كحلٍّ ناجع جُرّبَ في أوروبا، لنزع فتيل الصراع والاحتراب الطائفيّ والمذهبي. وهي تعني أن تكون الدولةُ دولةَ مواطنيها، ليست دولةَ أديان، ولا من أهدافها فرضُ دينٍ على آخرَ. أي تركُ الدين للناس وهم سيحرسونه.
فصلُ الدين عن الدولة: أي ليس بالضرورة أو مقبولاً أن يأتي رجلٌ أو عالم دينٍ ليديرَ لي مؤسسة سياسيّة من نوعٍ ما، بل نختارُ مَن يحسنُ الإدارةَ.
سئلَ الإمامُ أحمد: رجلٌ يؤمّرُ على جيشٍ، أحدهما كفؤٌ وقادرٌ لكنه فاسقٌ، والآخرُ صالحٌ لكنه عاجزٌ، فقال: أمّروا الفاسقَ، فإن أحسنَ فإحسانه لنا وفسقهُ على نفسه!. كذلك هو الأمرُ في الشأن العام، فما أجملَ فصل الدين عن السياسة والدولة.
العلمانيّةُ التي نقصدها هي تلك التي بالمعنى الفلسفيّ الذي يقدّم رؤية للحياة وللوجود، وغير ذلك هو إلحاد.
العلمانيّةُ التي نريدُ أن نصلَ إليها ليست تلك المشوّهة التي تخصّ الله في فكرها وحواراتها، بل هي الإمكان على تأسيس المواطَنة على أسسٍ غير عقيديّة، ضمن إطارٍ واسعٍ اسمهُ الوطنُ، يشملُ كلَّ من انتمى إليه، بغضّ النظر عن اعتقاده ودينه، ويكون عليه التزامات وتجبُ عليه حقوقٌ. هذا هو الصحيحُ، ولا يشترَطُ أن ننشرَ دولاً على أسسٍ إيديولوجيّة أو اعتقاديّة كما كان في القرون الوسطى
. وأعتقدُ أنّ آلافَ المفكرين المسلمين مع هذه الفكرة الآن. وفعلاً النبيّ محمد أرسى أسسَ المواطنة، وجعلَ مفهومَ (الأمّة) مفهوماً سياسياً لا مليّاً،( يهودُ بني عوفٍ أمّةٌ من المؤمنين)، كيف وهم يهود؟ نعم (أمّة سياسية) وهذا ممكنٌ ضمن علم الاجتماع السياسيّ.
في السياق الغربي (أوروبا)، ابتلعتِ السلطةُ الروحيّةُ السلطةَ الزمنيّةَ. الكنيسةُ أخذت كلّ شيء، ولمّا ثاروا أرادوا أن يحرروا الزمنيّ من قبضة الروحيّ، وعندهم كلّ الحقّ في ذلك، واستفادوا من هذا. أمّا نحنُ فوضعنا معكوسٌ تماماً، فعندنا السياسيُّ- منذ أيام بني أميّة وحتى اليوم- هو الذي ابتلعَ الدينَ وأرادَ أن يوظّفه لصالحه، وهذا ما منعَ نموّ تجربة دينية حقيقية حرّة في تاريخنا. فمن صالحنا جميعاً- مسلمين وغيرهم- أن يتحرّرَ الدينُ من قيضة السياسة.
نعم، يجبُ فصلُ الدين عن الدولة. ويمكنُ أن يلتقي الإسلامُ(كما أفهمه) بالعلمانيّة، إذا كانتِ العلمانيةُ تصرّ على دولة يحيَّدُ فيها الدينُ عن الدولة وأجهزتها الرئيسية، فلا أعتقد أنّ الإسلامَ يمكن أن يتعارضَ كثيراً هنا. الذي يتعارضُ مع العلمانيّة بهذا المعنى هو( الدولة الثيوقراطية) أي دولة الحكم الإلهي.
إنّ مصدرَ السلطة في الفكر الإسلامي هو الشعب، هو الذي بايعَ أبا بكر. حتى الرسولُ لم يذهب إلى المدينة إلاّ بعد أن أخذ بيعة( العقبة)، وحتى في المدينة أخذ عليهم أكثر من بيعة وهو الرسولُ. ومن هنا يمكن القول بأنّ (ما بين العلمانيّة والإسلام توافقٌ لا تصادُم). مصدرُ السلطة ليس الله بل الشعب، ومصدرُ التشريع الأساسيّ هو الله.
إذا كانتِ العلمانيّةُ هي( رفضٌ للدولة الثيوقراطيّة) وفصلٌ للدين عن الدولة، بحيث تكون الدولةُ على مسافةٍ واحدة من جميع الناس والأديان، (وليست ضدّ الدين)، وإتاحة الحريّات لجميع المعتقدات على قدمٍ سواء، أي يُحظَر على الدولة إملاء الاعتقاد والدين على الناس، فهي بهذا المعنى تتوافقُ مع الإسلام تماماً.
لم يبنِ الإسلامُ دولةً دينيّةً، والحُكمُ مهمّةُ المسلمين لا الإسلام
ولقد رأينا أن النظامَ السياسي في الدولة الأموية كان متأثّراً بالنظام الذي كان سائداً في الدولتين الفارسيّة والبيزنطية، وانتقلت الدولةُ إلى نظام الوراثة.
وهذا النظامُ اتّبعهُ العباسيون أيضاً وغيرهم، مما جعلَ البيعةَ مجرّدَ تصديقٍ على أمرٍ واقع أو مسألة شكليّة بحتة. كما أنّ العباسيين، وقد ساعدهم الفرسُ على التخلّص من الحكم الأموي، فكان نتيجة ذلك أن صارَ نظامُ الحكم مماثلاً لما هو عليه في بلاد فارسَ، وصارَ للفرس النفوذُ الأعظم في الدولة العباسية، فأين الدولةُ الدينيّة؟ وعلامَ يعتمدُ أدعياؤها في صرخاتهم؟!
وحتى من زاوية النصّ الديني، لا نجدُ شيئاً من هذا القبيل.
وإذا كان ثمّةَ نظامٌ سياسيّ دينيّ نصّ عليه القرآنُ، فإنّ ما دارَ في سقيفة بني ساعدة حين وفاة الرسول لا جدوى منه، بل أيضاً خروجٌ عن النصّ وعن السيرة.
القرآنُ فقط يشيرُ إلى الشّورى( وشاورهم في الأمر)، هذه الآية التي نزلت بعد معركة أحد، حين غضبَ الرسولُ من الذين أشاروا عليه وأخذ بمشورتهم، وما كان لذلك من نتائجَ، لكنّ القرآنَ يؤكّدُ في هذه الآية للنبي والمسلمين من بعده أنّ أضرارَ المشورة أقلّ من الأضرار التي تترتّب على عدمها.
ولم يفصّل لنا القرآنُ شكلَ الحكومة ولا تنظيم سلطاتها ولا اختيار أهل الحلّ والعقد.
خاتمة
سؤالٌ أخيرٌ يراودني بعدَ كلّ هذا الكلام: لماذا نُقحمُ الدينَ في خلافاتنا وشؤوننا الدُنيويّة؟ّ! في أمورٍ لم يحسم فيها القرآنُ، وتركَها قصداً لنا
هل نحنُ في حاجةٍ إلى حاكمٍ أم إلى نظام؟ وإذا شغلَ المسلمونَ أنفسَهم بالحاكمِ( الخليفة) زمناً، أليسَ من حقّنا أن نوجّهَ انتباهنا إلى النظام الذي نحتاج؟
هل من الحكمة- في القرن الحادي والعشرين- أن نناضلَ من أجل(حكومة دينيّة)، أم من أجل نظام شورى(الأمّة الديمقراطيّة)، حيثُ فيه الأمّةُ تملكُ زمامَ أمرها الذي خوّلها فيه القرآنُ، وتقرّرَ مصيرها، حيثُ فيه الإسلامُ يزدهرُ ويقوى؟!
وفي كلّ الأحوال، وحين نستعرضُ تاريخَ الخلافات الإسلاميّة، فإننا نخرجُ بحقيقة ثابتة في كلّ الخلافات، ابتداءً من سقيفة بني ساعدة ومعارضة علي بن أبي طالب، ومقتل عثمان والصراع الأمويّ العبّاسي… وحتى يومنا هذا، فإنّ شعارَ الدولة الدينيّة أو الحكومة الدينية كانَ شعاراً غامضاً فضفاضاً جداً، يضعُ فيه كلُّ فريقٍ ما يشاءُ، وهو لم يُدلّل عليه بالقرآن ولم يحدّد. لأنّ غموضَهُ نفسه يخدمُ الهدفَ السياسي وراءهُ: استغلالُ المشاعر الدينيّة في معركةٍ سياسيّة للوصول إلى الحُكم تماماً، كما رفعُ المصحفِ في معركة صفّينَ بين الإمام عليّ ومعاوية، فاللهُ لا يحكمُ فعليّاً وإلاّ ما كان لأحدٍ أن يعترضَ، ولكنّ الحقيقةَ أنّ أدعياءَ الحُكم لله يتحوّلون عمليّاً من( حُكم الله) إلى حكمهم نيابةً عنه دون أيّ برهانٍ أو دليلٍ على أنّ اللهَ أنابَهم عنه، وهذا عينُ الخداع واستغلال الدين.
عندما نقرأُ تاريخَ منطقتنا الداميّ والمليء بالأحقاد والدمار والخراب تحتَ شعار الخلافة ودعاوى دينيّة وتحالفات مع الأعداء وتسليم الديار لهم، ينتابنا سؤالٌ أخيرٌ ومخيف يدقّ ناقوسَ الخطر: هل يعيدُ التاريخُ نفسَهُ؟
هل سوفَ يشبهُ اليومُ الأمسَ؟
أسبوعين مضت
4 أسابيع مضت