محاولاً جعل نفسه من الذئاب يقفز ويركض كما يشاء وأينما شاء متجاوزاً حدوده ورقعة الأرض المحددة له طالباً المزيد من السلطة والهيمنة ولو كان على حساب التاريخ والجغرافيا والمجتمعات. التشبه بالحيوانات عادة قديمة وعميقة بالتاريخ عند الكثير من الشعوب في المنطقة، ولعلها بذلك تتجاوز عقدة النقص التي تعيشها كبشر. فمنهم من تشبه بالدب كروسيا ومنهم بالثور كأمريكا ومنهم بالنسر كما فعل صلاح الدين الايوبي والذي ما زال شعار معظم الدول في مشرقنا المتوسطي. طبعاً لكل هذه الرموز معناها ودلالاتها المادية والمعنوية والتي لها تأثير على سيكولوجية الانسان وأهدافه في الحياة وكذلك مشاريعه في بناء المستقبل. فالدب الذي يرمز للقوة والضخامة ولكنه مرتبط بشكل مباشر بالأرض التي يعيش عليها والتي لا يمكن توسيعها بحكم خصائص الدب الجسدية والفيزيائية وهذا ما يفسر طبيعة روسيا كدولة منكفئة على ذاتها وإن رغبت بالتوسع،
أما الثور فهو أيضاً يرمز للقوة والتشبث بالأرض ولكنه غير مستقر ويبحث دائماً عن السهول والسهوب والمراعي ليقتات منها وعليها وليجعلها مكاناً لهيمنته وسلطته، وهذا ما تفعله أمريكا. أما النسر فهو بقدر تمسكه بالأرض إلا أنَّ السماء والفضاء الواسعتين هي حياته التي لا يستغني عنها البتة، ومرتبط بالعاطفة والشعوب بالقوة حينما يحلق بالسماء والتقرب من الآلهة، وهذا ما نراه في حقيقة مجتمعات وشعوب مشرقنا المتوسطي. لكن بعض الشعوب اتخذت لها رموزاً لها تعبيراً عن حقيقتها مثل المغول والذي أرادت أن تكون ذئباً يقتل ويفترس الآخرين ويعتدي على خصوصياتهم ليمزقها ويريق الدماء ليس بغرض الجوع، بل نهمه للدماء والقتل هو ما يشعره بالوجود.
وهذا ما أراده المغول حينما خرجوا من مناطقهم في شرقي آسيا متوجهين نحو الغرب يقتلون وينحرون كل من يعترضونهم، حتى وصلوا لمشرقنا وشكلوا ما سُمي بالخلافة العثمانية على أنقاض المدن والمجتمعات وأطلال الحضارات والمدنيات في المنطقة. قتلوا الانسان وحرقوا كل ما له علاقة بالحضارة والتاريخ والإنسانية، وليكونوا بحق ذئاب مفترسة تقضي على كل شيء حي ليفرضوا سلطتهم وهيمنتهم. هكذا كانوا ويسعون الآن أيضاً كي يسترجعوا تلك الملاحم ثانية عن طريق القتل والحرق والهدم لكل شيء بدءً من الانسان وحتى المدن والتاريخ وكذلك الجغرافيا. أردوغان الذي تحالف مع من يدّعي أنه من سليل الذئاب الرمادية دولت بخجلي زعيم الحركة القومية الفاشية، محاولين إعادة التاريخ للوراء وكأن التاريخ يمكن لرهط من القتلة أن يكتبوه كما يريدون ومتناسين بنفس الوقت أن التاريخ له سيرورته الخاصة به، وإن تحكم بها الانسان لمرحلة، إلا أنه يعيد مسيرته في مجراه الطبيعي في الزمان والمكان المناسبين.
أردوغان يريد التشبه بالذئاب الرمادية التي هي حقيقة التاريخ المغولي، لكنه يتناسى أنَّ هذه المرحلة ليست كما سابقاتها، وأنه أقصى ما يمكن التشبه به هو أنه بات كالدجاجة التي تصرخ كثيراً محاولة الطيران مقلدةً النسر الذي هو هوية المنطقة، إلا أنه مع الأسف لا يعلم أن الدجاج لا يطير مهما حاول إلا لأمتار عدة لا تتجاوز غصن شجيرة مزروعة في فناء منزل من منازل المشرق المتوسطي. ربما حينما خرج أجداد أردوغان من منغوليا كانوا كالذئاب حتى وصلوا هنا، لكن لهذه المنطقة حقيقتها التاريخية والجغرافية والمجتمعية أيضاً ولا يمكن لكل من هبَّ ودبَّ أن يندمج معها إلا إذا تواضع وقبل حقيقتها المتنوعة الضاربة في عمق التاريخ.
ولكن أن يخرج عن هذه الحقيقة فأنه أقصى ما يمكن التشبه به هو ربما يكون دجاجة لا غير لا تستطيع الطيران ولا التحليق عالياً ولا يمكن له السمو والعلو ولا حتى التشبه بالآلهة إن هو أراد ذلك. ربما كانت الدجاجة التي يتشبه بها أردوغان متوحشة وبرية وكذلك فراخها الذين يسيرون خلفها من مرتزقة وارهابيين أقزام، إلا أنه بكل تأكيد أن نسرُ المنطقة سيحلق ويطير ذات يوم ويُطلق صفيره لإيقاظ شعوبها من غفلتهم ونومهم لينقضوا على الدجاجة وفراخها المرتزقة ليلقنوها درساً في التاريخ والجغرافيا وكذلك بالتواضع أمام الحقيقة التاريخية والحضارية للمنطقة التي لا تقبل الاستعلاء والتكبر والفكر الواحد، بل حقيقة المنطقة قوتها في غناها التنوعي من شعوب ومذاهب وطوائف والأفكار الجمَّة. وبكل تأكيد سيحلق نسر الأيوبي ثانية ومن نفس الجغرافيا في سماء المنطقة ويدجن الدجاجة وفراخها حتى يعودوا لرشدهم وتعود المنطقة لطبيعتها البعيدة عن العصبية القبائلية القوموية الفاشية وكذلك التطرف الديني المنغلق على ذاته والمتقوقع في شرنقته الدينوية.
حقيقة المنطقة تتمثل بشعوبها كلها من عرب وكرد وأرمن وآشور وتركمان وأمازيغ وليس بشعب واحد على حساب باقي الشعوب والمكونات والقوميات. وهذا لن يتم إلا بالعيش المشترك على أساس أخوة الشعوب والأمة الديمقراطية التي ربما تكون الهوية الجامعة لشعوب المنطقة ليعيشوا مع بعض على أساس أنَّ الكل مع الكل. وليس كما يريد الثور والدب والذئب في أن تكون سياسة المنطقة الكل يقتل الكل.