الحدث – القاهرة
من أكثر المراحل التاريخية وأصعبها وبل أكثرها تأثيراً على مصير الشعبين الكردي والأرمني بدأت مع القرن التاسع عشر وخصوصاً بعدقيام العثمانيين بتشكيل أهم أداة وظيفية فعالة تطبيقاً لسياسة فرق_تسد، لإختلاق تناقضات وفتن بين شعوب المنطقة، مستغلة الطبقاتوالشرائح الفوقية لإضعاف الثقافة والقيم المجتمعية الأخلاقية والإنسانية المشتركة، وللقضاء على تقاليد التحالفات الديمقراطية التاريخيةللشعوب وعيشها المشترك الحر.
وكانت الألوية الحميدية من الأمثلة والأدواة التي استعملها العثمانيين وبيروقراطية الإمبراطورية التي أصبحت في دائرة التأثير والنفوذالدولي حينها والمتطلع إلى الهيمنة والسيطرة والإستعمار ونهب مقدرات أمم المنطقة وخيراتها.
وكانت للألوية الحميدية هدفين أساسيين من خلالهم تتحق الأهداف الأخرى وهما:
1_القضاء على احتمالية ظهور حركة قومية ديمقراطية كردية عصرية.
2_القضاء على المطالب الديمقراطية الأرمنية المحقة.
حيث تم بناء السياسة العثمانية تجاه الشعب الكردي في عهد السلطان عبد الحميد (1876_1909)، وتطبيقها بناءً على الألوية الحميديةالتي تشكلت وأخذت فكرتها من نموذج الألوية الروسية الكازاخية.
إن التطورات التي أسفرت عنها الحركات الأرمنية والكردية واحتمال تزايد نفوذهم مع التفاعل و العمق المترابط والتلاقي التاريخي والمتكاملبينهم، دفعت بيروقراطية الإمبراطورية العثمانية التي كانت مخترقة وعلى إتصال وثيق مع دوائر النفوذ والقرار العالمي حينها، إلى إتخاذتدابير جذرية منها محاولة إختلاق تناقضات بين شعوب المنطقة لإضعاف الإرادة المشتركة الحرة وتهيئة الأجواء لفرض مشاريع خارج ثقافةالمنطقة المشتركة وقيمها المجتمعية التاريخية كخلق تناقض تركي_أرمني و أرمني_كردي و تناقض سرياني_كردي وتركي_كردي وغيرها ،والأصح القول أن القوى المهيمنة استفادت من التناقضات بين الشرائح الفوقية وسخرت الشعوب لمآربها. وكانت إنكلترا في صدارة تلكالسياسة فرق_تسد. وبالتأكيد لو تمكن مثلاً بدرخان بيك أمير إمارة بوطان الكردية في القرن التاسع عشر من عقد التحالف مع السريانلتمكن الشعبان من نيل حريتهما في إطار جامع لهما. ولو تمكن الكرد والأرمن والسريان والعرب من التحالف والنفاذ من سياسة القوىالعالمية فرق_تسد لما تمكن القوى الخارجية فرض نموذج الدولة القومية التركية الفاشية على شعوب ميزوبوتاميا والأناضول الأصلية وخلقالفتن والتناقضات بين شعوب عاشت ملايين السنين دون أي تناقض.
إن العلاقات الأرمنية_الكردية من أقدم العلاقات في المنطقة والتاريخ. وقد شهدت تقسيما طبيعياً للعمل والحياة فالحرف الحرة والمهن لدىالأرمن والزراعة لدى الكرد كانت تغذيان وتكملان بعضهما بعضاً، ولم يكن الاختلاف في الدين عامل خلاف أو نزاع بل كان عامل احتراموتقدير وغنى وتنوع كخاصية للحياة والطبيعية والكون في ميزوبوتاميا وكردستان وبلاد مابين النهرين وماوراء القفقاس والأناضول.
لكن حراك بعض القوميين الأرمن بنحو منقطع عن تاريخ الشعب الأرمني وعن واقع المجتمع الشرقي، قدم للسلطان العثماني الأرضية التييحتاجها لإستخدامهم كما يشاء. فمقابل كردستان التي يتعين اعتبارها وطناً مشتركاً، جرى التفكير بأرمينيا من عرق خالص كضرورة منضرورات الدولة القومية أي مشرورع وطن ذي أمة واحدة على غرار الحركة السريانية حينها وغيرهم.
وتبقى أكبر مصيبة و تخريب وبلاء تحدثها أيدولوجية الدولة القومية الغريبة عن ثقافة المنطقة، هو إتخاذها أثنية أو عرق أو قومية أو أمة واحدة أو دين واحد او مذهب واحد أساساً لها على الدوام دون غيرها. بينما يعد الأخرون غرباء ويمثلون أقلية أو أمة أخرى أو ناس أقل شأنًعليهم الخضوع والخنوع والركوع، إن لم تكن القضاء عليهم وتهجيرهم وتغير ديموغرافية أراضيهم ومحاولة صهر من يبقى منهم وذوبانهم فيبوتقة القومية الحاكمة. فمنطق الدولة القومية يقتضي ذلك من كل بد حتى لو لم يتم تشكيل دولة، فكل حامل لهذا الفكر المريض والعقيم يجدنفسه في صراع مع جيرانه والشعوب والأديان والثقافات الأخرى.
والنتيجة هي دخول الشعوب والثقافات المتجاورة العريقة المتعايشة بالتداخل منذ القدم حرباً تنافسية تجاه بعضها البعض لايستفيد منهاسوى القوى المهيمنة الخارجية والشرائح الفوقية السلطوية لكل شعب. وعندما حمل كل طرف أهدافاً قوموية متشابهة على رقعة الأرض نفسهاأصبحت الاشتباكات أمراً لامفر منه. و هذا المنطق القوموي الإلغائي والإقصائي للدولتية القومية هو الذي يكمن وراء التناقضات والصراعاتالدائرة في العلاقات بين شعوب المنطقة (الكردية، التركية، الأرمنية،السريانية، العربية، الفارسية والتركية).
والسلطان عبد الحميد انطلق من هكذا تناقض، فباشر اعتبارا من عام 1892 بتحريك الألوية الحميدية التي تم تجميعها من العشائر الكردية. في حين استراتيجية وتكتيكات القوموية الأرمنية، التي أسندت ظهرها وثقتها إلى دعم القياصرة الروس، فأصيبت بالفشل في وجه وحداتالسلطان المجمعة من العشائر الكردية. علماً لو أسند الأرمن استراتيجياتهم وتكتيكاتهم إلى سياسة الصداقة مع الشعوب المجاورة، لربماكانوا مهدوا السبيل أمام تطورات ثورية تحول مصير الشرق بأكمله. أي كان بوسع الأرمن في الإمبراطورية العثمانية أن يلعبوا دوراً شبيهابما أداه اليهود الروس في الثورة الروسية والفرنسية في رصف أرضيتهم الأيدولوجية والسياسية، إلا أن منطق القوموية البرجوازية الذييتصف بالضمور والإنفصال لم يتح المجال لهكذا تطورات وأدوار.
لكن الأثار والتداعيات السلبية والتخريبات الأصل التي تسبب بها الألوية الحميدية ومعها المدارس القبلية قد طالت الكرد في الأساس،صحيح أنه ظاهرياً تبدو الألوية الحميدية تجاه تهديدات القوميين الأرمن. لكن مضمونها شيدت ضد الحراك الكردي القومي، الذي بات علىمشارف الوصول إلى أشكال عصرية تتوجس منها الإمبراطورية العثمانية وسلطانها والقوى النافذه في السلطنة وكذلك المهيمنة من ورائهم.
ويجب النظر إلى هذه الحركة والألوية الحميدية على أنها تطبيق مبكر لتنظيمات المرتزقة والعميلة كحماة القرى أو القروجيين(الذين يحاربونالآن مع جيش الدولة الفاشية التركية ضد نضال الشعب الكردي الحالي بريادة قوات الكريلا التابعة لحزب العمال الكردستاني) .
إن الألوية الحميدية لاتنحصر في القضاء على الخطر الأرمني كما يعكسه التاريخ الرسمي التركي بل للقضاء على المطالب الديمقراطيةالمحقة للشعب الأرمني، وفي نفس الوقت فهي تنسف احتمال ولادة أي حركة قومية كردية. حيث تسلح نخبة قليلة و ضيقة من القبائل مقابلالرواتب والمراتب والمغريات، ليتم التحكم بكافة العشائر والقبائل و بجميع أعضائها، فتستخدم بالتالي كما يهوى السلطان وأجندته وسلطته .
وهكذا أدت الألوية الحميدية دورا أساسياً في القضاء على احتمال ظهور أية حركة ريادية من مستوى حركتي بدرخان وعبيدالله النهري مرةثانية. من هنا فالضرية الحقيقية قد طالت الحركة القومية الديمقراطية الكردية التي يحتمل ظهورها. علاوة على ان القبائل ألبت على بعضهاالبعض بزرع التناقضات وإثارة الفتن فيما بينها.
وفي خضم هذه الأجواء المشحونة بالتناقضات والاشتباكات، لم يقتصر الأمر على هدر أهم فترة من تاريخ كردستان تقارب نصف القرن. بلوأقحم المجتمع الكردي في سلبيات غائرة، باستثمار تلك التناقضات والنزاعات ضده. مما سقط في وضع عقيم غير منتج وسقيم، لغرقه فيالتناقضات والصدامات الداخلية وعيشه في حالة غير صحية إنعكست أثاره على مجمل مصير الأمة الكردية.
هذه السياسات التي ترتكز إلى القوى القبلية المتواطئة ذات الطابع المليتاري، ويعتمد على مؤسستي الإمارة والمشيخة المتواطئتين معها، مماتوضح على أكمل صورة أسباب العجز عن تطوير الحركة القومية الكردية على غرار مثيلاتها. ومن عظيم الأهمية الإدراك والتقييم بأفضلالأشكال هنا أيضاً، أن الشريحة الفوقية الكردية لعبت دوراً سلبياً جداً، أو أنيطت بدور سلبي للغاية في عهد الحداثة في ظل النظام العالميالمهيمن.
موضوع البحث والحديث هنا هو كيانات خاصة وزائفة مدفوعة لمحاربة وجوده المجتمعي وهويته المجتمعية الأصيلة. فالمتاجرة بالحركاتالكردية المحتملة تبقى الوسيلة الوحيدة بأيديها لإطالة عمرها أشخاصاً وعائلات، عندما تخسر قواها وبالتالي منافعها التقليدية ، لعدة عواملمنها إنتهاء الإنتفاضات والتمردات بالهزيمة، وتستخدم كل أسلوب في حسابات صفقاتها، بدءاً من التخلي عن زعامة أية حركة محتملةوصولاً إلى نسج الحركات التآمرية المضادة كما يحدث الآن في شمالي سوريا وشمالي العراق وجنوب شرق تركيا، حيث أنه هناك من يساندالدولة التركية الفاسية ويشرعن لها إبادتها بحق الشعب والمجتمع الكردي وطبيعة كردستان كما يحصل في عفرين ورأس العين وتل أبيضوفي حفتانين وكاري وخاكوركي وشنكال وأسوس وغيرها.
وأكثر الاساليب تأثيراً كان الحظي ببعض المصالح المادية والمعنوية، مقابل التخلي عن الكردايتية كظاهرة، واعتبار نفسها جزء محبذاَ منظاهرة الأمة الحاكمة. هذا الأسلوب المفروض بكثافة والمتبع إلى يومنا بنجاح إزاء الطبقات والشرائح، وإزاء كل الأسر والشخصيات التيتحتويها. لقد بات الشعار واضحاً جلياً. تراجع عن الكردياتية كي تصبح كل شي وتحظى بكل شي أو تظاهر بأنك كردي وفي الحقيقةوالواقع غير ذلك وتابع للمحتل التركي الفاشي.
النتيجة لهذا الإسلوب هو إفساحه السبيل أمام مفهوم مفتوح على مصراعيه أمام كردياتية زائفة تبتكر كي تستخدم وسيلة للاستحواذ علىالمصالح والنفوذ الشخصي والعائلي. ما من ريب في وجود شخصيات وعوائل نافذة في كل مجتمع. والفضل في نفوذها يعود إلى القيم التيأضافتها لمجتمعها. لكن ثمن التحول إلى شخصية وعائلة ذات نفوذ لدى الكرد هو المتاجرة بقيمها المجتمعية في أكثر الحالات حياتية وأهمية،وخيانتها، بل وحتى محاربتها.
إن الجانب الفيجع الخاص بالكرد هو المقاربات والحسابات والممارسات الميدانية المسلوكة في هذا المنحى بحق الواقع الاجتماعي. هذا وبلاشك هناك شخصيات وعوائل في كل طبقة وشريحة بحيث تكون موقورة وتؤدي دوراً مشرفاً. لكن الساري هو تلك الأساليب الملعونة الضاربةفي جذورها عميقاً، وليس الحالات الاستثنائية.
وهكذا يكون الألوية الحميدية مثالاً للتدخل في مصير الشعوب الأصلية للمنطقة وأداة مسخرة للسلطنة والسيطرة والتحكم والنهب ، ربما منالأصح القول أن مانشاهده اليوم أحد اسبابه الرئيسة هو تلك الألوية والمنهج الذي تم عليها إنشائها. ولكن مانشاهده اليوم من تشكيل تركيالجيش المرتزقة على يد السلطة التركية الحالية من أردوغان وبهجلي وحزب العدالة والتنمية والحركة القومية التركية يتجاوز الألوية الحميديةبأضعاف المرات ولها تأثيرها سلبي كبير على استقرار والأمن والسلم في المنطقة والعالم، فهاهم الألوية الحميدية الجديدة من (داعشوالقاعدة والأخوان الأرهابيين ومايسمى الجيش الوطني السوري والأئتلاف السوري المعارض والحركات الأخوانية وحلفائهم الليبراليين وبعضالمتواطئين) وهم أدواة للسلطان العثماني الجديد أردوغان أو عبد الحميد الجديد وهم يتدخلون و يحتلون أجزاء من 17 دولة في المنطقة منهاسوريا والعراق وليبيا وقطر واليمن والصومال ولبنان وموريتانيا وآرتساخ وغيرها. لكن لن تكتب النجاح للألوية الحميدية الجديدة وسلطانهاأردوغان بل سيكون مصير أردوغان والدولة التركية الحالية مشابه لمصير عبد الحميد والإمبراطورية العثمانية وربما لن يبقى من تركياالأردوغانية للتاريخ سوى ذكريات مرتزقته وتجاوزاتهم للقوانيين والأعراف الدولية والإنسانية. وسيظل التعايش والإرادة المشتركة والتنوعوالتعدد المكون لطبيعية الحياة والشعوب في المنطقة هي الغالبة والمنتصرة في النهاية مهما فعلوا من خلقوا التناقضات والفتن والدول القومويةوالألوية الحميدية.
أسبوعين مضت
4 أسابيع مضت