الحدث – القاهرة
من أكثر الأمثلة الفريدة و الوحيدة الخاصة لحالة الإبادة هي التي يتعرض لها الشعب الكردي منذ مستهل القرن التاسع عشر وحتى اليوم، ورغم أن الإبادة بدأت نتيجة للتدخلات الخارجية للقوى التي أرادت الهيمنة على المنطقة وشعوبها إلا أن حالة الإبادة المستمرة وهزيمة القوى التي تدعي المقاومة أحياناً وضرورة وجود آليات وأداوت مسخرة لإستمرار حالة الإبادة إنعكست بتواجد أدواة فعالة ومؤثرة من الشعب الذي يتعرض للإبادة حتى يكتمل حلقة الإنهاء والقضاء التام وسد الطريق أمام أي حركة مقاومة حقيقة معبرة عن المجتمعية الأخلاقية للشعب المعرض للإبادة.
ولكي نحلل هذه الحقيقة في الواقع الكردي ومعرفة اللحظة الفاصلة والمحطة الموجدة لهذه الأداوت علينا البدء بسرد تاريخي للمحطات الرئيسية و للحقائق المؤثرة حتى ندرك أبعاد هذه الأدوات الوظيفية وتوجدها في المجتمع الكردي وأدوارها التخريبة والمتواطئة مع المحتلين والقائمين بعمليات الإبادة والتطهير العرقي والتغيير الديموغرافي مهما حاولوا التستر والتمويه بإستخدام مقدسات الشعب والتلاعب بعاطفته وأرتداء ملابسه الفلكلورية وبالشعارات الرنانة وبالوعود الفارغة دون سلوك مؤكد على ذلك.
في مستهل القرن التاسع عشر شعرت الإمارات الكردية التي كانت تتجاوز الخمسين و المتبقية منذ عهد الخلافة العباسية المترامية الاطراف والتي كان للكرد في شخص أبو مسلم الخرساني الدور الاساسي في بنائها، بالخطر المحدق بها وخصوصا مع ذهاب الإمبراطورية العثمانية نحو ما قيل انه التحديث والعصرنة عبر حركات الإصلاح والتوجه صوب الدولة القومية في عهد محمود الثاني 1839م، وعملها على ترتيب جديد لنظام الضريبة والخدمة العسكرية وكان للإمارات الكردية أمام هذا التطور طريقتين لا ثالث لهما إما أن تنهي ذاتها أو ترفض وتقاوم كما حصل مع:
1_مقاومة سلالة بابان زاده والطريقة القادرية عام 1806 في مدينة السليمانية ذات الموقع المميز والمتداخل مع الكرد في غرب إيران، وتفاعلت في هذه المقاومة السمات المحلية مع الخصائص الدينية والقومية والقبلية والأرستقراطية .
2_حركة بدرخان بيك أمير إقليم بوطان في باكور كردستان(جنوب شرق تركيا الحالية) والتي استفادت من المثال المصري وحركة إبراهيم باشا الكردي الأصل المنتفض في وجه العثمانيين. وشرع في توسيع نفوذه عام 1820 وكانت هذه الإمارة بمثابة حركة قومية مبكرة وعصرية ومؤهلة للإرتقاء إلى دولة في حال لم تقمع و حصولها على المساعدة. لكن الإنكليز كانوا منهمكين في خلق كيان سرياني وآخر أرمني في الشمال كمناطق عازلة كما كانت تفعل الروسية القيصرية . في حين الإمبراطورية العثمانية والإيرانية كانا يريدون بسط سيطرتهم المركزية. في حين الكرد مطوقين من الجهات الأربعة بمعتدين مسلحين بأدوات ووسائل عصرية. وكان الأختلاف أيضاً أن المثال المصري وبم الإنساعدة الإنكليز تحول لدولة قومية جديدة، بينما في حالة بدرخان ساندت روسيا والإنكليز السلطة العثمانية مع سلبية الموقف الإيراني. وأنتهت في ربيع عام 1848.
و من وقتها لم تعد المؤسسات الثقافية الكردية المعنوية والمادية المتمتعة بمساحة وبحيز واسع من الادارة الذاتية المجتمعية و شبه الاستقلال قادرة على مواصلة حيويتها وفعاليتها القديمة، ولو بالطراز التقليدي حيث البيروقراطية المركزية تسعى لتوسيع نفوذها وسيطرتها خطوة بخطوة. بينما وضع الكرد و كردستان يضعف ويحجم بإطراد لينتهي في عام 1860 وتبقى كردستان مجرد مفردة. حيث نظام الإمارة الكردية أو الحكم المحلي الذاتي الذي كان تقليد منذ عهد الميتانيين والميديين منذ 1600 ق. م قد أنقضى زمانها. أما الإمارات المتبقية فكانت تحاول البحث عن فرصة للحياة حتى بالتواطؤ والعمالة.
مع العلم كان وضع الكرد كشعب متقدم على الترك والفرس والعرب حتى بدأ الإنهيار والاختلاف في القرن التاسع عشر. فإدراك إنتهاء عهد الإمارة أرغم الوارثين والباقيين على عدم المطالبة بالاعتراف بأي وضع للكرد كشعب وعلى سلوك مقرابات وإتجاهات سلبية وبالتخلي عن وضع الحكم المحلي الذاتي التقليدي وعن اللامركزية كثقافة للمنطقة وبتطوير نموذج يضمن المنافع الشخصية والعائلية على أساس التواطؤ والعمالة. حيث أن الظروف التي كانت في مطلع القرن السادس عشر لم تعد سارية وأصبحت غير متوفرة. حيث حاولوا التمرد وأصروا على الوضع التقليدي وبل تقدموا أكثر وأرادوا دولة قومية لكن طباعهم الطبقية وظروف العصر الحديث وعليه الخيار الوحيد ومن طباعهم التقليدية الطبقية هي التوجه صوب نوع جديد وأخطر من التواطؤ يعتمد على المنافع ونجاحهم الشخصي وعلى مصالح عائلاتهم ويصير الكردياتية سلعة تجارية زهيدة الثمن. وهذا ما استفادت منها الدول القومية الحاكمة فسخرتهم كأخطر أداة بيدها لتسليط نظام قمعي واستغلالي عصري على المجتمع الكردي.
من الأهمية فهم تقاليد الأرستقراطية الكردية وعدم خلطها بالأوربية أو أي مكان حيث أختزلت دورها إلى مرتبة أداتية مسخرة في بسط تحكم الدولة القومية الحاكمة والاستغلال الرأسمالي على الكرد وكردستان وتحول هذه الوضعية في
القرنيين الأخيرين ، لتغدو أداة أولية في القضاء على الكردياتية بأساليب عدة يتصدرها العنف والإرغام، وتلبية أساليب” الإبادة الخاصة الخفية” التي تهدف إلى تخريب كافة المجالات والأنسجة الإجتماعية وبالتدريج وإظهار القوى المجتمعية المدافعة عن وجود الشعب الكردي بغير حقيقتها وإلصاق التهم بها بناءً على رغبة المحتل والدولة القومية الحاكمة كما حصل مع من استقبل نصر الحريري الواجهة السياسية لداعش ومرتزقة تركيا الفاشية.
ولكن لايمكننا الإكتفاء بإلصاق تهمة الخيانة المعيارية بالشريحة الفوقية لدى التطرق لإرثها بل يجب إستيعاب ماهية الهوية والخصائص الشخصية لجميع الطبقات والشرائح الاجتماعية الذين تعرضوا للإبادة الثقافية. حيث تم التعرض لإبادة ثقافية لانظير لها ومنفردة ووحيدة ماتزال قائمة حتى الآن. وبالتالي ثمة حاجة ماسة للتدقيق فيها وتقيم إرتباطها بإرث الشريحة الفوقية وبإمتداداتها الحالية والتي لها مكانتها في ارتكاب الإبادة الثقافية وذلك في إطار الأهمية المصيرية على صعيد حماية الوجود الثقافي الكردي وتحريره.
لقد أسفر إنهيار نظام الإمارة إلى بروز الهرمية الدينية إلى المقدمة، ومع هزيمة بدرخان ظهرت المشيخة ومبادرتها ومحاولة أخذها دور القيادة ضمن المجتمع الكردي. وتعززت مع النصف الثاني من القرن التاسع عشر وحظي شيوخ النقشبندية والقادرية بالأهمية الكبرى.
ومن الصحيح النظر إلى المشيخة وتقاليدها على أنها مؤسسة لها جذور منذ دولة الكهنة السومريين. حيث أن الكهنة أنشاوا الدولة ولكن بعد فترة سيطر عليها العلمانيون ومازال الصراع بين الفريقين حتى اليوم. وظلت هذه الثنائية ومنذ نشوء تراتب السلطة لدى أسلاف الكرد من الكونفدراليات الميدية والهورية والحثية والأورارتية . ولطالما تواجد هذا الصراع عبر التاريخ رغم محاولات بناء تركيب يجمعهما. من خلال مصطلح الآله_الملك. وحتى وجود الثنائيات ضمن الأديان الإبراهيمية. من وجود الرهبنة عند القبيلة الإبراهيمية مروراً بوصف موسى بكونه نبي وهارون رئيس الكهنة و عيس كان حاخام من الدرجة الثانية وبعد مرور ثلاثة قرون أصبح هناك حكام ليسوا برهبان. وتاريخ أوربا خلال الألف السنة الأخيرة حافل بالصراع بين المناوئين للكنيسة والمناوئين للعمانيين. وصولاً للإسلام الذي لم يمضي عليه سوى ثلاث عقود حتى برز صراع قوي بين الرهبان وهم آل البيت والعلمانيين وهم السلالة الأموية. أي بين دولة مدنية واخرى دينية كنتيجة للتاريخ الإسلامي.
أما المجتمع الكردي فتصارعها ثلاث قوى :
1_التقاليد الديمقراطية أي العشائرية والقبلية .
2_التقاليد الدينية.
3_الإمارات العلمانية.
حيث عملت التقاليد الديمقراطية من المجتمعية الأخلاقية و العشائرية والقبلية إلى تحجيم نفوذ القوتين الباقيتين بسبب بنيتها المليئة والمفعمة بالمساواة والحرية.
شهد النصف الثاني من القرن التاسع عشر إحلال الشيوخ محل الأمراء. وقام السلطان محمود الثاني بتوجيه ضرباته إلى الإمارة وملء فراغ الشرعية بطرق جديدة مثل النقشبندية والقادرية. بعد تصفية البكداشية والإنكشارييين. وهكذا حل الشيوخ محل الأمراء المتواطئين. وعملوا على إضعاف مؤسسة الإمارة والقبيلة.
لقد أدت المؤسسات الطرائقية دوراً محدداً في القرنين التاسع عشر والعشرين في تطوير المجتمع المستند إلى مفهوم الجماعة الدينية داخل كردستان. إلا أن تواطؤها وعمالتها مع القصور رفعتها للمناصب والنفود والتأثير وأستخدمتها النظام القائم كقوة شرعية جديدة.مع عدم إطلاع الشعب على الجانب العميل والمتواطئ فيهم.
ولعب مؤسسة المشيخة كأداة لتأمين سيرورة النظام كما لعبتها الأرستقراطية مع الإمارات.
ومثال حركة شيخ عبيد الله النهري والتي حققت تقدما أرتباطا بالحرب الروسية_العثمانية1877_1878 حيث حاولت الإستفادة من التناقضات حينها مع تأثيرها بالحركات داخل الإمبراطورية. وتعاظمت نفوذها ضمن المجتمع الكردي الممتد من داخل إيران وحتى تركيا ليس بدعم رجال الدين فقط بل من الأوساط النافذة وتطرقت في إجتماعاتها للشكاوي من البيروقرطية المركزية إلى المطالب القومية وإدراجها في خطط وبرامج وأهداف عملها، وكان يكفي دعم بسيط أو دعم دولة واحدة لتحولها لدولة رسمية لكن هذا لم يتم، حيث رضوخ الدولتين الإيرانية والتركية للمطالب القوى المهيمنة جعل القوى المهيمنة لاتدعمها بل على العكس. وقد أستنبطت السلطنة دورس من هذه الثورة مع ثورة البدرخانيين حيث أخذتهم السلطنة إلى أسطنبول للتحكم من خلالهم بقسم من الكرد وترويض أبنائهم وفصلهم عن تاريخ أبائهم وأجدادهم وإستعمالهم عند اللزوم.
ومع عرضنا لحالة الشريحة الفوقية التي إنحرفت ودخلت خانة التواطؤ والعمالة مع إنهيار الإمارات الكردية والحكم الذاتي المحلي أو الإدرات المجتمعية التقليدية ورأت مصالحها الشخصية ومنافعها العائلية مع المحتلين والدول القومية الحاكمة لكردستان والممارسة للإبادة بحق الشعب الكردي وثقافته. لايجب أن نتغاضى على أن المجتمع الكردي ورغم معاناته المستمرة من الخارج والداخلة ظل محافظاً على ثقافته وقيمه المجتمعية وأخلاقيته العالية التي مكنته من الصمود والإصرار على الحياة والثقافة الحرة رغم حالة الإبادة الفريدة والحيدة في العالم. وظل الصراع منذ إنتهاء عهد الإمارات وحتى اليوم مستمر بين الطرف المقاوم والمتواطئ كسنة ومسار لحياة الشعب الكردي. ولعل من قاوم في كارى وقبله في حفتانيين، ويقاوم منذ 50 سنة للحفاظ على وجود شعبه ومن حمى شنكال ومجمل إقليم كردستان وقدم مشروع الإدارة الذاتية وأخوات وأخوة الشعوب والعيش المشترك في شمالي سوريا و قاوم ويقاوم ويعمل لتحرير عفرين ورأس العين(سرى كانيه) وتل أبيض(كرى سبي) ومن يقاوم الإبادة في داخل تركيا وإيران ومن يسعى لحل القضية الكردية بالحلول الديمقراطية، لايمكن وضعه في خانة من يستقبل نصر الحريري وخلوصي أكار وأردوغان وجاويش أوغلو ويجاري المحتل التركي الفاسي و يشرعن احتلاله ويدافع عنه وعن جرائمه وإباداته لشعبنا في عفرين وراس العين وتل أبيض و في باكور كردستان ويؤمن له حوالي 40 قاعدة في أراضيه لضرب حركة حرية كردستان.
أسبوعين مضت
4 أسابيع مضت