الحدث – القاهرة – بقلم / محمد أرسلان علي
المثير للانتباه والدراسة في مراحل الفوضى هو أننا لا يمكننا البناء أو التنبؤ ما الذي سيكون شكل الاصطفافات والتوازنات ما بين القوى أو الدول الفاعلة أو الأطراف وفق ذهنية القرن العشرين، التي كنا من خلالها نتوقع الشكل الجديد لتوازنات مبنية على حساب أطماع أو أجندات قوى دولية أو اقليمية معينة. حيث كان القرن العشرين له أساليبه وخطاباته ونسقه الذي كان يتم البناء وفقه خطوط الجبهات المتشكلة وفق حسابات القوى المهيمنة وصاحبة النفوذ الدولي والإقليمي. فقد كان ثمة قطبين رئيسيين في العالم شرقي الذي يمثله حلف وارسو وغربي يمثله الحلف الأطلسي، وما كان بينهما من أحلاف أو مؤسسات لم تكن إلا شكلاً متواجدة لا حول لها ولا قوة. من قبيل، دول عدم الانحياز التي ادعت عدم انحيازها لأي من ذاك القطبين شكلاً ولكن في الجوهر كانت معظم الدول حليفة لهذا أو ذاك القطب.
ورغم ان الحلف الشرقي أصابه الانهيار في بداية تسعينيات القرن المنصرم وتفكك مركزه فيما كان يسمى بالاتحاد السوفيتي، وانهيار كافة المنظومات والأحزاب اليسارية بمختلف مسمياتها التي كانت مرتبطة به، وما تبقى لم يكن سوى عن دُمى ديماغوجية لا أكثر، تقتات من الأفكار اليسارية لإطالة عمرها فقط، لكنها في واقع الأمر لم تكن حتى راهننا سوى يتامى ما تبقى من اليسار الباحثين عن وجودهم في خطابات الإسلام السياسي الذي تبناه الاخوان المسلمين.
منذ تفكك الاتحاد السوفيتي وقوى الهيمنة تسعى لفرض وجودها الأحادي على العالم وكأنها ربحت المعركة ضد ما كانت تسميه بالعدو اللدود المتمثل في الاشتراكية. وهذا ما خلق فراغ كبير جداً لم يكن في الحسبان عند قوى الهيمنة الغربية التي أصل وجودها وكينونتها متوقف على وجود أو خلق العدو الافتراضي الذي من خلاله تستمر في وجودها وصراعها الافتراضي ذاك. من هنا كانت أحداث أيلول وتفجيرات نيويورك التي لم يكشف حقيقتها حتى الآن، والتي ظهر أو خلق أو صنع من بعدها العدو البديل لليسارية أو الاشتراكية والذي أصبحت القاعدة هي الهدف التالي.
وفق العدو الجديد الذي تم تحضيره في مختبرات سراديب الغرف المظلمة تم الإعلان عن تنظيم القاعدة على أنه العدو الذي ينبغي على كل دول العالم اتخاذ مكانها وموضعها وفقه، فإما أن تكون مع قوى الهيمنة وحينها ستكون من الأصدقاء أو لن تكون مع قوى الهيمنة وحينها ستكون في صفوف الأعداء. يعني إما أن تكون معي أو ضدي، وفق مقياس أمريكا أولاً.
ومنذ ذاك الحين ومنطقة الشرق الأوسط لم يهدأ فيها صوت أزيز الرصاص وتفجيرات القنابل وتدمير المدن وحرقها وتهجير الشعوب منها، عبر استخدام أساليب الترغيب والترهيب لقتل الانسان ونحره والقضاء على الروابط المجتمعية الأخلاقية على حساب انتشار التنظيمات الإرهابية والمرتزقة بمختلف مسمياتها الدينية، التي أول ما عملت عليه هو نشر الفتنة المذهبية والطائفية بين مكونات المجتمع والتي لم يسلم منها أحد.
بدأت من أفغانستان وتلاها العراق بشكل منفرد حتى ظهر ما سُمي بالربيع العربي الذي تهاوت فيه الدول كأحجار الدومينو الواحدة تلو الأخرى. وكل ذلك تحت مسمى القضاء على الإرهاب او الأسلحة الكيمياوية أو الأنظمة الرجعية، والبحث عن الديمقراطية وحقوق الانسان بين تلك الأدوات الوظيفية التي خدمت قوى الهيمنة على أكمل وجه. لكن لم تُدرك تلك الأنظمة أنه لا عواطف في السياسة سوى المصالح. وأنه حينما تنتهي صلاحيتهم سوف يتم الاستغناء عنهم بأي شكل كان.
ونحن في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين وبعد عقد من الفوضى المنتشرة بما سمي بالربيع العربي والاصطفافات التي كانت موجودة فيها، نرى أنها لم تكن مستقرة بل تعتريها الاهتزازات والتنقلات المستمرة وفق قانون أو موازين قوى الهيمنة والإماءات التي كانت تصلهم منها. لتبقى الحالة الوظيفية لتركيا منذ بداية فوضى الربيع العربي مستقرة لمدة عقد من الزمن.
الان وبعد التغيرات الحاصلة في المنطقة والانتخابات الامريكية التي قلبت موازين التموضعات نوعاً ما، يتم الحديث كثيراً عن تدوير زوايا الاصطفافات الجديدة والتي وفقها ستتخذ كل دولة أو تيار او طرف مكانه ضمنها. فبعد المصالحة التي تمت ما بين دول المقاطعة التي كانت تضم السعودية والامارات ومصر والبحرين من جهة وقطر وتركيا وايران من جهة أخرى، بعد هذه المصالحة فيما بين الدول الأربعة وقطر، نرى بوادر مصالحات جديدة تتم ما بين السعودية وتركيا وكذلك ايران، وبين مصر وتركيا من جهة أخرى. والامارات وقبرص واليونان، وبين إسرائيل واليونان وقبرص، الامارات واثيوبيا وتركيا والصين، روسيا ومصر. تحركات كثيرة ومثيرة للانتباه بنفس الوقت. فالأخوة الأعداء في الأمس تحولهم المصالح إلى أخوة أشقاء في ليلة وضحاها. وما تزال الاصطفافات الجديدة لم تأخذ شكلها النهائي ومستمرة في مساعيها المعتمدة على التفاهمات ما بين الأطراف الذين يمكن تسميتهم الأخوة الفرقاء.
ربما تكون هذه الاصطفافات مرحلية تقتضيها المصالح وليست المبادئ، ولكن في عالم السياسة المعروف والمتعارف عليه هو أن المصالح أهم من المبادئ في كثير من الأحيان. فلا عجب أن نرى توافقات ما بين بعض الأطراف لم يكن لها أي وزن في أية توازنات سابقة. ولكن رغم كل هذه التقربات ما بين الدول والمصالحات فيما بينهم. تبقى الاتفاقات الابراهيمية التي تمت ما بين الامارات والبجرين والسودان من جهة وإسرائيل من جهة أخرى، هي ربما تكون المخدد للاصطفافات الجديدة القادمة. طبعاً، مع الأخذ بعين الاعتبار ان معظم الدول العربية التي لم تعلن عن اتفاقها مع إسرائيل هي على علاقات غير مباشرة أو من تحت الطاولة معها، إلا ما عدا بعضاً من الدول.
ليبقى الكرد في كردستان المحتلة ليسوا في أجندات وحتى حسابات ومصالح الدول العربية بشكل عام. الكرد الذين أثبتوا تواجدهم وقوتهم وإرادتهم في تصديهم لأعتى الإرهابيين والمرتزقة في العالم، إن كان في العراق من خلال تصدي قوات الكريلا من العمال الكردستاني لداعش اثناء احتلالها شنكال/سنجار أو في شمالي سوريا من خلال تصدي قوات سوريا الديمقراطية وتحريرهم العاصمة الافتراضية لداعش في مدينة الرقة وآخر معاقلهم في الباغوز. الكرد الذين يقامون إرهاب المجموعات المرتبطة بتركيا واردوغان منذ عقد من الزمن ولا زالوا مستمرين في مقاومتهم، أذهلوا العالم بمقاومتهم تلك وفرضوا عليهم أنهم من الشعوب المنظمة ولديهم مشروع ديمقراطي علماني يسعى لبناء مجتمع يعيش فيه الكل مع الكل على أساس أخوة الشعوب الهادف لبناء المجتمع والانسان الحر.
استطاع الكرد من خلال فلسفة السيد أوجلان الهادفة لبناء الأمة الديمقراطية في نشر ثقافة التعايش ما بين كافة شعوب المنطقة بمختلف قومياتهم ومذاهبهم وطوائفهم وفق ذهنية جديدة في المنطقة تعتمد الإدارة والإرادة المشتركة لكافة الشعوب في التصدي والبناء بنفس الوقت. وهذا ما أجبر القوى العالمية الاهتمام بهم عن قرب وتقديم الدعم لهم في تصديهم للإرهاب والإرهابيين ومن يدعمهم وخاصة أردوغان تركيا.
فنرى أمريكيا وروسيا ومعظم الدول الأوروبية تتقرب من الكرد وتتشارك معهم الدعم والمساندة بمختلف أشكالها وأنواعها، وكل ذلك وفق مصالح تلك الدول بطبيعة الحال وليس كرمىً لعيون الكرد فقط، بل مصالحهم تقتضي هذا التقارب والدعم. لكن ليبقى السؤال أين الدول العربية التي هي قريبة من الكرد وأقرب إليهم من حبل الوريد كما يقال، من هذا الدعم والاقتراب من الكرد الذيم تربطهم علاقات تاريخية وثقافية موغلة في التاريخ. ربما تكون ثمة أسباب كثيرة تجعل من العرب يترددون من الاقتراب من الكرد، لكن تبقى نلك الشكوك ليست في مكانها وفق مصالحهم هم. فحينما تكون تركيا في خانة العدو رقم واحد بالنسبة لهم، نرى أنهم يقتربون منها وكأنه لا شيء قد حصل، وأن كل ما كان لم يكن سوى زوبعة في فنجان ومضت. أو ربما تكون العقلية الاستعلائية أو الشوفينية لم تهضم تواجد الكرد كأن يكونوا أصحاب إرادة مستقلة، وأنهم لا يختلفون عن الاتراك بنظرتهم على أن الكرد ينبغي ان يكونوا من الدرجة الثانية والثالثة أو حتى يجب أن يكونوا فقط جنود تحت الطلب لا أكثر. وبكل تأكيد الاتهامات من قبيل أنهم جنود أمريكيا هم أيضاً لا يصدقون كلمتهم هذه ولكنها تهمة جاهزة للهروب من المستحقات الأخلاقية على الأقل. لأن معظم الدول العربية ما هم إلا أدوات بيد الغرب أو روسيا أو الصين أو طرف آخر. أو أن الكرد على علاقة مع إسرائيل، وهي التهمة المُضحكة بنفس الوقت، والكل يعلم أن لا علاقات للكرد مع إسرائيل على الأقل حتى هذه الآن بشكل مباشر.وأين التهمة من ذلك إن كانت علاقات تحكمها المصالح والسياسة كما هم معظم الدول العربية التي على علاقة معها، أم أن هذه العلاقات حلال لهم حرام علينا، كما يقال على الأقل شعبوياً.
مآل القول: لا زالت الفوضى مستمرة ولا أفق لأية حلول في أي دولة تضربها رياح أو غبار مصالح قوى الهيمنة الدولية أو الإقليمية حتى الآن. وكل ما في الأمر أنه ثمة إدارة أزمة نعيشها في الوقت الراهن، وحالة الصراع والتنافس ما بين القوى على الأرض والتي تبحث عن نفوذ لها ستستمر بأشكال مختلفة وتحت مسميات شتى. وهذا ما يلزمه حسابات دقيقة من بعض الأطراف وخاصة التي تسعى لأن يكون لها موطئ قدم لها في القرن الحالي وحتى القادم أيضاً. فلا سبيل آخر للتفكير بغير ذلك أو الاستهانة بما هو قادم. ثمة دول سيكون لها مكانتها وأخرى ستضمحل وتنكمش بعد قوة كما تركيا. فالذي يراهن على تركيا كمن يراهن على الحصان الخاسر في اثبات وجوده في السباقات الطويلة في عملية بناء الشرق الأوسطالديمقراطي.
وربما يكون على الأقل حتى الآن الموقف المصري هو الواضح من حيث تقربه من المتغيرات الحاصلة في المنطقة وموقفه من الكرد بشكل عام وإن كان المطلوب منه أكثر من ذلك. ولكن يبقى بناء جبهة مشتركة مع الكرد هو المحدد الرئيس لأي طرف يكون له شرف بناء هذه الجبهة ويبدأها الآن وليس غداً. ومن يريد أن يكون قوياً عليه أن يكون قبل كل شيء صاحب مشروع فكري قوي يمكنه من خلاله إجراء الثورة الذهنية لمرحلة انتقالية جديدة يكون فيها الانسان هو هدف الحياة ومعناها. وهذه الثورة لن تتم إلا بتجاوز معظم المصطلحات القومجية الشوفينية والدينية المتطرفة والهوياتية المنغلقة الاستعلائية والاقصائية، وبناء مجتمع الهوية الجامعة للكل تحت سقف الجمهورية المدنية الحاضنة لكل الشعوب والمذاهب على أساس الأمة الديمقراطية.
أسبوعين مضت
4 أسابيع مضت