الحدث – القاهرة
تحدث أحمد شيخو خلال مقال عن المعادلة الصفرية السلطوية في الشرق الأوسط، والتي تُشكِل سياق لجريمتي الإنكار والإبادة، ورفض ثقافة التشارك، وتتجسد مادياً في حالات التطهير العرقي والتغيير الديموغرافي والانصهار، موضحاً أهمية نموذج الكونفدرالية الديمقراطية.
من أهم السلوكيات والمرتكزات السلطوية التراكمية منذ أن تبلور الاستغلال والقمع والنهب في بنى وهياكل مادية كالطبقة والدولة والمدنية، منذ عصور مضت، نجد أمامنا وفي واقعنا، الظاهرة الإلغائية والإنكارية والاقصائية تجاه الأخر المختلف قومياً ودينياً وجنسياً، أو ما يمكن تسميتها بظاهرة الإبادة أو بالمعادلة الصفرية التي تم تقويتها وتضخيمها لدرجة سلطوية غير مقبولة، من قبل الرأسمالية والدول القومية، كأهم أداة وظيفية للتحكم بالإنسان وهندسة المجتمعات والشعوب في الشرق الأوسط واصطناع أمم دولتية نمطية متجانسة لزوم وجود الدول القومية واستمرار خدمتها للرأسمالية العالمية أو النظام العالمي المهيمن أو ما يسميه البعض المجتمع الدولي أو الأصح بالمجتمع الدولتي.
تشكل المعادلة الصفرية سياق لجريمتي الإنكار والإبادة، وهي أحد أهم مسارات اللاحل والانغلاق والاستعصاء و رفض وجود الآخر أو قبول التشارك معه أو مبدأ التفاوض، وهي حالة مؤكدة لاستمرار الحروب و المشاكل والقضايا العالقة في المنطقة، ولعل حالات التطهير العرقي والتغيير الديموغرافي وكذلك فرض الانصهار والذوبان القسري الممارس على الأمم والمجتمعات والشعوب المختلفة والمتعددة في الشرق الأوسط هي أحد التجسيدات والتفاعلات العينية للمعادلة الصفرية.
إن منطق وعقلية السلطة القومية والهيمنة الدولتية، هي التي لا تسمع سوى كلامها وصداها فقط، وكل ماعدا ذلك من التعبير عن حقيقة الواقع والوجود غير مقبول ومنبوذ وعليه الرجوع الى الطريق الصحيح والاستسلام لقوة الدولة القومية، فهي لا ترى المجتمعات والشعوب سوى أشياء ليس لهم حق الوجود إلا في إطار وحدة دولتية قسرية مركزية أو أمة قومية حاكمة أحادية، وفق ما يخدم مصلحة السلطات ومصلحة الرأسمالية العالمية، عدا عن التعبير والعيش وفق خصوصية التكوينات الذي يكون من المحرمات والمنكرات لأنه يمكن أن يوحد المجتمعات وفق إرادات مشتركة وتحالفات واتحادات ديمقراطية طوعية، يخاف منها من يجسدون ويطبقون المعادلات الصفرية السلطوية والدولتية، التي لا تعترف و لا تعطي حق الحياة لمن يخالف أو يعترض أو يهز المعتقدات والأيدولوجيات القومية الفاشية في دول المنطقة.
بدون شك إن الرأسمالية العالمية، والدولة القومية مسؤولان عن الحروب والصراعات الدائرة في الشرق الأوسط، أي عن المعادلات الصفرية المطبقة والتي سادت في القرنين الأخيرين والتي كانت السبب في تصفية وإبادة شعوب وثقافات أصلية.
وكما أن معادلة الدولة القومية أو المعادلة الصفرية و التي تعتبر أحد مرتكزات الشرق الأوسط الكبير أو الجديد أو الإبراهيمي، تجعل مجتمعاتنا وشعوبنا ودول المنطقة تعاش في يومنا أفظع النكبات والكوارث والحروب الأهلية، لأن غالبية القوى السياسية النخبوية والثقافية المنحرفة وكذلك ما تم تسميته بحركات التحرر الوطنية في المنطقة كانت متشربة للفكر الإقصائي القومي وميالة ومطبقة للمعادلة الصفرية السلطوية تجاه من يعارضها لحظة امتلاكها القوة والسلطة، حتى تجاه من كان من المشاركين معهم في نضالات التغيير و حروب الاستقلال وطرد المحتلين المباشرين.
ولو رصدنا غالبية الثورات في العالم والمنطقة ومع الأسف، نجد أن الثورة المضادة أو مثلما يقال أن الثورة تأكل أبنائها أو أن المعادلة الصفرية هي التي تكون لها الصدارة والسيادة في مشهد الانتصار المزعوم الذي ينتشي به المقاومون بعد الانتصار العسكري، ولكن الحقيقة أن المقاومة وحدها لا تكفي للانتصار إنما يستوجب الانتصار أن تكون هناك حداثة بديلة أو رؤية جديدة ومنهجية متبلورة لها للحياة وكيفية عيشها، حتى لا يكون المستقبل للمعادلة الصفرية أو الثورة المضادة أو إعادة الدولتية والسلطة تجديد نفسها بالدماء الجديدة التي تم ضخها فيها بالثورة و المحولة للدولة في النهاية مع تطبيق المعادلة الصفرية تجاه مكونات والتكوينات الاجتماعية التي أسهمت وصنعت النجاح والانتصار، ولعل حالة الثورات والتغيرات التي حصلت في في تركيا وإيران والدولة العربية والعديد من دول المنطقة والعالم تؤكد ذلك.
تعتبر الدولة القومية وأجهزتها من أكثر من تجهد لتطبيق المعادلات الصفرية، ولكن وفي الجانب الأخر يخطأ من يعتقد أن الصراع مع الدولة القومية هو صراع حتى أخر رمق، بل أن الوفاق أو التوافق والإيمان بالنجاح والثقة بالنفس والمجتمع والقدرة على إفساح المجال أمام أنسجة المجتمع الديمقراطية والاعتراف المتبادل بين الدولة والمجتمع وفق حقوق متفق عليه ربما دستور أو عقد اجتماعي-دولتي، هو من أصح السبل للمضيء إلى الحياة الحرة والديمقراطية والتشاركية وتجاوز الحالة الإلغائية والصفرية، بالعمل الجاد والصبور لتحقيق التحول الديمقراطي، ويظل معادلة الدولة ـ الديمقراطية من المعادلات الممكنة والقادرة على الوقوف والمواجهة أمام المعادلة الصفرية، لكن هذه تتطلب وعي وفهم وثقة بالمجتمع النظم ومساحة من العمل والنشاط وفق آليات متفقة بين الدولة والمجتمع، علاوة على تمتع المجتمع بحقه في الحماية والدبلوماسية الديمقراطية المجتمعية.
لا يمكن إيجاد حل لأية قضية في الشرق الأوسط، دون تجاوز هوية الدولة القومية المنغلقة والصارمة وتجسيدها وتطبيقها المعادلات الصفرية، وواهم وأحمق من يظن غير ذلك أو أنه عميل وتابع، حيث لم تعاني المنطقة من التقسيم مثلما تعاني مع تطبيق مفهوم القومية والدولة القومية اللتان أوجدتهما بريطانيا وإسرائيل لتقسيم العالم والتحكم به وثم ثار على طريهم أمريكا وإسرائيل، ولأن جيو ثقافية الشرق الأوسط على تضاد وتناقض مع تقسيمات الدولة القومية ومعادلاتها الصفرية التي تجعل حالات الإبادة الجماعية هي في جدول الأعمال كما هي الإبادة الجماعية الفريدة بحق الشعب الكردي منذ مئة سنة، ولذلك ظلت القضية الوطنية الكردية وغالبية القضايا والمشاكل في دول المنطقة بدون حلول و حالة الصراع والحرب هي الراجحة والسائدة بين المجتمعات والشعوب والسلطات القومية.
ولكوننا مجتمعات وشعوب مسلمة بغالبتها، لابد لنا أن نتحدث عن التركيبة الذهنية والمادية والخاصة لحياتنا وخاصة “الإسلام المصطنع-الإسلام السياسي” من قبل قوى الهيمنة العالمية والنظام الرأسمالي العالمي. والذي يشكل أحد جوانب شرعنة المعادلات الصفرية وحالات القتل والإبادة تحت اسم الدين والله ويوم الآخرة، والذي طور كظاهرة حداثوية في القرنين الأخيرين، على أنه تقليد وشريعة، ولكن الأفضل تقيمه ضمن إطار الدولة القومية كونه أُنشِأَ كقوموية وليس كشريعة دينية، فهو نموذج مصغر من الدولة القومية وممهور بطابع الاستشراق، وليس له علاقة بالحياة الإسلامية و هو مرتبط بتوسع قوى الهيمنة في المنطقة والعالم الإسلامي وغيره وله هدف تشتيت المقاومة الثقافية الإسلامية في جعل المنطقة ضعيفة وليس لها تأثير أو أية كيانية مجتمعية تشاركية، كما كانت سابقاً مظلة لكل الاختلافات القومية والمذهبية.
ولابد أن نشير إلى معادلة الذكورية الصفرية تجاه المرأة، واستعبادها تحت أسماء وحجج مختلفة، حيث أن الذكورية السلطوية والمطبقة على المرأة وتجريدها من أدوارها الريادية في ساحات العمل والحياة وجعلها مادة وشيء وأرضية لممارسة الرجل ذكوريته السلطوية منذ القدم وحتى اليوم، كانت البداية والأساس في كل التجاوزات الأخرى على حقوق الإنسان والمجتمعات والشعوب، وعليه، تظل كل حركات وأفكار وتنظيمات التغيير والإصلاح والتوافق والسلام، لامعنى لها إذا لم تأخذ هذه الناحية بعين الاعتبار ولم تقم بتقويم هذا الوضع وتصحيحه.
مهما تم انتقاد المعادلة الصفرية والدولة القومية والذكورية السلطوية بشكل موفق وصحيح، فإنه لا يجدي ولابد من تقديم البديل القادر على الحياة ومواجهة التحديات مثل كونفدرالية الأمم الديمقراطية في الشرق الأوسط والتي اقترحها القائد والمفكر عبدالله أوجلان، هذه الكونفدرالية التي لا تقوم بقوة السلطة والدولة والمعادلات الصفرية وحالات الإبادة، بل بمبادئ التعايش وأخوة الشعوب والمعايير الديمقراطية والأخلاقية، لأن الامم المعتمدة عل السلطة والدولة لا تتوافق مع مصالح كل المجتمعات والشعوب، بل تتوافق مع مصالح فئة ضيقة نخبوية فوقية سلطوية، أم الأمم الديمقراطية هي تعبير عن الذهنية المشتركة والإرادة الحرة لمكوناتها المجتمعية.
وفي إطار بحثنا عن الحل وتجاوز السلوكيات والمعادلات الصفرية والأحادية، لا بد أن نذكر أن الرفض التام أو القبول التام بالدولة القومية أو بمن نناضل ضدهم أو نختلف معهم، لا تخدم أهداف الحرية والديمقراطية والمساواة، حيث تجاوز الدولة القومية أو المعادلة الصفرية مسألة وقت، فكلما فرضت الكونفدراليات الديمقراطية وجودها وتفوقها وكفاءتها في حل القضايا العالقة والظاهرة، سيتم تخطي الدولة القومية ومعدلاتها الصفرية تلقائياً، وهذا لا يعني عدم امتلاك الكونفدراليات المجتمعية الديمقراطية قوات الدفاع الذاتي عن المجتمع علاوة على دبلوماسيتها الخاصة فهي حق لكل المجتمعات والشعوب وهي المساعدة والطريق لأجل التوافق والتفاهم وبدء مسار الحلول الديمقراطية.
ولكن علينا تبيان شيء مهم وهو أن الكونفدرالية الديمقراطية التي نقصدها ليست كونفدرالية السلطات والدول القومية كما هو معروف في علم السياسة الحالي بل أنها الكونفدرالية التي تشكل أهم بدائل المعادلات الصفرية والحياة السلطوية الدولتية والذكورية السلطوية وهي مكون التشاركيات الديمقراطية والاتحادات المجتمعية الطوعية و هي ليست كاتحاد دول، بل أن التشاركيات الديمقراطية هي إدارة الوحدات والاتحادات المجتمعية والمكونات والتكوينات الوطنية الاجتماعية المنضوية بداخلها، وتتحلى مؤسساتها و تشكيلاتها وهياكلها التنظيمية بالتنفيذ الأفضل لمبادئ الديمقراطية والتشارك والأخوة والحياة الحرة المشتركة بين الرجل والمرأة وهي بذلك تشكل نموذج ومثال على الإدارة الذاتية الديمقراطية للمجتمع بعيداً عن الإدارة الدولتية والأجنبية التي تطبق المعادلات الصفرية تجاه كل من يمثل تهديد لمصالحها وهيمنتها ونهبها.
ولعل القضاء على شكل الإنتاج الهادف للربح والمستند إلى المعادلات الصفرية تجاه الإنسان والطبيعة والبيئة، وإعادة المرأة لدورها الريادي في الاقتصاد والسياسية ومجمل قطاعات الحياة، يعني بداية تحرر الانسان والحياة من براثن السلطوية وتجاوز المعادلات الصفرية وظهور المجتمع الديمقراطي والقادر على بناء الحلول الديمقراطية لكل القضايا، وعليه، على كل الحركات السياسية والاجتماعية والثقافية أن تخرج من كونها تتمحور حول هدف السلطة والدولتية القومية والذكورية السلطوية التي تجسد وتطبق المعادلات الصفرية، بل عليهم أن يتحولوا إلى التمركز حول هدف الحرية و الديمقراطية وبناء الإنسان والمجتمع القادر على إدارة وحماية نفسه أمام كل المعادلات الصفرية السلطوية وحالات الإنكار و الإبادة والانصهار والذوبان القسري المجرم.