الحدث – وكالات
لماذا على مجتمعات وشعوب ودول المنطقة عقد تحالفات متينة وعلى اسس صحيحة قائمة على الاحترام والاعتراف المتبادل بينهم؟
ماهي تجربة الشعب الكردي وحركة حريته المجتمعية الديمقراطية مع القوى التركية والعربية والفارسية لعقد التحالفات لطالما يتشاطرون الحياة تحت سقف نفس الدول القومية المفروضة عليهم؟
هل الوعي التاريخي والاجتماعي والثقافي هو المدخل والاساس الصحيح لتطوير صداقاتٍ قيمةٍ وعقد اتفاقاتٍ ذات اعتبارات متنوعة، لإقامة التحالفات بين قوى المجتمعات و الشعوب و الدول؟
هل على القوى والدول التي تتحتم عليها وترغب بالتحالفات الناجحة أن تتخلى عن حداثة نظام الهيمنة العالمية، التي تتحكم بها والقائمة على الذهنية الفاشية الأحادية الطابع، والتي تنكر التاريخ المشترك بقدر إنكارها لوجود القيم الثقافية الأخرى؛ وأن تقبل ببنية المجتمعات والشعوب ذات التعددية الثقافية، وبتاريخها الغني؟
لماذا تحاول بعض القوى والدول طرح مفهوم الحقوق الفردية والثقافية بدل الحلول الديمقراطية والمجتمعية، وهل حرية الفرد ممكنة من دون حرية مجتمعه؟
لماذا تنسج الكثير من علاقات الدول في المنطقة فيما بينهم من جهة وفيما بينهم وبين القوى الدولية من الجهة الأخرى حول الشعب الكردي وحركة حريته ؟
لماذا تعتبر حركة حرية الشعب الكردي أوربا في المستوى التكتيكي والشرق الأوسط والمنطقة على المستوى الاستراتيجي؟
كل تغيير بنيوي ومجتمعي أو ثورةٍ هي تفاعل واتفاق وتحالف. حيث لا وجود لقوى نقيةٍ في الثورات كما هي طبيعية الحياة، بل يغدو العالم قطبين متقابلين. وقد اختزل جوهر تطور المجتمع الكوني في أيديولوجية الثورات والانعطافات الكبيرة. وتسري القاعدة عينها في أيديولوجية الثورة المضادة وتحركاتها أيضاً. إذ تتحرك القوى المضادة بزبدة تجاربها العالمية والعملية.
أما في الواقع السياسي، فالتحالفات عينية أكثر. فمرحلية السياسة وراهنيتها تضفي مزيداً من الوضوح الملموس على التحالفات. وما مكن من وجود أيديولوجية أكبر حركة حرية للشعب الكردي في السبعينات في القسم الأكبر من كردستان في باكور كردستان(جنوب شرق تركيا) وتركيا هي تجربة وجود القطبين على الصعيد الدولي (الأممية بمفهوم الاشتراكية والعولمة بمفهوم الهيمنة) والتي ساعدت في واقع بسط طابعه الأممي بكل سطوع لدى المجتمعات و الشعوب. حتى إن مفردة الأممية بذاتها تحتوي في معناها على التعاون و التعاضد والاتفاق على الصعيد الدولي. وربما كانت العولمة بالتوازي معها على مستويات رسمية أو أنها حتى كانت تشمل تلك الأممية التي كانت في خدمة العولمة بالنهاية نظراً لتشاطرهما الكثير من نفس الأدوات أو بالمجمل نفس نمط الحياة أو حداثة نظام الهيمنة العالمية نفسها.
وقد سعى حركة حرية الشعب الكردي إلى تكوين نفسها سياسياً ضمن تلك الظروف أما تحديد خيارها في مصاف معسكر الاشتراكية حينها في ظل الظروف الوطنية والدولية لذاك الوقت، فكأنه محدد سلفاً منذ انطلاقتها حيث أن الهيمنة العالمية كانت قد قررت وقالت الموت والإبادوة للكرد وليس أي شي أخر عندما قسموا موطن الكرد(كردستان) بعد الحرب العالمية الأولى وأبقوهم بدون حقوق لصالح مصالح الهيمنة العلمية على المنطقة ودولها وإبقائهم كبؤرة توتر للتحكم بالدول الأربعة المقسمة الكرد وكردستان بينهم وعبرها بالمنطقة. لكن المشكلة لا تنبع من المفهوم النظري للاتفاق أو الموت المرسوم من قبلهم من قبل الطرفيين. بل هي معنية بكيفية رسم ملامحه على أرض الواقع وتطبيقها.
تأثر حركة حرية الشعب الكردي بمحيطها:
لقد كانت مساعي حل القضية الكردية في ظروف الاشتراكية داخل تركيا خياراً صائباً. ولا يمكن تفنيد دور الحركة الاشتراكية التركية في تحقق انطلاقة حركة حرية الشعب الكردي في السبعينات والثمانينات. حيث أنه لولا جسارة الحركة الاشتراكية التركية في خوض الحرب، ووجود التقاليد الديمقراطية وحرب الاستقلال المشترك بين الكرد والترك بين 1919 _1922 وتراكم ثقافة المقاومة والثورات الكردية من 1925 حتى 1940 ضد إبادة
الدولة التركية بعد تخليها عن المسار التاريخي التشاركي والحياة المشتركة وذهابها إلى أن تصبح أداة قوموية وظيفية لصالح الهيمنة العالمية، فإن الزعم بتمكن حركة حرية الشعب الكردي من التجرؤ على خوض الحرب الثورية والمقاومة بمفرده يبقى مجرد احتمال. وعليه، فمن دواعي الطبيعة الاجتماعية أنْ يقوم النخب الفكرية والسياسية والرواد الثوريون للشعوب و القوى المجتمعية الديمقراطية التي نسج مصيرهم المشترك تحت سقف نفس الدولة، بالحراك المشترك ضمن إطار التحالف فيما بينهم قبل كل شيء.
إن التعاون والتضامن بين الطبقات والمجموعات الثقافية والسياسية التركية والكردية والعربية ومثيلاتها أمرلا يقبل الجدل نظرياً. في حين كان النقاش الدائر يتعلق بالتباعد أو بالانقطاع الموجود فيما بينها عملياً. فقد أثرت تدخلات وجهود القوى الخارجية و بالتوافق والتواطؤ معها القوى الداخلية من القوموية والتصفوية والخيانية والإسلاموية والجنسوية المندسة داخل البنى الفكرية والمادية و الحركات الثورية والمجتمعية الديمقراطية لدى شعوب المنطقة في ذلك سلباً، لأن مصالحها كانت تتضرر من التضامن واللقاء أو أي تفاعل إيجابي. أما عدم تحملهم تواجد حركة حرية الشعب الكردي، وتجريد ذاتهم منها رغم أنها تنامت في أحشاء الحركة الثورية التركية وفي المنطقة وبين دولها وشعوبها عامة كجزءٍ لا يتجزأ منها؛ فلا شك أنه ممكن فقط في حال كان المرء عميلاً لأيديولوجية الأمة الحاكمة، ومندساً بين صفوف التحركات الجماهيرية والشبابية والثورات باسمها، سواء بشكلٍ مقصودٍ أو عفوي.
إن انحدار الأصل من أمم أو شعوب أومجتمعات أو طبقاتٍ مختلفةٍ ليس عائقاً أمام التحالفات. بل وبالنقيض، فالتحالفات تكتسب أهميةً أكبر حصيلة هذه الاختلافات. فالحد الأدنى من الالتفاف الموحد حول الأهداف الإنسانية و الثورية والاجتماعية يتطلب التفاعل الإيجابي و الاتفاق. وقد يتحقق الاتفاق بين تنظيماتٍ وقوى وتيارات مختلفة أو حتى ضمن التنظيم والتيار نفسه أو بين القوى الشعبية والمجتمعية وبين دول المنطقة. من هنا، فالعجز عن إبرام تحالفاتٍ مبدئيةٍ ومستدامةٍ بين الحركات الديمقراطية والمجتمعية والاشتراكية في تركيا وغيرها من القوى والتنظيمات في دول المنطقة ، هو على صلةٍ كثيفةٍ بمساعي القوى المناهضة للديمقراطية وللحرية وللمجتمعية الأخلاقية. فالأيديولوجيا الشوفينية الاجتماعية تكشف عن ذاتها في هيئة عدم التحول إلى قوةٍ سياسية. أما مواقف العزل والإقصاء المتبعة حيال القضية الكردية وحلها، فهي معنية بتداعيات الثورة المضادة وبسياسات “فرقْ–تسد” وعوامل أخرى.
أدت جميع هذه الحقائق المعاشة أثناء انطلاقة حركة حرية الشعب الكردي وظيفة ورق عباد الشمس؛ حيث كشفت عن الهوية الحقيقية لكافة العناصر المنسلة داخل التنظيمات والنخب الفكرية والنضالات الثورية والمجتمعية. إذ لا يمكن إيضاح أو تبرير قيام المجموعات الشوفينية الاجتماعية بتجميد كافة فعالياتها على وجه التقريب إبان انقلاب 12 أيلول بسياسات القمع والاحتواء فحسب. ذلك أنه ما كان بمستطاع تلك القوى أنْ تكون مبدئيةً أو أنْ تحقق التطور اللازم، إلا إذا كانت طرفاً في حرب الحرية والهوية الكردية، وبالتالي إذا تجرأت على عقد التحالف مع حركة حرية الشعب الكردي. وهذا ينطبق على سوريا والعراق وبل على مجمل القوى التي تنادي بالتغيير في دول المنطقة وتسعى للديمقراطية والحرية، فعليها التجرؤ وعقد التحالفات مع القوى الديمقراطية والمجتمعية الكردية وعليهم رؤية الفاعل الكردي ودوره في التحول الديمقراطي وقدرته وإمكاناته الفكرية والتنظيمية وخلقه لنموذج المرأة الحرة وتجاوزه لأدوات مشروع الهيمنة العالمية من القوموية والإسلاموية وإلا ستنتهي هذه الحركات كما أنتهى الكثير من التنظيمات والحركات في تركيا التي لم تتحالف مع حركة حرية الشعب الكردي، فأي قوى أو حركة في الدول الأربعة التي تتواجد فيهم الكرد، عليها ولحماية نفسها من الإندثار والموت والإنتهاء الأكيد أن تتحالف مع الحركة الكردية الديمقراطية إذا كانت فعلاً تريد أن تحقق الديمقراطية والحرية في بلدانها، وهذا ينطبق على دول المنطقة ومن يريد أن يتواجد في الإقليم أو أن يكون له تأثير وفعالية.
تجربة الشعب الكردي وحركته مع حركة الطريق الثوري التركي( Dev-Yol) :
سعى حركة حرية الشعب الكردي بعد عام 1980 إلى مشاطرة جميع القوى الديمقراطية والاشتراكية والمجتمعية الفرصة ثانيةً لإعادة تنظيم حركة حرية الشعب الكردي وتحقيق انعكافه على المقاومة و الحرب الثورية في الشرق الأوسط. وتم عقد الكثير من اللقاءات والاجتماعات في تركيا وخارجها لهذا الغرض، فأسس “جبهة المقاومة الموحدة ضد الفاشية”. لكن، وعندما أتى الدور على خطو الخطوات العملية، أدارت غالبية تلك القوى وجوهها إلى أوروبا، وانشغلت هناك بالقضاء على المضمون الثوري لحركاتها (هذا ما فعله التصفويون الذين ظهروا لاحقاً داخل صفوف حركة حرية الشعب الكردي أيضاً). ونخص بالذكر العناصر النافذة ضمن حركة الطريق الثوري “ديف يول Dev-Yol”، والتي صرفت جهوداً حثيثةً في تصفية المضمون الثوري لـحركة حرية الشعب الكردي، على غرار ما فعلت بتنظيمها. علماً أن نطاق علاقات Dev-Yol وإمكانياته، وعدد مؤيديه وكوادره، وحجم الدعم الجماهيري له؛ كان أرقى مستوىً من جميع النواحي مما كان عليه حركة حرية الشعب الكردي. ولو أنه تم قبول استراتيجية الحرب
والمقاومة الشعبية الثورية وتفعيل تلك العلاقات والإمكانيات، ولو جرى الحراك حينها بخطواتٍ تكتيكيةٍ مشتركة؛ لكان التحول الديمقراطي والتعايش المشترك و النضال المجتمعي في تركيا سيرتقي إلى أبعادٍ ومستوياتٍ أعلى بكثير.
ونشير بوجهٍ خاص في هذا الصدد إلى التصفوية التي فرضت ذاتها متمثلةً في شخص “تانار أكشم”، زعيم “حركة العمال الثوريين” التي هي شعبة Dev-Yol في أوروبا. حيث أدى هذا التيار التصفوي دوراً كبيراً في تصفية الحركة الديمقراطية والاشتراكية والمجتمعية في تركيا، وعمل على جر العديد من القوى إلى أوروبا، في محاولةٍ لعزل استراتيجية المقاومة و الحرب الشعبية الثورية لدى حركة حرية الشعب الكردي. كما إنه ألحق أضراراً بالعناصر المسؤولة في حركة حرية الشعب الكردي داخل أوروبا،. أما Dev-Yol، فلم يستجمعْ قواه ثانيةً بعد ذلك.
ولو أن تلك المجموعة تموقعت حينذاك في الشرق الأوسط، وأبدت مقاومةً محدودةً للغاية؛ لكانت ستتمتع بمقدرةٍ طبقيةٍ ثوريةٍ تضاهي ما عليه القوة الفاشية لـ حزب الحركة القومية التركيةMHP بأضعافٍ مضاعفة، وستقدر على تمزيق قناع الديمقراطية الاجتماعية الذي يتقمصه كذباً حزب الشعب الجمهوري CHP؛ لتتحول بذلك إلى حزب المعارضة الرئيسي في وجه النظام. وقد ظهر عدد كبير من الأمثلة في هذه الوجهة في عموم أرجاء العالم. زدْ على ذلك أنه لو أن تلك القوة تحالفت حينها مع حركة حرية الشعب الكردي، لأصبحت قوةً رائدة وطليعيةً في حل القضية الوطنية الكردية وفي إنجاز الانفتاحات الديمقراطية عامة. ولحمت نفسها من الإضعاف والإنتهاء.
وبعد أحداث التي حصلت في المنطقة العربية أو ماتم تسميته الربيع العربي أو ربيع الشعوب لو تحالفت القوى الديمقراطية والمجتمعية والثورية مع بعضها ولو تحالفت مثلاً القوى التي كانت تنادي بالحرية في سوريا مع القوى الديمقراطية الكردية في شمالها، لما كانت وضعها بائساً ولما استطاعت تركيا من القضاء على الثورة السورية واحتلال سوريا وتحويل السوريين الذين كانوا ثوراً إلى مرتزقة وإنكشاريين ولما أصبح بعض الديمقراطيين واليساريين والليبراليين السورين لاجئين في أوربا لاحولة ولاقوة لهم ولايشكلون أي تأثير أو وزن. وحتى لو تحالفت بعض الدول العربية مع حركة حرية الشعب الكردي الديمقراطية في تركيا أو سوريا أو إيران أوالعراق لما تمكن تركيا الأردوغانية من احتلال بعض البلدان مثل ليبيا وسوريا والعراق والصومال وقطر و التدخل والتأثير عبر الإخوان في شمالي لبنان واليمن وتونس والمغرب والجزائر والكويت والتدخل في مناطق وشؤون الداخلية للدول العربية المختلفة.
وهكذا، كان لن تتاح الأوساط لعرض انفتاحات AKP الزائفة وتلاعبها بالدين وبمقدسات الشعوب. لكن التيار المتواطئ والتصفوي من السلطويين والقومويين الشوفينين والإسلامويين وبعض الليبراليين وحتى اليساريين أضاعوا هذه الفرصة التاريخية بشكلٍ مقصود. من هنا، ينبغي على القوى السياسية والنخب الفكرية و الأعضاء الثوريين المبدئيين والديمقراطين وقوى الحرية أنْ يبحثوا على أكمل وجهٍ في هذا التاريخ المقتضب. فقد هدر هذا التيار التصفوي بالكثير من الظروف وأعضاء الحركات والتحركات الديمقراطية الأعزاء. أما استمرار هذا التيار حتى الآن في الترويج للدعايات المضادة بشأن حركة حرية الشعب الكردي وتعتيم صورة قيادتها وشيطنتها، فيقتضي التوقف عنده أيضاً.
لم تتصرفْ قيادة “اليسار الثوري Dev-Sol” أيضاً بثبات. حيث لم ترغبْ في التموقع ضمن الشرق الأوسط، ولا في تعميم المقاومة الثورية على جميع أنحاء تركيا عن طريق كردستان. كما أنها امتنعت عن إبداء مقاربات الصداقة وعن الحراك المشترك. ولو أن بعض كوادر Dev-Sol انسحبوا حينها إلى إسطنبول ولم يقض عليهم (نخص بالذكر “بدري ياغان” ومجموعته التي عقدت العلاقة مع حركة حرية الشعب الكردي)، ولو أنهم تحركوا مع قواتها بنحوٍ أخوي مشترك؛ لاستطاعوا ملء الفراغ الذي تركه Dev-Yol على الصعيد الثوري، ولأصبحوا بالتالي أعتى حركةٍ للمعارضة الثورية في تركيا. لكن التذبذب الذي سلكوه في سياسة التحالفات قد ألحق التصفية بهم أيضاً. لا ريب أن الكثير من الشخصيات والمجموعات الباسلة المنحدرة من تقاليد الشعب التركي، والتي تعرف نفسها بأنها يسارية وديمقراطية؛ قد احتلت أماكنها داخل أو إلى جانب نضال حركة حرية الشعب الكردي الأممي على درب الهوية والحرية، وكانت على اتفاقٍ واتحادٍ معه. ويأتي “كمال بير” و”حقي قرار” في مقدمة الكثيرين من الرفيقات والرفاق اليافعين ذوي الأصول التركية، الذين كانوا في الصفوف الأمامية من المقاومة و الحرب كأعز الكوادر في حركة حرية الشعب الكردي، وناضلوا إلى أنْ نالوا مرتبة الشهادة. كما وما يزال هناك الكثيرون من الرفاق من أمثال هؤلاء داخل حركة حرية الشعب الكردي. فضلاً عن أن عدداً جماً من الشخصيات والمجموعات قد لبت متطلبات الصداقة والاتفاق منذ البداية وحتى يومنا. لكن الغالبية الساحقة من القوى اليسارية، إما أنه كتم صوتها تحت ظل الهيمنة الأيديولوجية والعسكرية للفاشية التركية البيضاء، أو أنها صيرت داعمةً لتلك الهيمنة بوعيٍ أو من دونه.
إلا إن هذا الموقف المساند للهيمنة لا يدل في فحواه سوى على أن عناصر المجتمع التركي المعاصر قد نسيت –أو تعاند في عدم إدراك– تلك العلاقة الاستراتيجية ذات الطابع التقليدي. حيث سادت تلك العلاقة منذ إحراز النصر التركي–الكردي المشترك في معركة ملازكرد التي دارت رحاها في سنة 1071 ضد الإمبراطورية البيزنطية (وينبغي أنْ تسود حتى راهننا). إضافةً إلى أن هذه الوقفة تدل على إنكار تلك العناصر بأن أحجار الزاوية الأساسية التاريخية في حياة الاقتدار المشترك وفي الحياة الاجتماعية المشتركة مرصوفة على العلاقات القائمة بين الأناضول وميزوبوتاميا.
بمعنى آخر، فابتداء التاريخ بالإبادة الكردية الحاصلة في عام 1925 من قبل عناصر الحداثة التركية البيضاء، يتأتى من إنشاء تلك العناصر وعياً تاريخياً ومجتمعياً مشحوناً بالزيف والرياء والإنكار. وبنفس المنوال، فلجوء أصحاب أطروحة الإسلام التركي خلال العهدين القديم والحديث إلى إقصاء الكردايتية ومساندة صهرها، إنما ينبع من بارانويا الأمة والأخوة الإسلامية الزائفة المتأثرة بمفهوم الإبادة عينه.
في حين إن الوعي المجتمعي والتاريخي الصحيح يسرد للعيان أنه ثمة شراكة عميقة وعلاقات تنضح بالحرية والمساواة بين ثقافات الأناضول وميزوبوتاميا والمنطقة العربية وإيران بوجهٍ عام، وبين الثقافات الاجتماعية التركية والكردية والعربية والإيرانية بوجهٍ خاص؛ وأن تلك
العلاقات مفعمة بالمعاني الحياتية والاستراتيجية النبيلة والمحطات المشتركة.
التركياتية العصرية الشوفينية:
تتشاطر أيديولوجية التركياتية العصرية وحتى بعض القوموين والسلطوين والإسلامويين العرب والشيعة القومية الفارسية وعياً تاريخياً ومجتمعياً مشتركاً مماثلاً مع جميع العناصر اليمينية واليسارية والمحورية. حيث تؤمن جميعها بنمطية التركياتية والعروبة والفارسية والوعي التاريخي والمجتمعي كرأيٍ مقدسٍ لا يحتمل التغيير. كما أنشأت أيديولوجيةً يطغى عليها الرياء والإنكار، بتحويلها كما فعلها الأتراك المفهوم التقليدي للأمة إلى مفهوم القوموية العلمانية وتركيبة الإسلام التركي الجديدة أو الإسلاموية نسبياً، وبإحلالها إياهما محله. وتشكل التركياتية أمةً نمطيةً وعالميةً منذ البداية ضمن الأيدلوجية التركية العصرية. إنها لم تعرفْ سوى الحرية والاستقلال. وانجرت دوماً وراء الاستفراد بالسيطرة على العالم أجمع، دون الاعتماد على أي تحالف. وطالما حكمته لعهودٍ مديدة. أما بنيتها الاجتماعية، فهي كل كامل لا يتجزأ. فالجيش هو الأمة. وهو المجتمع النقي عرقياً، والذي ينظر إلى المهنة العسكرية كأسمى قيمة. كما أن وضع بعض التيارات القومية والسلطات العربية وكذلك الشيعة القومية الفارسية لاتختلف عن ماتم ذكره عن مثيلاتها الأتراك خصوصاً في سوريا والعراق وغيرهم.
أما في واقع الأمر، فإن هذه الأيديولوجية التي شكلها المنظرون الغرباء –وبالأخص الصهاينة اليهود منهم– تحت اسم “تركيا الفتاة” أو التيارات العربية القوموية كالبعث أو الشيعة القومية الفارسية، لا علاقة لها بثقافة المجتمع التركي أو العربي أو الفارسي، أو أنها لم تتخذْ أساساً فيها من حيث كونها واقعاً تاريخياً واجتماعياً. أي إنها نمط تعبيري ميثولوجي. وبمعنى آخر، فما أنشئ تحت قناع التركياتية والعروبة والشيعية القومية المصطنعة كان ديكتاتوريةً طبقيةً صارمة، أو بالأحرى احتكاراً حداثوياً. فقد خططت وأنشئت كنموذجٍ بدئي مصغرٍ لإسرائيل. وعليه، لعبت دوراً مهيمناً على الثقافات والأثنيات المجتمعية الأخرى المتكونة في الظروف المعاصرة والمتعرضة للإقصاء تحت ظلها. أي أن موضوع الحديث هنا هو تكامل كيانٍ إنكاري ومشوهٍ ومصهورٍ قابعٍ تحت الهيمنة الأيديولوجية والعسكرية على السواء ولاعلاقة لها بالشعوب ومصالحها واحتياجاتها.
بالتالي، وبدلاً من سيادة حقيقة وعي التاريخ والمجتمع، فإن كافة الأفكار اليمينية واليسارية والمحورية والإسلاموية، التي نالت نصيبها من أيديولوجية الإنكار والصهر والإبادة تلك، لا تتلكأ أو تتردد في لعب أو مشاطرة نفس الدور الشوفيني الأحادي النظرة، والمغرور بنفسه، والمقصي للآخرين. والأنكى من كل ذلك، أنه من بالغ العسر البقاء خارج دائرة نفوذه، نظراً لارتقائه إلى مستوى الأيديولوجيا الرسمية، ولفرض تلقينه على الجميع قسراً، بدءاً من دور الحضانة وحتى المستوى الأكاديمي. زدْ على ذلك مدى مشقة عدم تشاطره بعد تصييره شرطاً أولياً للتحول إلى موظف دولة، أو للعثور على فرصة عمل، أو لاستلام قرضٍ مالي؛ وباختصار، للقبول به كعنصرٍ نافعٍ في أروقة الدولة وضمن قطب الطبقة الحاكمة. ويتسبب ذاك الواقع المشاد في بقاء القوى المعارضة للنظام القائم وحيدةً معزولة، وفي عجزها عن إبرام علاقات الصداقة والاتفاقيات اللازمة.
الوعي التاريخي والاجتماعي:
إن الوعي التاريخي والاجتماعي الصحيح هو ما يلزم أولاً لأجل تطوير صداقاتٍ قيمةٍ وعقد اتفاقاتٍ ذات اعتبار؛ ليس بين القوى الديمقراطية والاشتراكية والمجتمعية الكردية والتركية والعربية والإيرانية فحسب، بل وبين القوى الشعبية الاجتماعية وكافة النخب الفكرية والثقافية والفنية قاطبة. ومن دون صياغة تعريفٍ سليمٍ للعلاقات المتبادلة بين الثقافات على مر التاريخ، فمن الصعوبة تطوير علاقاتٍ وتحالفاتٍ عادلةٍ ومتساويةٍ وحرةٍ في راهننا، أو سن عقد اجتماعي أو دستورٍ ديمقراطي كتعبيرٍ ملموسٍ عن تلك العلاقات والتحالفات. وما هو ضروري لأجل ذلك هو أنْ تتخلى الحداثة التي تتحكم في القوى والدوى عن الذهنية الفاشية أحادية الطابع، والتي تنكر التاريخ المشترك بقدر إنكارها لوجود القيم الثقافية الأخرى؛ وأن تقبل ببنية المجتمع ذات التعددية الثقافية، وبتاريخه الغني. أما القوى الاجتماعية التي تتقاطع مصالحها في العيش المشترك بصداقةٍ وود وتآخٍ ضمن نفس الحدود السياسية بأقل تقدير، فإن احترامها المتبادل لوقائعها التاريخية والاجتماعية، واعترافها ببعضها بعضاً على أساس المساواة والحرية؛ سيغدو أرضيةً متينةً للصداقة والتحالفات طويلة الأمد والحصينة، بقدر ما يعد أساساً لاتحاد قواها وممارساتها المرحلية، ويشكل صلب تشييدها يداً بيد صرح نظامٍ دستوري ديمقراطي.
المقاربة التكتيكية لقوى الاشتراكية المشيدة:
حظي حركة حرية الشعب الكردي بوجوده ضمن نظام الاشتراكية المشيدة في بداياتها، واتخذتها أساساً أيديولوجياً وسياسياً في آنٍ معاً. وعرف كيف يتقارب منه باحترامٍ وتقدير، بالرغم من موقفه الذي اتخذه منذ البداية إزاء انحراف التحريفية اليمينية المتسربة إلى بنية النظام الاشتراكي. كما اقترب بود وصداقةٍ وبنحوٍ انتقادي من البلدان الاشتراكية وعلى رأسها الاتحاد السوفييتي وغيرهم. وحافظ على موقفه المبدئي عينه تجاه الحركات الاشتراكية والمجتمعية والديمقراطية في البلدان الأخرى أيضاً. وجهد لإخراج القضية الكردية من كونها مشكلةً مقتصرةً على دائرة الهيمنة العالمية الرأسمالية، ولتحويلها إلى جزءٍ من النظام الاشتراكي العالمي ونظام المنطقة.
ومع خروج حركة حرية الشعب الكردي من الوطن، نشر موقفه الأيديولوجي هذا في الساحة الدولية بعد عام 1980. وعقد علاقاته مع الاتحاد السوفييتي الذي كان ممثل النظام الاشتراكي آنذاك. وطور علاقاتٍ مماثلةً مع الأحزاب الاشتراكية وغيرهم في أوروبا. لكن هذه العلاقات لم ترتق إلى المستوى المأمول، ولم تذهبْ أبعد من تلبية الأهداف التكتيكية والمنفعية؛ بسبب الضلالية والتحريفية التي دمغت النظام بمهرها في عموم العالم. كما ساد العجز عن تخطي المقاربات المصلحية للدولتية القومية في الاشتراكية المشيدة حينها ودول المنطقة.
أي أن النظام الاشتراكي وقتها عمل أساساً بالسياسات المنفعية والانتفاعية للدول القومية الرأسمالية وبحداثتها. وقد تسبب هذا المفهوم، الذي طغى منذ البداية على النظام القائم، بالقضاء على المكاسب الاشتراكية والاجتماعية. كما أعاق أيضاً التطور البديل المتمثل في العلاقات الأممية، فصيرها أداةً لخدمة المصالح المهيمنة وعولمتها وكأنها جزء عضوي منها.
الخاصية الديمقراطية للشعب الكردي وحركة حريته:
مع ذلك، يتميز استخدام حركة حرية الشعب الكردي لتلك الأرضية واستفادته منها (أو بالأحرى تحركه كحزبٍ أممي حقيقي) بعظيم الأهمية. إذ تتجسد ثمار التزامها بالأممية الحقة في: شحنها الحركة الكردية بالمحتوى الديمقراطي والاشتراكي والمجتمعي والتعايش المشترك وأخوة الشعوب وتحرير المرأة، وربطها باستراتيجية الحرب والمقاومة الشعبية المتعددة طويلة الأمد، وجعلها شهيرٍةً على الصعيد العالمي، وتهيئتها للعيش المشترك المفعم بالمساواة والحرية مع الشعوب المجاورة وفي مقدمتها شعوب المنطقة من التركي والعربي إلى الفارسي والشعوب الأخرى، وبل طورتها و زادت عليها بعد انتقادها متخطية الدوغمائية التقليدية، أهم عنصر لتحرير وحرية وديمقراطية الشعوب ودول المنطقة وهو نموذج المرأة الحرة التي أوجدتها وبنتها الحركة الديمقراطية الكردية كأهم منجز في تاريخ ثورات ونضالات البشرية، لأنه لا يستطيع أي مجتمع أو شعب من تحرير نفسه وإنجاز الثورة الاجتماعية إلا بتحرير المرأة وتمكينها متجاوزة المفاهيم الذكورية والليبرالية المخادعة أولاً فطريق الديمقراطية تبدأ من عندها.
أما نجاح حركة حرية الشعب الكردي في الثبات صامداً وقوياً خلال فترة انهيار النظام الاشتراكي وتلاشي وضعف الأحزاب الاشتراكية، فهو دليل على ارتباطها بصلب الاشتراكية العلمية وكافة مجهودات البشرية وقراءتها الصحيحة لمسار التاريخ والسياسة في الشرق الأوسط وإنعطافاتها الكبيرة مع حركات الرسل كحركات تغير وثورات اجتماعية، وقيامها بالنقد البناء حولها وعدم تبنها مثل بعض الأحزاب اليسارية والاشتراكية والإسلام السياسي كقرآن مقدس ومنزل. حيث لم تنزلقْ حركة حرية الشعب الكردي نحو القوموية الضيقة مثلما حصل لحركات التحرر الوطني الأخرى ولم تصبح أداة لقوى الهيمنة الخارجية كالتيارات القوموية والإسلاموية والليبرالية. بل عرفت كيف تتخطى الغموض الأيديولوجي الذي كان يحيط بكل المدارس الفكرية والسياسية والاجتماعية وبها في البداية. وخاضت كفاحاً موفقاً ضد عنصري الدولتية القومية والصناعوية الكائنين في الحداثة الرأسمالية التي كانت حداثة للنظامين الاشتراكي والرأسمالي بأن واحد، التي تركت بصماتها على الاشتراكية العلمية أو المشيدة وعلى التيارات والأحزاب اليسارية ومختلف القوى السياسية والفكرية والاجتماعية.
وبتحقيق تحولها الذاتي، لعبت حركة حرية الشعب الكردي دوراً مهماً في تطوير براديغما العصرانية الديمقراطية كبديلٍ للحداثة الرأسمالية لنظام الهيمنة العالمي، وفي خط الحدود الفاصلة بينه وبين مناهج الحداثة الأخرى. وهكذا احتل حركة حرية الشعب الكردي مكانه بعد عام 1980 كثالث قوةٍ ديناميكيةٍ مهمةٍ في الشرق الأوسط بعد إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية.
تحالفات حركة حرية الشعب الكردي في الشرق الأوسط:
تتسم تحالفات حركة حرية الشعب الكردي في الشرق الأوسط وأوروبا والمناطق الأخرى بالأهمية، باعتبارها قوةً سياسية واجتماعية. إذ يعزى تفضيلها التخندق في أشد مناطق الشرق الأوسط غلياناً بعد عام 1980 إلى خصائصها المجتمعية والثورية والديمقراطية. فتلك المنطقة كانت تتحلى بدورٍ استراتيجي مهم من ناحية عدم انقطاعه عن النضال والمقاومة المتعددة. في حين ظل دور أوروبا منحصراً في المستوى التكتيكي. لقد كانت هذه مقاربةً سليمة تشكل جوهر التحالف مع حركات التحرر الوطني، التي كانت تعد في نفس الوقت ديناميكيةً مهمةً في عصرها.
فتطوير العلاقات التحررية الوطنية على خط سوريا ولبنان وفلسطين كان يعني عقد العلاقة مع أكثر الحقائق السياسية غلياناً وحيويةً واتساعاً في العالم. أما التطورات المنجزة خلال حوالي عقدين من الزمن بالتأسيس على هذه العلاقة، فلم تقتصرْ على التعريف بحركة الهوية والحرية الكردية إقليمياً فحسب، بل وعرفت العالم أيضاً بها، وارتقت بها إلى منزلةٍ استراتيجية. علماً أن هذه العلاقات لا تزال تصون مضمونها حتى اليوم.
هذا وأدت التطورات التي تمخض عنها حركة حرية الشعب الكردي، الذي ناهضته إسرائيل في البداية، إلى توجه هذه الأخيرة نحو اتباع سياساتٍ وديةٍ مع القطب المناوئ لحليفتها الاستراتيجية تركيا. إلا إن العلاقات التركية–السورية–اللبنانية–الفلسطينية الراهنة قد مهدت السبيل أمام نتائج أشد وطأةً مما عليه خطر حركة حرية الشعب الكردي بالنسبة إلى إسرائيل .
وهذا ما يبرهن مدى كون حركة حرية الشعب الكردي قوةً ديناميكيةً مهمة. أي، ومهما كانت جميع تلك القوى في وضعٍ معادٍ لبعضها بعضاً، إلا إن العلاقات فيما بينها توجه في نهاية المطاف من قبل ديناميكية حركة حرية الشعب الكردي. هذا وتسري الدينامية عينها ضمن إطار العلاقات الثنائية (بين تركيا وإيران) والعلاقات الثلاثية (بين تركيا والعراق وأمريكا) و( روسيا وتركيا) و (روسيا وتركيا وإيران) إذ ما كان لهكذا علاقاتٍ أنْ تتطور بهذا المنوال، لولا دينامية حركة حرية الشعب الكردي. بمعنى آخر، فتلك العلاقات تدين بوجودها إلى الحراك الدبلوماسي الذي يعمل على نسجه حول حركة حرية الشعب الكردي. فالمضمون الثوري والديمقراطي والاشتراكي والمجتمعي المتواجد في صلب حركة حرية الشعب الكردي هو الذي يدفع بقوى السلطة تلك إلى هكذا نوعٍ من التقطبات والتكتلات.
وفي سوريا والعراق ورغم أن الكرد والعرب والقوميات الأخرى لهم تاريخ مشترك ومحطات تاريخية وكانوا في خندق واحد ضد الاستعمار العثماني والفرنسي والبريطاني معاً، ولعل وحدة وتحالف كردستان وبلاد الشام ومصر أيام الدولة الأيوبية وعلاقة العباسيين في اول عهدهم مع الكرد ومع أبو مسلم الخرساني الكردي وموقف يوسف العظمة وزير الحربية أهم علاقة ودلالة على التحالف بين العرب والكرد وكما ثورة إبراهيم هنانو في إدلب وجبل الزاوية والمئات من المواقف والمحطات في سوريا والعراق وغيرها من اسهامات الكرد في الثورات العربية وبناء البلدان العربية التي تشكلت بعد الحرب العالمية الأولى، وعلى الرغم من بعض الإنتقادات لها، إلا أن هذه العلاقات والتحالفات التي هي امتداد للعلاقات والتحالفات التاريخية بين جغرافية وثقافة ميزوبوتاميا العليا من جهة وميزوبوتاميا السفلى وحوض النيل والجزيرة العربية من جهة أخرى . لكن التدخلات الخارجية وأدواتهم بقصد الهيمنة ونهب المنطقة وتقسيمها مثل التيارات القوموية الشوفينية وخاصة في سوريا والعراق وعلى رأسهم البعثين الذين يتحملون المسؤولية الكبيرة لإيصال سوريا والعراق إلى الوضع الحالي، حيث لم يكونوا سوى أدواة وبيادق وسيوف مسلطة على رقاب الشعب العربي قبل الكردي والشعوب الأخرة ولم تكن لهم علاقة وصلة وإرتباط بمصالح الشعب العربي قبل الكردي والأخريين، وعليها كانوا يمثلون إفساد وإضعاف وتخريب للعلاقات التاريخية بين الشعبين وشعوب المنطقة وكانوا غير قادرين على حل أي قضية وطنية بل أنهم كانوا ولا زالوا يشكلون منبع المشاكل والقضايا وتغذية الفتن والكراهية وتقوية لداعش وللإرهاب وتقسيم المنطقة والسماح للقوى الخارجية بالتدخل واحتلال الأرض فقط حتى يبقوا في الحكم والسلطة وسد الطريق أمام حلول ديمقراطية للقضايا العالقة وإقامة علاقات وتحالفات صحيحة ومتينة وقائمة على الاحترام والاعتراف المتبادل لصالح الشعبين العربي والكردي وحماية أمن الشعوب والدول العربية وتماسك الجبهة الداخلية وتحقيق التحول الديمقراطي في دول المنطقة.
ومن جهة أخرى وبعض انكشاف وتبيان بعض الحقائق في السنوات الأخيرة وفشل التيارات القوموية العربية كالبعث وغيرهم، هناك نخب فكرية وثقافية وقوى سياسية عربية وحتى بعض الدول تتزايد و باتت تدرك وتفهم وتعلم أنه لابد تعزيز دولة المواطنة أو الدولة الوطنية برأيهم وتوسيع الأفق والتشارك والتخلص من التزمت والإقصاء والأحادية واستوعاب جميع شعوب المنطقة وتضمين حقوقهم في الدساتير الديمقراطية بإدارة أنفسهم ومناطقهم وثرواتهم ضمن سقف الدول الموجودة وأنه لابد من إقامة أفضل العلاقات وقيام التحالفات مع شعوب المنطقة و وخاصة مع الشعب الكردي وحركة حريته وقبولهم كجزء من منظومة القومي العربي ومنظومة أمن المنطقة وخصوصاً في ظل تزايد التحديات الخارجية والإقليمية والمشاريع التوسعية ومشاكل الإرهاب والاحتياجات الأمنية المشتركة في ظل استعمال واستغلال قوى الهيمنة الإقليمية والعالمية لبعض الأدواة المحلية مثل حركات الإخوان والإسلام السياسي بشقيه السني والشيعي. وأمام هذه المشهد تظهر أهمية التحالفات بين مجتمعات وشعوب ودول المنطقة على اسس صحيحة وميتينة مستندة إلى الديمقراطية وقيم التحالفات التاريخية المشتركة والإرث الثقافي للمنطقة وشعوبها متجاوزة كل اشكال الشوفينية بيسارها ويمينها وقوموييها وإسلاموييها ومتجاوزة شكل العلاقة التكتيكية والمصلحية والأنية.
المقاربة الأوربية:
الأمر كذلك بالنسبة لعلاقات تركيا مع أوروبا أيضاً. فما آل بتركيا اليوم إلى شراكة المفاوضات مع الاتحاد الأوروبي وتناقضاتهم، هو المستجدات الحاصلة على خلفية القضية الكردية وحركة حرية الشعب الكردي. إذ كانت مقاربة البلدان الأوروبية –وعلى رأسها ألمانيا– مع حركة حرية الشعب الكردي إيجابيةً في البداية. وذلك بغية احتوائه وصهره في بوتقتها بأساليب القوة الناعمة، على غرار ما فعلته مع Dev-Yol والتنظيمات المثيلة ذات الآفاق والطاقة الثورية. وقد استمر شكل العلاقة هذا مدةً طويلة. إلا إن إصرار حركة الحرية على البقاء ثواراً في الشرق الأوسط قد أسفر عن تغيير تلك البلدان لأساليبها. حيث لجأت حكوماتها الواحدة تلو الأخرى إلى إقصاء حركة حرية الشعب الكردي وإعلانه “إرهابياً”، ثم تلاها إعلان وتطبيق ذلك باسم الاتحاد الأوروبي.
كان الهدف في كلتا السياستين هو عرقلة حل القضية الكردية على المنحى الثوري والديمقراطي والاشتراكي والمجتمعي. ففرضت عوضاً عنه “الحقوق والحريات الفردية” المؤطرة بحقوق الإنسان. وهكذا سلكت موقفاً ازدواجياً، وكأن الحقوق الفردية المنفصلة عن الحقوق الاجتماعية العامة أمر ممكن. لقد كانت ترمي بهذا الأسلوب إلى ربط كلا الطرفين، أي حركة حرية الشعب الكردي والدولة التركية، بذاتها في سياق عقد الصفقات مع هذه الأخيرة. بمعنى آخر، إنها كانت تطمع في بسط العلاقة المهيمنة. ولذلك تجنبت الحلول الديمقراطية الاجتماعية، وتهربت منها. وانطلاقاً من دواعي هذا الأسلوب، فقد كانت تسعى إلى القضاء على حركة حرية الشعب الكردي، ثم إحلال التنظيمات والشخصيات المفرغة من جوهرها الثوري والديمقراطي والاشتراكي والمجتمعي محله بين صفوف الكرد وداخل تركيا على السواء؛ وذلك كعناصر سياسيةٍ تابعة لها. وعليه، فقد هيأتها لأداء بعض الأدوار كقوى فاعلة. وانتظرت ثلاثين سنةً (بمعية شبكة غلاديو التابعة للناتو) كي ينجح برنامج التصفية هذا. وسخرت إمكانياتٍ كبيرةً في خدمة ذلك. إذ، ومثلما الحال في العالم قاطبة، فقد أرادت لتركيا وكردستان أنْ تلعبا دوراً طليعياً في التحديث لمرحلة ما بعد الثورة المضادة. أي إن الإصرار على إعلان حركة حرية الشعب الكردي “إرهابياً”، لم يكن دعماً للدولة التركية، بقدر ما كان من دواعي مصالحها الذاتية.
مخطط تصفية
الكرد وحركة حركة حرية الشعب الكردي هذا، والذي أعده الاتحاد الأوروبي ونفذه بمهارةٍ عليا؛ قد أولي أهميةً تضاهي ما كانت عليه في المخطط القبرصي–التركي التصفوي. ونفذ بسريةٍ تامةٍ وعمقٍ أكبر. كما عقدت، ولا تزال تعقد صفقات مهمة مع الدولة التركية. لذا، فهو بالنسبة للعلاقات الكردية–التركية يعادل في أهميته ما كانت عليه معاهدة سايكس بيكو. ومن ثمار تلك اللقاءات الخفية الماكرة والخبيثة هي محاولات الدولة التركية في البحث عن حلولٍ لا حضور فيها للكرد أو لـحركة حرية الشعب الكردي، بل تقتصر على الإرغامات أحادية الجانب التي تسمى بحقوق الإنسان والديمقراطية. لكن، ونظراً لعدم التمكن من تصفية حركة حرية الشعب الكردي وحركة الحرية الكردية، فإن تلك اللقاءات تحولت إلى لقاءاتٍ روتينيةٍ ورتيبةٍ جوفاء، تماماً مثلما الحال في العلاقات الإسرائيلية–الفلسطينية. وجربت ألاعيب شبيهة بتلك التي مورست إبان الحرب العالمية الأولى بحق الكرد (وبحق الاشتراكيين الأتراك والإسلاميين القومويين). وبعد ضمنت مصالحها، لم تقتصرْ على غض النظر عن الإبادة الجماعية المرتكبة بحق الكرد، بل وقدمت دعمها اللامحدود إلى الفاشية التركية البيضاء تحت اسم الحداثوية العلمانية. وقد مورست نفس تلك الألاعيب على الروم والأرمن والسريان الأشوريين أيضاً، فأدت إلى تصفيتهم والقضاء عليهم.
واليوم وبالرغم من الدور المهم والأساسي الذي لعبه الكرد وحركة حريته في سوريا والعراق في التخلص من داعش والقضاء عليه وعلى دولته المزعومة وقيادة الكرد لأهم تحالف تاريخي بين شعوب المنطقة في منظومة الإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية وعلى رأسهم العرب والكرد في شمال وشرق سوريا، وأيضاً إنقاذ المجتمع الإيزيدي من داعش وحتى حماية هولير وكركوك والسليمانية من داعش وبالتالي حماية أوربا والإنسانية من داعش ، إلا أن المواقف الأوربية مازالت كما السابقة في المقاربات الاستراتيجية وحتى مفاهيم حقوق الإنسان والدمقرطة التي تدعيها كلها تتوقف،عندما يهاجم الدولة التركية وحكومتها الإخوانية والفاشية الشعب الكردي وقوى حريته فليس هناك موقف واضح وعملي حتى الأن من مشاركة الإدارة الذاتية في المسار السياسي الأممي حول سوريا لوجود فيتو تركي ومازالت تركيا تمارس عمليات الإبادة وبل بالأسلحة الكيميائية ضد قوى حرية الشعب الكردي ومازالت تمارس العزلة والتجريد والموت ضد المسجونيين الكرد وعلى راسهم القائد والمفكر أوجلان والعديد من نواب ورؤساء بلديات منتخبين ونشطاء كرد تجاوز عددهم 20 ألف خلال بعض سنوات دون أي موقف من الاتحاد الأوربي أو مؤسساته سوى بعض البيانات الخجولة النادرة لذرى الرماد في العيون لتجاوز تركيا كل القوانيين والأطر ووصولها للحالة الوحشية في قتل الكرد وإبادتهم واحتلال أراضيهم حتى خارج تركيا كما في عفرين وسري كانية(راس العين) وكري سبي(تل أبيض) في سوريا والمناطق القريبة من الحدود العراقية التركية في إقليم كردستان العراق وقصفها وقتلها لكرد الإيرانيين على الحدود العراقية والإيرانية.
الويلات المتحدة الأمريكية:
لقد أدت الولايات المتحدة الأمريكية، كقوةٍ أولى بامتياز في حركة غلاديو، دوراً فعالاً منذ البداية؛ سواء في دعم ومساندة انقلاب 12 أيلول الفاشي وتصفية جميع القوى الديمقراطية والاشتراكية والمجتمعية، أم في القضاء على حركة حرية الشعب الكردي التي هي جزء من تلك الحركات. كما دعمت كل التمشيطات العسكرية الحاصلة بعد عام 1984 بهدف الإبادة. وطبقت العزلة الدبلوماسية والسياسية. وسخرت كل الناتو ونظام الاشتراكية المشيدة ودول المنطقة القومية للقضاء على حركة حرية الشعب الكردي وقائدها ومفكرها السيد عبد الله أوجالان كأوسع عمليات الغلاديو نطاقاً. ودفعت بتركيا إلى الهجوم على سوريا. أما إسرائيل، فكانت بالأصل القوة التي أعدت هذه السياسة وزاولتها بكل براعة.
لقد تصدت سوريا مدةً طويلةً تجاه حركات التصفية المندرجة في هذا الإطار. لكنها لم تتخلف، هي وروسيا، في آخر المطاف عن الوفاق مع النظام السائد والالتحاق به حصيلة بعض الاتفاقيات السرية وفق مصالح الدولة القومية وذهنياتهم القوموية السلطوية. لكن ما ثبت صحته بكل علانيةٍ ضمن سياق التصفية ذاك، هو أن الهيمنة المعينة هنا هي نظام الحداثة الرأسمالية بالزعامة الأمريكية.
واليوم مازالت أمريكا مترددة في أي مقاربة استراتيجية تجاه الشعب الكردي وحقوقه وهي تحافظ على الاستراتيجية السابقة مع بعض الخطوات التكتيكية لمصالحها وتحقيق نوع من التوازنات في بعض القضايا والعلاقات ومحاولة ترويض القوى الكردية للاستفادة من ديناميكيتها وتأثيرها في الدول الأربعة والمنطقة. لكن من دون مقاربة جدية من حقوق الشعب الكردي وموقف واضح من إبادة الدولة التركية ومساعدتها لها في قتلها الشعب الكردي لايمكن أن تستمر حتى المقاربة التكيتيكية المرحلية لها.
النتيجة: بالرغم من كل كل الهجمات والتصفيات الشاملة التي تعرض لها حركة حرية الشعب الكردي داخلياً وخارجياً، إلا إنها عرفت كيف تكيف نفسها مع الشروط، وتحقق التحولات اللازمة بكل إبداعٍ وحرفية وسياسة خلاقة وتحول الصدمات والهجمات عليها وحتى شهادة عناصرها ومؤيديها وشعبها والأوضاع الصعبة إلى إنطلاقات ذهنية وسلوكية ومقاومات جديدة أقوى وأكثر تأثيراً من السابق لها ولشعوب المنطقة ودمقرطة الشرق الأوسط وهذا نتيجة لخصوصياتها وخواصها الذاتية والفكرية وطبيعة الشعب الكردي وجغرافيته واعتماد حركة حريته على مجتمعها وتمثيلها لها ولقيمها ولأهدافها العادلة بكل صدق ولقيادتها التاريخية القائد والمفكر السيد عبدالله أوجلان. وعن طريق بديلها في الأمة الديمقراطية والكونفدرالية الديمقراطية للشرق الأوسط وبالمجمل العصرانية الديمقراطية، تمكن الشعب الكردي و حركة حريته من عرض وقفتهم وموقفهم في وجه الحداثة الرأسمالية للنظام العالمي المهيمن، هذه الوقفة التي نستطيع أن نقول عنها أنها تجسيد لكينونة المنطقة بأكملها وتراكم تراثها الأخلاقي والإنساني والإجتماعي بناءً على إحراز نجاحٍ سياسي واجتماعي أكثر مبدئيةً وثباتاً. كما واظبت حركة حرية الشعب الكردي على أداء دورها كعاملٍ وفاعل أساسي ومتقدمٍ في تحقيق الدمقرطة الثورية والتحول الديمقراطي في الدول الأربعة التي تم تقسيم الكرد بينهم وفي الشرق الأوسط ودولها للوصول إلى شرق أوسط ديمقراطي قادر على اللقاء و الحوار وعقد التحالفات والاتفاقات الصحيحة والمتينة والمبنية على مصالح جميع مجتمعات و شعوب الشرق الأوسط والمنطقة ودولها متجاوزة القوموية والإسلاموية والجنسوية والتبعية ونظم الهيمنة والنهب العالمي.