للتاريخ سحر، يدركه مَن وقع في غوايته روائياً. ويبدو أن الكاتب المصري ناصر عراق، واحد ممن جذبتهم نداهة الماضي، وتحديداً القرن التاسع عشر الميلادي، منطلقاً من الحملة الفرنسية على مصر (1897-1801) وأثرها في تطورات لاحقة، كما في ثلاثيته “دار العشاق”، “الأزبكية”، “اللوكاندة” (الدار المصرية اللبنانية).
اتخذ الكاتب قراره السردي في روايته “اللوكاندة” بالتغريد خارج السرب فلم يجلس في موقع الراوي العليم ولم يمنح أحد شخوصه بطولة السرد المطلقة وإنما وزَّعه على “عليوة أبو زهرة”، و”الدكتور وليام براون”، و”مرجريت براون”، و”بدر الدين أباظة”، فتشاركوا سرداً ذاتياً في بناءٍ روائي متين.
تدور أحداث الرواية في عهد الوالي عباس حلمي الأول (1813-1854)، الشخصية الأكثر غموضاً بين الولاة الذين حكموا مصر من أبناء محمد علي، ولعل هذا الغموض الذي أحاط بشخصية الوالي الحقيقية كان أول أدوات التشويق التي اعتمدها الكاتب منذ اللحظة الأولى وحتى قبل الدخول إلى عوالم النص، ثم تداخلت وقائع التاريخ مع عوالم المؤلف التي خلقها خياله الخصب فتماهى كلاهما في سيمفونية منسجمة، لم يدرك أنغامها نشوذ.
اقتنص الكاتب شخصية الوالي عباس حلمي بسماتها الرجعية والمتشككة، وجاء ببعض ما ذكره التاريخ عنه من إغلاقه المدارس، مناصبته المصريين العداء، محوه كثيراً من إنجازات الوالي الأكبر محمد علي باشا، وارتمائه في أحضان الإنجليز في مواجهة السلطان العثماني والصدر الأعظم. من هذه الوقائع وغيرها وضع ناصر عراق أعمدة روايته ثم مضى في غزل أحداث خيالية، وإن كانت نتاجاً لمعطيات تاريخية تبررها وتوسمها بحتمية التصديق.
تبدأ الأحداث في إحدى قرى بنها (في شمال القاهرة)؛ بالقبض على الفلاح “عليوة أبو زهرة” ليعمل في قصر الوالي متذوقاً للطعام ليكون كبش فداء لعباس باشا، في حال كان الطعام مسموماً. تستمر الأحداث في نسق زمني أفقي متتابع ومتدافع، باستثناء بعض المفارقات السردية التي تخللت النص وظهرت عبر ومضات من “الفلاش باك” والولوج إلى عوالم الذاكرة. حمل الكاتب الأحداث والحبكة الدرامية على متن لغةٍ وازَنت بين الجمالية والتحقق لدى القارئ، واستطاع من خلالها رسم الشخوص والأماكن بوصف بارع بمستوييه؛ الجمالي والتفسيري. “وقفتُ حائراً في بهوٍ مهيب تتكرر صورتي عشرات المرات. كأني أراقب نفسي. أرنو باندهاش إلى الصور المثبتة على الجدران. ثم لاحظتُ صندوقاً زجاجياً ضخماً به شيء يتحرك، فهالني حجم الثعبان الذي يتلوى داخله” صـ15.
ولم يلعب الوصف دور الاستراحة الزمنية في مسار السرد من أجل إبطاء إيقاعه فحسب وإنما كان دائماً وصفاً دالاً، فالكاتب حين يصف قصر الوالي بصوت “عليوة” بمهابة واندهاش فهو يشي بتلك الهوة السحيقة التي تفصل بين الوالي وشعبه وقدر ذلك الضيم والفقر الذي يعيشه المصريون راضين، وعندما يصف انعكاس صورته وتكرارها عشرات المرات يدل على الطبيعة المتوجسة القلقة لصاحب القصر، الوالي الذي يتوجس من كل من حوله ويتوقع الخيانة من الجميع.
بؤرة الصراع
تعددت الفضاءات المكانية للسرد داخل النص فانتقل الحكي من إحدى قرى بنها إلى قصر الوالي في بنها نفسها، ثم إلى القاهرة في منطقة الأزهر وفي “درب قرمز”، واتسعت الفضاءات التي أعطت أولوية المساحة للمهمَّشين بينما تقلصت الفضاءات الموازية الخاصة بالقصر والوالي ليؤكد الكاتب انحيازه إلى الفئة الأضعف والأقل حضوراً في التاريخ، فلا تعدو الإشارات المتفرقة عن الوالي – وإن لعبت دوراً محورياً في تحريك الأحداث- سوى ظلال تاريخية واقعية لا تشتبك مع الأحداث المتواترة عبر السرد إلا من الخارج.
استخدم الكاتب غريزة الارتباط بالمكان في إذكاء الصراع وتحريك الأحداث فارتباط عليوة بقريته كان سبباً لشعوره بالوحشة داخل القصر وأحد دوافعه للتفكير بالهروب منه، بينما كان ارتباط الدكتور وليام وزوجته مرجريت بالقاهرة باعثاً لصراعهما الداخلي وهواجسهما ومخافة الرحيل عنها.
ومثلما خرج الكاتب عن المألوف في بنائه السردي تمرَّد أيضاً على الصورة النمطية لبعض الشخوص، فبينما رسخت الصورة النمطية المتوارثة عن الأجانب في مصر في عهد الدولة العثمانية طبيعتهم المتعجرفة المتعالية صاحبة الامتيازات والنظرة الفوقية للمصريين، خرجت شخصية الطبيب الإنجليزي “وليام براون” عن هذه النمطية، فرسمه الكاتب بسمات رحيمة ومتواضعة، متعاطفاً مع المصريين وقريباً منهم، يدفع عنهم الألم بواقع وظيفته ويجازف ليدفع الموت عن فلاح بسيط بدافع إنسانيته، ولكي يُكسب الكاتب شخصيته مزيداً من الصدقية، وضع المعطيات والمقدمات التي تتيح هذه النتيجة. فالطبيب “براون” بحكم مهنته التي تنتصر للحياة لا بد أن تكون نفسه مفطورة على الخير. كذلك استحضر الكاتب مِن خلفية الشخصية نفسها؛ ما عانته في طفولتها في لندن ليبرر وازعه لرفع الظلم ونصرة المظلومين. أيضاً، فالخلفية التاريخية التي تؤكد نزوح الكثير من الأوروبيين في تلك الفترة إلى مصر فراراً من ويلات حرب القِرم بين روسيا وأوروبا تجعل من المجافي للمنطق تصورهم جميعاً أشراراً متعجرفين، فلا بد أن توجد في هذه الفئة التي ذاب الكثير منها في النسيج المصري نماذج خيرة. وربما أراد الكاتب عبر شخصية الطبيب وليام بروان أن ينتصر للإنسانية التي لا دين ولا جنس لها ولا لون وأن يبث رسالة ضمنية مفادها أن التقدم لن يكون إلا بتزاوج الثقافات واستلهام محاسن الغرب بعيداً من التبعية والخنوع.
إلى جانب الشخصيات غير النمطية طعَّم الكاتب نسيجه بشخصيات نمطية تتسق مع الحقائق التي وثَّقها التاريخ، فالقنصل الإنجليزي “مري”، رجلٌ انتهازي لا همَّ له سوى مصالح بريطانيا والملكة فكتوريا، ولا يرى المصريين بعين الاحترام ولا يتورع عن القيام بأي شيء يحقق مصالحه. كذلك كانت شخصية أدهم بيك مدير قصر الوالي نموذجاً لـ”الأرناؤوطي” الذي يحتقر المصريين ويتعالى عليهم ويسخرهم عبيداً لخدمة الحكام. واستطاع الكاتب أن يستخدم شخوصه ببراعة لإذكاء الصراع بين الخير والشر. وجاءت هذه الشخوص حقيقية إلى حدٍ بعيد، فليس منها ما هو شرٌ خالص، وكذلك لا مجال للملائكية المطلقة، وإنما كانت بشرية بكل تناقضاتها ونوازعها المضيئة والمظلمة.
الحوار والمونولوج
نجح الكاتب معتمداً على تقنية الحوار المسرحي الذي أودعه مناطق متفرقةً من السرد؛ في تعزيز وهم حضور الشخصيات وواقعية الأحداث وأكسب النص مزيداً من الرشاقة الطازجة والحيوية، ثم عمد إلى المونولوج ليكشف عن بواطن الشخوص وانفعالاتها وصراعها الداخلي، وذهب عبر تلك “المونولوجات” بعيداً في أعماق النفس وسبر أغوارها ليعري هواجسها ومخاوفها. كذلك استخدم أحلام الشخصيات ليظهر ما يعترك داخلها من المخاوف والصراع ويمرر عبرها إسقاطاته الضمنية. وهذا ما تجلى في حلم “مرجريت براون” برجال الوالي ومعهم القنصل الإنكليزي يداهمون بيتها فيقبضون على بسيمة وعليوه، إذ أراد الكاتب عبر هذا الحلم إفشاء مخاوف مرجريت وقناعتها بقبح ما يفعل الوالي والإنجليز بمصر ونيلهم من جمالها: “بسيمة”، وقدرتها على التطور: “عليوة”.
وغلَّف الكاتب نسيجه الروائي بمشاعر رومانسية شفيفة مرَّر عبرها فلسفته الخاصة التي ترى الحب في انسجام الطباع، وأبحر في سيكولوجية المرأة، تقلباتها، احتياجها للتدليل والاهتمام وكشف عن نضالها خصوصاً في أوروبا تلك الحقبة للحصول على حقوقها في التعليم والثقافة. وكان حضور المرأة في النص حضوراً فاعلاً، منذ أن منحها الكاتب أحد الأصوات السردية الأربعة، مروراً بما أبرزه من قدرتها على العطاء، عطاء الفكرة والرأي، الرعاية والحب، عطاء الحنان والاحتواء لتتجلى فلسفته مرة أخرى تلك التي لا تدرك في الرجل والمرأة منفصلين إلا جزأين وما من سبيل سوى أن يذوب أحدهما في الآخر إن أرادا الاكتمال، وهكذا يسلك النص مسلكاً إنسانياً موازياً محرضاً على الحب والحياة.