“الجمال جرح” ولادة جديدة لـ “مئة عام من العزلة”
أثرت كتابات غابرييل غارسيا ماركيز وواقعيته السحرية في الكثير من الكتاب من مختلف أصقاع العالم، وليس آخرهم الكاتب الإندونيسي إيكا كورنياوان الذي صاغ في روايته “الجمال جرح” بلدة مشابهة لبلدة ماكوندو التي بناها ماركيز بإحكام في روايته الأشهر “مئة عام من العزلة”. ويعالج كورنياوان من خلال بلدته قضايا متعلقة بتاريخ بلاده وثورته على الاستعمار.
يحكي الروائي الإندونيسي إيكا كورنياوان في رواية “الجمال جرح”، قصة البلدة الخيالية هاليموندا عبر مئة سنة تقريباً من خلال حكايات العائدة من الموت وبناتها الأربع، في إطار من الواقعية السحرية. يجعل كورنياوان من بلدة هاليموندا المتخيلة التي يهندسها على غرار ماكوندو المتخيلة عند ماركيز في مئة عام من العزلة، ميداناً روائياً يعرض فيه تاريخ إندونيسيا المعاصر، وما تعرضت له من حوادث مفصلية طيلة القرن العشرين.
ينسج كورنياوان في روايته، الصادرة بترجمة أحمد شافعي عن دار الخان القاهرة، للبلدة تاريخاً نضالياً، قد يتقاطع مع تاريخ عدد من المدن الإندونيسية في محطات منه، فالمدينة تقع تحت سطوة الاحتلال الهولندي الذي ارتكب في حق أبنائها الفظائع، وحين قامت الحرب العالمية الثانية، وقعت تحت الاحتلال الياباني، ثم ثار أبناؤها وخاضوا حرب عصابات لتحرير بلدهم من المستعمرين، وأعلنت بعدها الجمهورية، ثم تعرض الشيوعيون فيها لمجزرة دموية.
شهرزاد إندونيسية
تنهض ديوي آيو من قبرها، وكان المنظر مرعبا لراعٍ صغير أصيب بالهلع. وبدأ كل شيء بجلبة صادرة عن قبر قديم لا يحمل شاهده كتابة ويكسوه العشب حتى ارتفاع الركبة، لكن الجميع كانوا يعلمون أنه قبر ديوي آيو التي توفيت عن اثنتين وخمسين سنة، ثم قامت بعد موتها بإحدى وعشرين سنة، فلم يعد أحد يعرف منذ تلك اللحظة كيف يحسب عمرها.
من اللافت أنه على مدار أيام انشغلت ديوي بزيارات الأصدقاء القدامى الذين جاؤوا يريدون أن يسمعوا حكاياتها عن عالم الأموات فأمكنها أن تتجاهل وجود مسخ مزعج في بيتها، وحتى الشيخ الذي لم يقبل منذ سنين الإشراف على دفنها إلا على مضض جاء لزيارتها بتقوى مريد يزور قديسة، وقال لها في إخلاص إن قيامها أشبه بمعجزة ومن المؤكد أن هذا لا يحدث إلا لمن طهر قلبه.
وبعد أن كف الناس عن الزيارة بدأت ديوي تلحظ غرائب جمال، بعيدا عن اعتيادها الجلوس في الشرفة منتظرة أميرها الوسيم مستطلعة قدرها في النجوم، سمعت في منتصف الليل صوت شجار صادر من غرفة نوم جمال، حيث كانت هناك جلبة كبيرة وكأنها جلبة ماخور، وزاد الأمر تعقيدا عند اكتشاف السر من وراء ذلك.
يورد العديد من الحكايات الثانوية التي تكمل حكاية ديوي وتسد الثغرات التاريخية، من خلال الدخول إلى منعطفات تاريخية مهمة، ساهمت بقسطها في بناء المجتمع الإندونيسي ولعبت دورا في بلورة تصورات الناس ومواقفهم وأفكارهم حيال مسائل بعينها، من ذلك مثلا حكاية ما – إيانج وما – جيديك، وكيف أن الفتاة التي كانت مأسورة في بيت المحتل الهولندي انتظرت ستة عشر عاما لتكون مع حبيبها الذي وفى بوعده لها وانتظرها طيلة تلك المدة.
الاستعمار خلف جراحاً عميقة
يلجأ الكاتب إلى التخييل السحري، حين دعا جيديك، الذي تزوج ديوي وكانت بينهما حكاية تراجيدية، حبيبته للنزول عن التل الصخري، بعد أن عاشرها هنا على مرأى من الناس، ليذهبا معا إلى البيت ويتزوجا ثم يعيشا معا إلى الأبد، فتقول ما – إيانج إن ذلك مستحيل، وإنه قبل أن تطأ الوادي بقدميها سيضعها الهولنديون في القفص، لذلك قالت إنها تفضل أن تطير، وبررت ذلك بالقول إن مَن يؤمن بأنه قادر على الطيران يقدر على الطيران. وفعلت ذلك وغاب من بعد ذلك كل أثر لها. يعود الروائي إلى التاريخ، يحكي أنه بعد أن دك اليابانيون بعض المدن بقنابلهم، واصلوا الزحف باتجاه هدفهم في تانجونج بريوك، وكان بعض كبار مسؤولي الحكومة الاستعمارية من أوائل الراحلين.. ونزل مشاة يابانيون إلى كراجان بعد معركة باتان في الفلبين، تحرك نصفهم إلى مالانج والنصف الآخر وصل إلى هاليموندا، وأطلقوا على أنفسهم اسم لواء ساكاجوتشي.
يصف ما أقدمت عليه القوات اليابانية المحتلة من أفعال، حين كانت الطائرات اليابانية قد بدأت تحلق فعلا في السماء مسقطة القنابل على مصافي ميكسولي أولفادو النفطية التابعة لشركة النفط، وعلى سكن العمال، وعلى مكاتب مزارع الكاكاو وجوز الهند.
يصف الروائي انتهاء زمن الاستعمار الهولندي وبداية الاستعمار الياباني، وكيف كان لواء ساكاجوتشي يتقاتل مع الجيش الهولندي الملكي في جزر الهند الشرقية، والمتمترس بقوة خارج المدينة، حينما تلقى الجنرال خبرا باستسلام هولندا، وتهاوت على إثر لك جزر الهند الشرقية جميعا واحتلت، وسلم اللواء ميجيير هاليموندا لليابان في قاعة المدينة.
يورد تفاصيل عن وحشية المستعمر في التعامل مع أبناء البلد، وكيف قام بابتزاز النساء، واستغلالهن، وإجبارهن على العمل في ماخور، ونزع إنسانيتهن عنهن، وتلويث أجسادهن وأرواحهن كذلك، وإرغامهن على تلبية الرغبات المرضية للجنود المحتلين. يحكي كيف أن كل محتل يفرض تصوره وشخصيته على المكان الذي يقوم باحتلاله، وأنه حين رحل الجنود الهولنديون وجاء الجنود اليابانيون إلى هاليموندا، وبقي وسط ذلك التغيير ماخور ماما كالونج على حاله، يعمل على تلبية حاجات الجنود المحرومين بطريقة منفرة.
يستعين كورنياوان بجرأة المواجهة والتعرية، وأحيانا جلد الذات، على طريقة الإندونيسي الساخط على ممارسات المحتلين تجاه تاريخه وبلده، وذلك في إطار صياغته لعمله الروائي، وتقديمه تصوره المختلف للتاريخ، بأسلوب يمزج الأسى بالهزل، ليبلور روايته ويثير التساؤلات عن راهن البلد الذي مرّ بكل تلك المفارقات الحادة في العقود الماضية التي لعبت دورا كبيرا، ولا تزال، في توجيه دفة الأحداث، ورؤية الإندونيسي المعاصر لنفسه وبلده وتاريخ ومستقبله، معتبرا من الماضي، ومتألما له في الوقت نفسه.
يشار إلى أن إيكا كورنياوان ولد بجزيرة جاوا عام 1975، ودرس الفلسفة، ويكتب الرواية والقصة والمقال والسيناريو السينمائي. ترجمت أعماله إلى أكثر من 27 لغة، وكان أول كاتب إندونيسي يصل إلى القائمة الطويلة لجائزة مان بوكر عام 2016 بروايته “الرجل النمر”.