د. أحمد يوسف
يعد فشل السياسات الاقتصادية الكلية للدول عاملاً أساسياً في تراجع قيمة العملة المحلية والارتفاع المفرط للتضخم الذي يؤدي إلى فقدان الثقة بها في أداء وظائفها الأربع مقابل تزايد الاهتمام بالعملات الخارجية ذات الاستخدام الدولي للقيام بتلك الوظائف في الأسواق المحلية للدول الفاشلة في سياساتها الاقتصادية، إضافةً إلى وظائفها الاعتيادية كأداة للتبادل الدولي. وغالباً ما تكون عملية الفشل في السياسات الاقتصادية الكلية بانعكاساتها السلبية هي الصفة السائدة للدول المتخلفة ودول الاقتصادات الناشئة، وتدفع تلك الصفة المشتركة إلى تحفيز الوحدات الاقتصادية للبحث عن بدائل من العملات الأجنبية القادرة على أداء مهمة تحقيق الاستقرار في الأسواق المحلية بشكل أكثر كفاءة وفاعلية.
الاستخدام الدولي للدولار
استخدم الدولار الأمريكي خلال النصف الثاني من القرن الماضي بصفته العملة العالمية، وتغلب على المنافسة التي واجهته من طرف عدد من العملات، وبقيت السيطرة للدولار إلى أن ظهرت العملة الأوروبية الموحدة (اليورو) في نهاية العقد الأخير، ودخلت حيز الاستخدام مع بداية القرن الحالي، الأمر الذي أدى إلى تعزيز مكانة الدول الأوروبية على النطاق الاقتصادي الدولي، إذ أصبحت تمثل الكتلة التجارية الأولى عالمياً والثانية من ناحية مساهمتها في تكوين الناتج المحلي الإجمالي العالمي، كما أصبحت تمثل ثاني أكبر سوق مالية في العالم بعد الولايات المتحدة الأمريكية. إلا أن القدرات التنافسية لدول اليورو قد تراجعت بعد استيقاظ التنين الصيني من سباته.
لقد استند الدولار في هيمنته، على نتائج مؤتمر بريتون وودز في عام 1944م التي جعله العملة العالمية المرتبطة بالذهب، بعد فقدان العملات الأخرى لهذه القدرة بعد خروج الدول الأوروبية من الحرب العالمية الثانية، فاقدةً لمعظم إمكانياتها الاقتصادية، الأمر الذي منحه السيطرة على وظيفتي التبادل والحساب، وعلى نقل المعلومات المتعلقة بالأسعار النسبية. بالإضافة إلى هذا، فقد بقيت هيمنته نتيجة للتكلفة التي تترتب على حالات التحول إلى عملة أخرى. كما أن سيطرته ارتكزت بشكل كبير على ما تتمتع به الولايات المتحدة الأمريكية من أسواق مالية كبيرة ومتطورة.
متى تُستخدم العملة دولياً؟
يأتي استخدام العملات دولياً من قدرتها على القيام بأداء وظيفتها كوسيط للتبادل وكوحدة للحساب وكمستودع للقيمة في الأسواق الدولية. بشكل عام هناك عوامل تستوجب استخدام العملة دولياً، يمكن إيجازها في توافر الثقة في قيمة العملة، حيث يجب أن تتوافر الثقة في أداء التضخم في البلد المصدر للعملة. ويجب أن تكون لها قيمة مستقرة حتى تكون وحدة للحساب ووحدة للتبادل، وفي هذا الإطار فقد تميز التضخم في الولايات المتحدة بتدني مستوياته مقارنة مع الدول الصناعية الكبرى، بعد تطبيق سياسات تعويم العملات في الدول الصناعية الكبرى والولايات المتحدة في بداية السبعينيات من القرن الماضي. ولا يمكن إهمال دور عامل الثقة في الاستقرار السياسي لحكومات البلد المصدر للعملة وتوافر مجموعة كبيرة من الأدوات المالية في البلد المصدر للعملة، وذلك في أسواق مالية متحررة وواسعة.
الخيار الأخير
هنا يبرز أهمية الدولرة في الاقتصاد لتحقيق الاستقرار النسبي على صعيد الاقتصاد الكلي، وهو يعني حسب Andrew Berg)& Eduardo Borensztein) “الاستخدام التلقائي في بلد ما للدولار الأمريكي إلى جانب عملته المحلية في معاملاته المالية”، ونظريا يمكن أن يكون تحولاً جزئياً أو كلياً نحو استخدام الدولار الأمريكي في التعاملات المحلية بصورةٍ قانونية أو غير قانونية، حيث تقوم الدولة في الحالة الأولى باعتماد الدولرة في الاقتصاد لإخفاء آثار التضخم السلبية على السوق وتحقيق الاستقرار في التعاملات المحلية، بينما يقوم أصحاب المصالح من الأفراد والشركات والمؤسسات المختلفة في الحالة الثانية باستخدام الدولار أو اعتباره معياراً للتعاملات المحلية والخارجية لتفادي الخسارات المتوقع حدوثها من خلال مخاطر الاحتفاظ بالعملة المحلية نتيجة فقدانها لقيمها مقابل العملات الصعبة.
تجدر الإشارة إلى أن هذه الظاهرة قد نالت اهتماماً واسعاً في الأوساط الاقتصادية في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي نتيجة الإخفاقات المالية والنقدية في العديد من الدول، ووقوعها في مشكلات معقدة مع المؤسسات المالية الدولية، وتحولت مع بدايات القرن الحالي إلى ظاهرة شبه طبيعية في الكثير من الدول المتخلفة ودول الاقتصادات الناشئة، وذلك بعد فشل السياسات الاقتصادية لتلك الدول لتحقيق التوازن الاقتصادي، وتحول تلك الدول إلى استخدام سياسات الدولرة كخيار أخير لتحقيق استقرار التداولات في الأسواق المحلية وتفادي الخسارات الناجمة عن استعمال عملاتها غير المستقرة.
فوائد لا يمكن إهمالها
إذا كانت الدولرة هي الخيار الأخير لمعالجة المشكلات الاقتصادية الناجمة عن انهيار العملة المحلية، فإن ذلك يوحي بأنه يترتب عليها انعكاسات سلبية، شبيهة باستخدام بعض الأدوية لدى الأطباء في الحالات المرضية الميؤس منها، إلا أن الوقائع الاقتصادية تؤكد على أن سلبية اللجوء إلى استخدام الدولار في التعاملات المحلية في الاقتصاد لا يكمن في الدولار ذاته، وإنما تكمن في عجز السلطات المحلية عن المعالجة الاقتصادية السليمة لاستعادة التوازن على مستوى الاقتصاد الكلي وتحقيق الاستقرار فيه، لذلك تشبه عملية الدولرة استخدام الأدوية المسكنة للآلام دون معالجة المرض.
وتؤكد الدراسات الاقتصادية على أهمية الدولرة في تشجيع عمليات الاستثمار انطلاقاً من الثقة التي يتميز بها الدولار عالمياً، ووضع حد لكل المخاطر المترتبة عن عملية تخفيض قيمة العملة والتي تتمثل أساساً في سداد الديون، والحد من التهافت على سحب الودائع من البنوك، وتساعد في تحقيق أهداف الدولة في النمو والتنمية الاقتصادية.
تكاليفها أيضاً مؤكدة
مهما تعاظمت فوائد الدولرة وأهميتها في الاقتصادات التي تعاني من الأزمات الناجمة عن التضخم، فإنها في نهاية الأمر تعني التوقف الكلي أو الجزئي عن العملة المحلية التي تكسب قوتها من قوة الاقتصاد، لذلك يترتب عليها تكاليف اقتصادية، يتوقف حجمها على درجة الدولرة في الاقتصاد، حيث يفقد البلد المعتمد على دولرة تعاملاته كثيراً من الفوائد التي يكسبها عند استخدام العملة المحلية، خاصة إذا كان ذلك الاقتصاد مصنفاً في قائمة الاقتصادات الأقل تطوراً. كما يمكن أن تزداد مخاطر التوقف عن سداد الديون مع تخفيض قيمة العملة، نتيجة لارتفاع خدمات الديون المقومة بالدولار.
عموماً، يمكن ملاحظة أن سلبيات استخدام الدولار تكون محدودة، ولا ترتقي إلى مستويات تشكيلها للمخاطر على الاقتصادات التي تطبقها، سواء بصورةٍ كلية أو جزئية، وسواء أكانت بصورة قانونية أو غير قانونية.
الدولرة المخفية
ظهرت هذه الحالة الفريدة اقتصادياً في الاقتصاد السوري بعد دخول سوريا في أزمتها الكارثية بعد عام 2011م، حيث ارتفع الطلب على الدولار الأمريكي مقابل الانخفاض التدريجي والمتسارع لقيمة الليرة السورية التي وصلت إلى مستويات تكاد أن تسمى بالتضخم الجامح بعد تسع سنوات من الأزمة. الأمر الذي أدى إلى الفقدان التدريجي للعملة الصعبة في الأسواق السورية. لقد تعاملت السلطات السورية مع الحالة الموصوفة عبر تطبيق سياسات متشددة، تجبر من خلالها المواطنين على التعامل بالليرة السورية في جميع معاملاتهم المحلية على الرغم من إدراكهم لتحولها التدريجي نحو قيمتها الحقيقية المتمثلة في تكاليف طباعتها.
تحقق السلطات النقدية من تطبيق هذه السياسة الاحتفاظ بأكبر كميات، ممكنة السحب من الأسواق، من الدولار الأمريكي في خزائنها مقابل فرض استخدام عملة غير مستقرة وفاقدة لقوتها كمستودع للقيمة في الأسواق المحلية. ولقد أجبر هذا السلوك الذي مارسته الحكومة أصحاب المصالح من الشركات والأفراد على اللجوء إلى استخدام الدولرة غير القانونية والمخفية عن أنظار السلطات في إطار سعيهم إلى المحافظة على القيمة الحقيقية لممتلكاتهم عبر تقييمها بالدولار الأمريكي.
إذا كانت الدراسات الاقتصادية تؤكد على غياب الخطورة في عملية اللجوء إلى الدولرة، وإذا كانت السلطات الاقتصادية السورية غير قادرة على إيقاف الانهيار الاقتصادي في البلد نتيجة العوامل الناجمة عن الحالة الكارثية للبلد، فلا يمكن تفسير ممارسات هذه السلطات لمنع استخدام الدولار في أسواقها إلا من زاوية تحولها إلى مضارب في الأسواق، وبالتالي التحول من الدولة الراعية للمواطنين إلى الدولة المضاربة في الأسواق المحلية، وهي سابقة اقتصادية لن تتكرر إلا في ظروف استثنائية جداً.
– نورث برس
أسبوعين مضت