لقد ظهرت الدولة القومية كأحد إفرازات الرأسمالية منذ انتشارها في القرن السابع عشر وخاصة بعد انتشار أفكار ومبادئ الثورة الفرنسية، حيث سعت البرجوازيات الوطنية التي أفرزتها الرأسمالية إلى الإستفراد بأسواقها الوطنية بدلاً من تركها فريسة للرأسمالية، وانتشرت أفكار التحرر الوطني ومبادئها على الصعيد العالميفي مواجهة الإمبراطوريات الإستعمارية التي حكمت العالم.
الدولة القومية في الفرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين باتت فلسفة وإيديولوجية العصر ووسيلة بيد قوى الهيمنة لتفتيت الإمبراطوريات المنافسة وخاصة العثمانية التي أصبحت الرجل المريض، بعض القوى ضمن الدولة العثمانية أدركت ما يدور حولها فحاولت تحويل الدولة العثمانية إلى دولة قومية تركية ولكن واقع الحال على الأرض لم يكن مناسباً، فانتشار تلك الأفكار أدى إلى تحرر دول البلقان من الإستعمار العثماني، ثم الدول العربية، مثلما نشطت التيارات التحررية فيما تبقى من الدولة العثمانية كالأرمن والكرد والسريان والروم ولم يبق أمام التيار القوموي (الإتحاد والترقي) الذي يسعى إلى تأسيس الدولة القومية التركية سوى اللجوء إلى الخديعة والمكائد العثمانية المعروفة عبر التاريخ العثماني حيث تحالف مع ألمانيا في مواجهة روسيا القيصرية والإنكليز والفرنسيين ورفع شعار حماية الخلافة الإسلامية لإستجماع قوى المسلمين حوله لإرتكاب أكبر الإبادات العرقية في تاريخها بمساعدة ودعم الألمان بحق الأرمن والسريان والبونتوس والروم في غرب الأناضول. وعندما وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها وجاء دور توقيع المعاهدات الدولية رضخت الدولة العثمانية لمعاهدة سيفر التي اعترفت بحق الشعوب في تقرير مصيرها، ولكن بعد فترة قصيرة استطاعت الدولة التركية الحديثة زفياداتها من الأتراك البيض التوقيع على معاهدة لوزان كجمهورية تركية وتتنازل عن الخلافة.
الجمهورية التركية التي تم الإعلان عنها والإعتراف بها، باتت دولة قومية من دون وجود قومية تركية تشكل أغلبية الشعب، ولا تتوفر فيها مقومات الأمة التركية من حيث التجانس والثقافة والتطلعات والعادات والتقاليد المشتركة. فهي كانت خليطاً من بقايا الشعوب التي تعرضت للإبادة على يد العثمانيين (زوائد السيوف حسب المصطلح التركي)، بالإضافة إلى بعض الذين اعتنقوا الإسلام خلال الحكم العثماني واستفادوا من الدولة العثمانية وأصبحوا شركاءها من دول البلقان أمثال مصطفى كمال أتاتورك. ولم يبق أمام الإتحاد والترقي سوى صهر هذه البقايا في بوتقة واحدة تسمى القومية التركية والشعب التركي. فكانت ثورة اللغة حيث تم خلق الأبجدية اللاتينية والتحول إليها،وثورة الهندام ليرتدي الشعب الهندام الغربي المتحضر كالبنطال والقبعة، وثورة الثقافة ليعاد كتابة التاريخ التركي من جديد حسب الأساطير التركية. وعندما جاء دور صهر الكرد واجهت الدولة التركية صعوبات كبيرة فاضطرت إلى العودة إلى الإبادات العرقية من جديد ولا زالت تمارسها إلى يومنا هذا.
الدول القومية التي تشكلت من إنهيار الدولة العثمانية خارج تركيا كانت مقوماتها متوفرة إلى درجة ما، مثل اللغة والثقافة المشتركة والتاريخ المشترك والجغرافيا المشتركة والتطلعات المشتركة والسوق المشترك وما إلى ذلك. بينما الدولة القومية التركية افتقرت إلى كل تلك العوامل. فالدولة العثمانية كانت تستخدم الفارسية في خطاباتها الرسمية ولغة الدولة العثمانية كانت خليطاً من العربية والفارسية والكردية ولغات الشعوب الأخرى، وحتى الإنتماء العرقي كان يدل أن العرق التركي معدوم تماماً، سوى أولئك الذين انتموا إلى الحكم العثماني وأضاعوا إنتماءهم الحقيقي، وهكذا ظهر ما يسمى بـ”التركي الأبيض”، وهؤلاء هم الذين أصبحوا أتراكاً بالتبعية وأغلبهم من اليتامى الذين تعرض آباؤهم للقتل على أيدي الجيش الإنكشاري والحقتهم الدولة العثمانية بالمدارس العسكرية منذ الطفولة،ومنهم أتاتورك وأنور باشا وجمال باشا السفاح وآلبآصلان توركيش وجميع القادة العسكريين والسياسيين الذين قادوا الإبادات العرقية بحق الشعوب، وهؤلاء كانوا يتصدرون تيار “الإتحاد والترقي” مؤسس دولة الجمهورية التركية ولا زالوا يتحكمون بمصير تركيا إلى يومنا هذا بأشكال ومسميات مختلفة أحياناً بشكل علني وعلى الأغلب بشكل سري.
للأسباب المذكورة يمكننا فهم مدى تحسس الدولة التركية من الديموقراطية الحقيقية ومصطلحات الأصالة والإنتماء وحق الشعوب في التعبير عن ثقافتها وهويتها، ويصرح بعض المسؤولون الأتراك بين حين وآخر “لو عاد كل شخص إلى أصله لما بقي شيء اسمه تركي أو تركيا”. فهل هذا الواقع يعطي الحق لـ”الأتراك البيض” لإبادة الشعوب وطمس ثقافتها وتعريضها لسياسات الصهر والتذويب ؟ وهل هذا الواقع يمنح هؤلاء الحق في إبادة الشعب الكردي في الأجزاء الأربعة وفي المهجر لأن هذا الشعب لا زال يتمسك بهويته وثقافته؟ فالشعب الكردي رغم الإنتكاسات والمذابح والإبادات منذ منتصف القرن التاسع عشر لازال يقاوم هذه السياسات التي مارستها العثمانية وتمارسها الدولة التركية البيضاء في يومنا الراهن. ويجدر بنا أن نعلم أن الكردي في يومنا بات أكثر إدراكاً للمكائد والألاعيب التي تمارسها الدولة التركية بحق الشعوب عامة والشعب الكردي بشكل خاص.
ثمة أمور أخرى تسير في غير صالح الأتراك البيض وهو تقدم العلوم بكافة مجالاتها بما فيها العلوم الاجتماعية والأبحاث التي تنبش تطور المجتمعات وحريتها ونشر الديموقراطية، ناهيك عن العلوم التطبيقية التي تكشف عن أصول وانتماءات المجتمعات والأفراد. فقد أصبح بمقدور أي فرد أن يكشف عن أصوله وانتماءاته العرقية، فهل لدى حكام تركيا اليوم القيام بإجراء فحص DNA للكشف عن أصولهم ؟ .