الأربعاء 12 مارس 2025
القاهرة °C

محمد جمعة آلا يكتب : الشرع داخل قرص مضغوط او في خيار التطعيم

الحدث – القاهرة

ماالذي حدث في سوريا كيف حدث أن فَقَد هذا السوري بالمعنى الإستطيقي وهذا المجتمع بالمعنى الأخلاقي وهذا العاقل بالمعنى الفلسفي كيف حدث أن فقد كل مزاياه الأنثروبولوجية وتحول إلى مجرد غول بعد أن تضافرت مؤسستي الدين والقومية وحولته إلى كائنٍ ميكروهوياتي لا يملك سوى جسمه وغرائزه هذا الإنسان الذي تربى على أنه لا يستحق مغامرة أن يكون مواطناً.

جاء الجولاني بكل أدواته الدينية داخل مجتمع يمارس الدين خارج أفق التديّن لينشأ توليفة بيروقراطية “الدين النظامي” وليعد الآخر بتنويعات الموت يبدو أن الدين في هذه الآونة الأخيرة فقد كل مقتضياته ولم يعد يملك سوى سلاح الآخرة والتاريخ السهمي وإلهاً مرتشي لا يعطي إلا بعد جرعة من الدماء إلهٌ لا يؤمن بالفعل المجاني فكل من يقتل نفسه داخل معتقد إلهي مؤسساتي إنما هو في حقيقته يدخل في مقايضة مع إلهه. يقدم الجولاني نفسه باعتباره إسلامي يرى أن حل الواقع السوري ملزم بالمرور تحت مكبس الإسلام لتخريج تطبيقة ذات بعد واحد، دائما ً ما يقدموا أولئك المتزمتين داخل أيديولوجية معينة مصطلح النهاية نهاية الأزمة نهاية الوضع الاقتصادي نهاية الإقتتال ودائماً ما تستلف هذه النهايات بريقها من وعد السعادة. إن ترديد خطابات السعادة يصبح متداولاً وبكثرة ضمن اللغة الدارجة عندما يحدث خلل في المنظومة الإنتمائية للشعوب وخاصة أثناء الصراعات السياسية والعسكرية حيث تطفو مصطلحات النهاية السعيدة إن خطاب الجولاني حول مفهوم النهاية هو استدعاء تاريخي وهو في ذلك يملك قاعدة متينة إن الدين المؤسساتي دائما ما كان يملك تلك القدرة الهائلة في القبض على الزمن وإدخال الثابت والنهاية فيه وبالمجمل لا تكتمل ثقافة النهايات إلا بإضافة المخلّص ضمن أجندته وهنا يقدم الجولاني نفسه باعتباره مخلصاً لسوريا ما بعد الأسد .

ولكن هل نحن الآن نحوض مغامرة ما بعد الأسد – أو تجاوزه؟ يبدو أن الخيارين في أساسهما فلسفيان وهما  يحتاجان إلى إعادة إنتاج فاهمة أخرى ف المابعد مصطلح انتُشر داخل أروقة مابعد الحداثة وهي في أساسها ليست سوى مجرد تنويعات للحداثة ومن ثم فهي تحتاج إلى إعادة فحص مجهري أما التجاوز فنحن لا نملك وثيقة فلسفية بين أيدينا سوى مفهوم الفيلسوف الألماني هيغل في كتابه الموسوعة الفلسفية فمعنى التجاوز عند هيغل هو في حقيقته إدماج ما أصبح متجاوزاً مع ما يوجد ومن ثم يصبح ما بعد الأسد مجرد صيغة فلسفية وتجاوزه مجرد تثبيت للقاعدة الهيغلية اي أننا لم نتجاوز الأسد في حقيقته وأن ما فعله الجولاني أنه أدمج المنظومة الأسدية داخله بما فيها من أدوات، يبدو أن الجولاني لا يستطيع المناورة من دون الأسد إن طرافة هذا الشرق ليس فقط في فقره الأنطولوجي وإنما في انعدام الخيارات وكأن الشرع لا يملك سوى خيار الاستنجاد بأدوات الأسد أما السبب فهو فقدان هذا الشرق لمفهوم العمومي المشترك أو كما يسميه الفيلسوف الكندي شارل تايلور المصادر العميق أو لنقل فقدان قدرتها على إنتاج عمومي آخر، إن العمومي المشترك هو بمثابة إرث معنوي ومع هذا العمومي يبدأ التاريخ الأخلاقي لشعبٍ ما لقد درج الفلاسفة الغربيين من أفلاطون إلى هايدغر على إنتاج حقول من العمومي المشترك تستطيع الشعوب أن تنتمي إليها وهنا ميزة الغرب أي أنه أنتج ميراثاً متنوعاً من المشاريع الإنتمائية يستطيع اللجوء إليه متى مرّ بأزمة روحية – أخلاقية – سياسية. بالنسبة لنا في الشرق ولنأخذ العينة السورية مثلاً نحن هنا لا نجد ماهو بمثابة عمومي مشترك سوى الإسلام أي الدين والقومية يبدو أن السوري دائماً مربوط بإحدى هذين الخيارين والتي تُعد بمثابة ما سمّاه كارل ياسبرز بالمواقف النهائية المفروضة على السوري والتي لا يستطيع منها فكاكاً هذه المواقف التي هي بمثابة سورٍ يصطدم بها السوري دون أن يستطيع الخروج منها أو اقتحامها بالسؤال ما جدوى هذه الخيارات. يوصلنا أوجلان إلى آخر الوتر ليقول أن الممثلين عن هذا النمط غير ملامين وكأنه يعطي نوعاً من البراءة ليعاود هجومه من طرف آخر وليدعي أن الواقع المعاش في الشرق الأوسط خلال تاريخه الطويل وفي أزمنته الحديثة يمر بالفوات الأنطولوجي أي هشاشة القدرة على إنتاج بدائل إنتمائية جديدة ومن ثم يبدو الخيار الإسلامي أو القومي أفضل السيئين, يعطينا التاريخ أمثلة كثيرة على فترات مفصلية أو لنقل بنكهة هيغلية على فترات انتقامية ولكي يمارس التاريخ مكره فإنه يستقطب حوله جماعاتٍ  تستطيع أن تحرك التاريخ إن التاريخ وبكلمة أخرى يحتاج إلى أن يقوم بعملية مراجعة لذاته ولا يستطيع أن يفعل ذلك سوى أشخاص قادمون من ليل هذا التاريخ وهنا يصطف الهوويون والمتدينون لإنتاج هذا النمط من التاريخ لينشؤوا تحالفاً صامتاً بينهما لذلك نجد أن الجولاني يستنجد وبشكل صامت بخليله الأسد فأمام هشاشة طرح الجولاني لا يبقى أمامه سوى أن يلقح نفسه بجرعة قومية ليبدو الأسد أكبر مسانديه وكأننا سنشاهد تحالفاً إسلامياً قومياً في القادم الجديد الإسلام السياسي فشل في إظهار نفسه كبديل مؤسس فهو حوّل نفسه إلى جهازٍ وصي استبدادي وبالمجمل فكل كلامٍ عن الإسلام السياسي في الراهن هو مجرد شجار أخلاقي فرّ من أي قبول جماعي وهو في أساسه إحدى الفينومولوجيات الإسلامية الرديئة هذا النقاش يوصلنا إلى نتيجة مبدئية وهي أن كل كلام عن الدين والتديّن والإسلام وتنويعاته هو كلام خرج عن أفق الجماعة الفعلية وتحول إلى مجرد دمغة أيديولوجية في أوطان عَفَت نفسها من إنشاء وطن ما بعد ديني وهنا لا نقصد الترويج للفكر الالحاد والتي اصبحت بمثابة دين بديل بل لنقل الدعوة للإيمان الحر او بنكهة أوجلانية المؤمن الديمقراطي اي الذي يمارس إيمانه داخل حقول من الديمقراطية. يبدو أن خيارات الجولاني قليلة جداً فهو إما أن يتحالف مع حواضن الأسد القومية أو يتجه نحو برنامج ديمقراطي تمثله الإدارة الذاتية أما الأول أي الخيار القومي فسيعطي الجولاني دفعة سلطوية كما فعل الرئيس التركي في تحالفه مع القوميين ويستطيع فيها ترسيم أركان حكمه فالأسد باقٍ. يدعي ألتوسير متأثراً ب لينين أن الجهاز الأيديولوجي للنظام القائم سينجو حتى بعد هزيمته كما ثبت من واقع الثورة البرجوازية في فرنسا وهنا يعقّد النظام الجديد والبائد تحالفاً أيديولوجياً جديداً حتى ولو كانوا أعداء . أي ان الاسد سقط ولا يزال الجهاز الايدلوجي يفعل فعلته وأنتصر الجولاني وهو لا يزال مستندٱ على هذا الميراث الايدلوجي الذي يرى فى الآخر مجرد شتات او ملحق تحت الوصاية هذا الآخر الذي ينظر إليه باعتباره عائقا يجب التخلص منهم.

إن حبكة تغيير الاسم من الجولاني إلى الشرع لم يأتي من فراغ والهدف لم يكن إظهار النقلة المدنية بل تقديم حضور قومي فهذا الاسم  بات استدعاءاً دينياً لا يكفي لتلبية مطالب الشعب وما أضاف إليه هو تطعيم قومي ليصبح الشرع إن هذا الأساس الميتافيزيقي لهذان الإسمان هو عقد تحالف بين الديني والقومي. أما في حالته الثانية فما يتطلب من الجولاني هو الشجاعة والجرأة إن الديمقراطية مشروع تنويري يتطلب الخروج من القوقعات القبلية والدخول في أفق الإنسانية إنه يشبه ما أرّخ له الفيلسوف الألماني كانط عندما طرح سؤالاً فلسفياً في التاريخ الأوروبي ما التنوير؟ واعتبر أن الشرط الأول للولوج إلى التنوير هو الشجاعة ومن ثم فإن الشعوب التي لا تملك تلك الشجاعة غير مؤهلة لأي إدعاء ديمقراطي بالنتيجة فإن تطعيمين الديمقراطي والقومي هما خيارين مفتوحين أمام الجولاني فإما أن يختار فتى الظواهري ويتقدم لاتخاذ الجبهة القومية وكل تسمية مابعد هذا التلقيح إنما هو تحويل سوريا إلى مقبرة جماعية لشعوبها . وإما أن يمتلك شجاعة الأحرار ويختار الديمقراطية.

to top