الأحد 1 يونيو 2025
القاهرة °C

الشرع وإعادة تدوير الأسد 

الحدث – القاهرة – بقلم محمد جمعة آلا

لماذا يصرّ الشرع على أن يصبح بشاراً جديداً؟ لنبدأ من نقطة أولية وهي أننا حاضرون داخل سوريا من غير أي ميراث ديمقراطي أو وطني بمعنى أننا مفلسون من حيث الطرح، يقول المفكر الكندي تشارلز تايلور أن الشعوب التي لا تملك مصادر عميقة ترجع إليها لن تنقذ نفسها من النهايات الوخيمة أو الهشة، ويقصد تايلور بالمصادر العميقة البُنى الذهنية والإجتماعية والسياسية والأخلاقية ..الخ التي تُعد بمثابة نقاط علّامة “طبوغرافيات بشرية” يستطيع المجتمع استدعاءها متى مرّ بأزمة كبرى.

وعندما يعلن مجتمع ما إفلاسه من حيث عدم قدرته على إنتاج مصادره العميقة سيتدخل في دوامة التكرار الأبدي ليعطي نفس النتائج. يبدو وحسب تطبيقة الكندي أن الشرع مفلسٌ قبلياً أي أُدخل في هذا الصراع أو لنقل جُهز له هذا الفخ “الفخ السوري” من دون أن يملك أي أدوات أي مصادر يعتمد على مواجهة هذا الزخم من الإرتكاسات.

فعندما كان الشرع “الجولاني-جولاني إدلب” أن قدم نفسه من خلال السياق الديني “الإسلام الراديكالي” واعتبره بمثابة المصدر الوحيد والقادر على مواجهة الأزمات لكن ما حدث هو تغير الخطة فبعد سقوط الأسد وسيطرة الجولاني مضطراً على كامل الساحة السورية ليتحول إلى الشرع أخرج معه كل حسابات الجولاني ليتحول إلى شرعٍ مفلسٍ أمام حجم الخلافات والتناقضات الموجودة داخل الفضاء السوري والتي يعجز معها السياق الديني الإسلامي حل هذه المعضلة هنا اضطر الجولاني إلى استعادة منظومة الأسد وتدويره. المشكلة أن الشرع داخل هذا الواقع الملعون لا يملك سوى نزعتين ميتافيزيقيتين القومية والدينية ومن ثم يُخرج الشرع وقبله الأسد نفسه خارجه الملامة بمعنى ما فإن التاريخ السوري الحديث والقديم لم يُقدما داخل أفق الإنسانية سوى هذين المصدرين القومية والدين وبالتالي فكل متحكم بالسلطة لن يخرج من دائرة استعادة هذين السياقين. لقد قدمنا أنفسنا ضمن هاتين النزعتين ذات المنحى المزيف وكلاهما يقدم نفسه ضمن لعنة الهوية المستدامة وكلاهما أيضا يطرح نفسه داخل مجالات لا ترى الآخر إلا عدواً، فكل نداءٍ هووي يحمل معه إنتاج عداواتٍ تجاه الآخر “المرابطة ضد الآخر”. النزعة الأولى وقعت بعد زحزحة الدولة العثمانية حيث قام الرواد الفكريون بالتبشير بالدولة الوطنية وإنتاج المواطنة والمجتمع المدني والتي لم ترى النور حيث استُعاضت عن الدولة الوطنية بالدولة القومية تحت حجة المعركة الكبرى مع إسرائيل وهذا الإنزياح من الدولة الوطنية إلى الدولة القومية منح زعماء الشرق وقادات الأحزاب مجالاً مريحاً للاستبقاء على سلطتهم ، ومن ثم أصبحنا ندعي أننا حداثيون رغم أننا لم نخض تجربة الحداثة ولم نمر بها أي أننا أصبحنا محدّثين من دون حداثة وحولنا هذا الشعار إلى قميص نلبسه ونخلعه حسب متطلبات المرحلة من مواجهة الغرب الإمبريالي إلى الإسرائليين المحتلين “المعركة القومية” هذين العدوين  ضخّا في القادة زخماً شوفينياً تجاه شعوبها وتحولت الديمقراطية ومفهوم المواطنة والوطن إلى مجرد وعدٍ لن يرى النور. وهذا ماأدخل إنسان الشرق الأوسط في ثبات تجاه قضاياه الإنسانية وعُدّ التفكير في هذه القضايا الديمقراطية أو الحقوقية مجرد ترفٍ أو نزوح من قيم المقاومة المزيفة إلى قيم الغرب الحداثي وهنا ظهرت خطابات الثورة والإمبريالية والغرب والمحتل والتقدم والرجعي واليساري واليميني، وهذا المسار أفرز معه معاجم هوياتية ملاصقة للآخر “فالكردي بات في معجمه يتهم باإنفصال والعربي بالشوفينية والتركي بالتعالي واليهودي بالمحتل”.

أما في الجانب الآخر فقد ظهر الإسلام المعارض لهذا التوجه ورأى أن نقطة انطلاقه تبدأ في المرحلة التي يعلن فيها الخطاب القومي عن إفلاسه. ففي بدايات الثورة السورية كان لا يزال الخطاب القومي محافظاً على حضوره الخافت وهنا أدرك المسلم السياسي والمسلم المسلح أنه يستطيع أن يبدأ معركته ليس ضد الحاكم الفاسد إنما ضد الثورة أي كيف يركب على هذه الثورة التي لا تحمل معها أي برامج إنتمائية، فالمسلم ضمنياً لا يؤمن بالثورة فالثورة حدثٌ اجتماعي سياسي حديث تعرفنا عليه مع ظهور الدولة الأمة  كما قدمه الغرب. لذلك فالمسلم يرى في كل ثورة بدعة ويرى في الثوري كافراً وهو هنا أي مع الثورة السورية أراد أن يزيح الثورة عن مفهوم المقاومة إلى الخط الجهادي وتحول الثوار إلى مجاهدين ومع هذا المسار طفى على السطح معاجم بديلة للتعامل مع الآخر فتحول الغرب وإسرائيل من أعداء إمبرياليين محتلين إلى أعداء لاهوتيين وتحولت المكونات “الأقليات” إلى كفرة الداخل أولئك الذين يجب استئصالهم والذي يعد قتالهم أمراً إلهياً فتحول العلوي والدورزي إلى نصارى وأعداء للإسلام وتحول الكورد إلى زناديق إنفصاليين إن طرافة كلا هاتين النزعتين أنهما دائماً ما رأت في الكرد أنهم إنفصاليين.

وبالعموم أمام هذا المشهد المبتل باللعنة ظهر الشرع داخلا في هذه التركة السورية الملعونة مما اضطره في كثير من الأحيان على إعادة تدوير الأسد من دون أن يتوافر على أي منهج بديل فما فعله الشرع هو تملك جهاز الأسد الأيديولوجي القومي وغيّر من قميصه وخطاباته أما الحقيقة فهي داخلة مع كليهما، هذا لا يعني أنهما وجهان لعملة واحدة بل هما عملة واحدة.

أثناء تفحصنا لوسائل التواصل الاجتماعي تظهر لنا بعض الصور التي لو أغمضت نصف عينيك سترى صورة أخرى فإلى أي مدى نستطيع أن نقول أننا لو أغمضنا أعيننا إلى النصف ونظرنا إلى الجولاني فلن نجد سوى الأسد والسؤال القبلي هل لو نظرنا إلى الأسد سابقاً وأغلقنا نصف أعيننا لوجدنا الجولاني أي أن الأسد كان يخبئ الجولاني داخله والعكس صحيح. وضمن هذه الصورة يفرق الفيلسوف اليوناني أرسطو بين الوجود بالقوة والوجود بالفعل ويرى أن الوجود بالفعل ماكان إلا في الأساس وجوداً بالقوة ينتظر الحصول. فالجولاني هو الوجود بالقوة الذي كان الأسد الذي هو الوجود بالفعل ينتظره ليترك له المجال وهما في النهاية لا يمارسا سوى إنتاج أنفسهما.

 

to top