الحدث – أحمد شيخو
أوضح الكاتب والباحث السياسي أحمد شيخو خلال مقال، إنه من المهم أن نقدم لمجتمعاتنا وشعوبنا، الصياغة العلمية للطبيعة الاجتماعية، التي تحياها منذ آلاف السنين، لتتمكن من مشاهدة نفسها، في مرآة العلم، ومن إدارة ذاتها، بإرادة الحياة الحرة الديمقراطية.
إن التعايش المشترك، بحرية وديمقراطية حقيقية والحفاظ على الكرامة و استقلالية الذهنية والإرادة، وعدم التبعية الأداتية والوظيفية لنظام الهيمنة العالمي ومشتقاتها وأدواتها الإقليمية، وكما أن إعادة ترتيب التشكيلات الاجتماعية الطبيعية، تقتضي أولاً من أفراد و شعوب ودول المنطقة ومن كافة البنى الفكرية والتنظيمية والسلوكية الاجتماعية والسياسية والثقافية، تجاوز الاحتكارية السلطوية للحياة ومناحيها كافة ورفضها، وفتح المجال للتشكيلات الاجتماعية الحقيقة، بعد خلاصها من تأثيرات وهيمنة الأبعاد والقوى السلطوية الدولتية، وهذا ما يقتضي بدوره العمل بفهم و بإصرار، لبناء المجتمع الديمقراطي المنظم والواعي القادر على القول والفعل ورد الاعتبار، و كذلك تعزيز الإدارة المجتمعية الديمقراطية، والتكاملية، والمحققة للمساواة والحرية والعدالة والأخلاق، بدل المنهجيات المنغلقة التسلطية الأحادية والسلطات القوموية والإسلاموية، التي لم تزد الأوضاع إلا سوءاً، وبلاءً على المنطقة وضعفاً وتقسيماً بالأجسام، والهياكل المصطنعة والأفكار الغريبة عن قيم وثقافة، وتقاليد الحياة الديمقراطية للمنطقة، وشعوبها وتكويناتها الاجتماعية المختلفة.
علينا الإدراك في هذا الشأن، أن الموضوع هنا ليس إعادة خلق المجتمع تحت ظل هذه الصفات والأهداف وإعادة الاعتبار المرادة، فالمجتمعات موجودة وقائمة رغم كل الظروف والضربات منذ آلاف السنين باعتبارها اتحادات ومجموعات الأسرة، القبيلة، المذهب، العشيرة، الشعب والأمة التي في أصلها عبرت عن طابع التشكل الجغرافي الاجتماعي المصيري للمجموعات البشرية في غالبيتها، والذي نريد الإشارة له أننا بحاجة إلى تكييف حماية هذه الاتحادات البشرية والجغرافية، و مختلف المجموعات التي تحيا حالياً، تحت ضغط السلطة ومحاولات ترويضها و ضمن ظروف النظام العالمي الرأسمالي، والتي نعتقد بأهميتها القصوى في أي تغيير حقيقي وأقلمتهم مع ظروف الديمقراطية المباشرة أو المجتمعية الأخلاقية التشاركية الموجودة في جوهرهم أصلاً، وبالمجمل مع مراحل التحول الديمقراطي المطلوبة وإعادة هيكلة هذه الاتحادات والمجموعات الاجتماعية الجغرافية المصيرية، إن تطلب الأمر وتخليصها من براِثن ومن كافة رواسب السلطة، والدولة، وأجهزتهم القمعية والنهبية.
إن الحياة الديمقراطية، تحتوي بين ثناياها على مجتمع الاتحادات والمجموعات الديمقراطية المناهضة للاحتكارية والدولتية السلطوية، وعلى المجتمعات الاقتصادية والسياسية التشاركية الديمقراطية، والمهم هنا هو جوهر وكينونة الوجود وماهيته، وليس كثرة الأسماء والألقاب والصفات، وهذه يمكن أن تكون من أولويات برنامج التحول الديمقراطي، ولعل مجتمعات وشعوب الشرق الأوسط والمنطقة عامة ليست غريبةً عن هذا الأمور وإن تم إضعافها ومحاولة تشتيتها من قبل القوى السلطوية الاحتكارية وهي تنظر بشغف إلى هكذا مقاربات لأنها تمس حقيقتها ووجدانها وتحاول إظهاره وجعله وسيلة للحياة الحرة مرة ثانية بتكامل التاريخ والحاضر وبالاعتماد على الثقافة والتاريخ أهم مكونين لتشكل الذات الحرة.
الأمر الهام والضروري، هو أن نقدم لمجتمعاتنا، وشعوبنا الصياغة العلمية للطبيعة الاجتماعية، التي تحياها منذ آلاف السنين، لتتمكن من مشاهدة نفسها، وأجمل ما لديها في مرآة العلم، ومن إدارة ذاتها، بإرادة الحياة الحرة الديمقراطية.
على الجميع، عدم استصغار المجموعات القبلية والعشائرية مطلقاً؛ لأن هكذا صياغات اجتماعية موجودة، ما دام المجتمعات والإنسان موجودين، وهي لا تفنى أبداً، إنما تتحور لأنها تعني الإنسان، والإدارة، والمشهد التفاعلي مع الحياة، فحتى منظمات المجتمع المدني الراهنة، وكبرى الشركات، وحتى تقسيمات الفضاء الافتراضي، وغالبية التشكيلات السياسية والاجتماعية، وحتى الدول الحالية، بالمستطاع تقييمها، على أنها قبائل وعشائر معاصرة، وإن لم تكن بالأبعاد الأخلاقية والحياتية نفسها، كما بالمقدور رؤية المذاهب والطرق التقليدية وفق المنظور المرحلي على أنها الجامعات والأكاديميات والمعاهد العلمية التي طالما نصادفها.
أما بالنسبة، للأمم والشعوب، فاعتبارها محض دولٍ قومية غير صحيح، وتجنّي ومغالطة كبيرة، بل بالإمكان رؤيتها، وبناؤها كمجتمعاتٍ ديمقراطيةٍ متعددة اللغات والأثنيات والأديان والأوطان، وفي حقيقة الأمر بقناعتنا ما يدفع الكيانات والمجموعات التقليدية التي تعيش في ربوع الشرق الأوسط إلى الاشتباكات والصراعات الدموية والتعقيد، إنما هي الاحتكارية عموماً والاحتكارية السياسية والاقتصادية والأمنية خصوصاً.
إن أي عملية تحول ديمقراطية عليها أن تضمن هذه الاتحادات والمجموعات والتكوينات الحقيقية بين ثناياها، ليس كاتحادات بالية وكمجموعاتٍ قديمةٍ متخلفةٍ ورجعيةٍ يجب الخلاص منها، بل بالعكس، كقيمٍ مجتمعيةٍ أساسيةٍ وموروث حضاري، ينبغي الاستفادة من وجودها بعد دمقرطتها وترتيبها وفق البعد والتعبير العلمي الاجتماعي.
يعتبر الشعب البدوي من القومية العربية، من أهم ركائز الحياة الحرة؛ إن تم التفاعل معها برؤية علمية اجتماعية، هادفة لدمقرطة المجتمعات العربية، وكذلك الأمر بالنسبة للشعب التركماني من القومية التركية، والشعب الكرمانجي من القومية الكردية، والذين تبلور حصيلة ضيق نطاق البنية القبلية في مجتمعات الشرق الأوسط بالتدريج، والذين بدأت ماهيتهم العشائرية والقبلية تزول تدريجياً، وهم يعتبرون المادة الأساسية في عملية التحول الديمقراطي وبناء المجتمع الديمقراطي في الشرق الأوسط، لذا، فالمعتقدات الديمقراطية والحركة السياسية والثقافية ملزمون بتنظيم هذه الشرائح، كونها إحدى القوى الأساسية، لأي مشروع ديمقراطي مجتمعي، بعد إبعادهم عن الترويض، والقفص السلطوي، والدولتي، الذين لم يخضعوا له بالكامل يوماً.
بالإضافة إلى ما سبق، ففي منطقة الشرق الأوسط، التي تشكل المهد والمنبع لكل الأديان التوحيدية، لا بد من النظر إلى كافة المذاهب والطرائق، وإلى ما تم تسميتهم كأقليات، رغم أنهم شركاء وأصلاء، ومنهم الايزيديين والعلويين والسريان والأرمن واليهود وغيرهم، على أنهم مناجم ذهب وكنوز ثقافية في المنطقة، ولا بد من هيكلتهم على شكل منابر، ومنصات ثقافية، ومعاهد وأكاديميات وجامعات، والسماح لهم بالتمتع بالحياة، التي تسودها المساواة والحرية والديمقراطية، في كل الشروط والظروف، وتقييمها ضمن إطار التحول الديمقراطي، حيث يعد ذلك مهمةً تاريخيةً واجتماعيةً وأخلاقية لا يمكن الاستغناء عنها.
كما أن إبعاد الشعوب والأمم، أو المجتمعات الوطنية الكبيرة في المنطقة كالعربيةٍ والتركيةٍ والكرديةٍ والفارسيةٍ عن مرض القوموية الفاشية، والوطنياتية المخادعة المتطرفة الضيقة، كما يؤكده الفيلسوف والقائد عبدالله أوجلان في مجلده الرابع المتعلق بالشرق الأوسط، والعمل على إنقاذها من فخ الدولة القومية، وترتيبها وهيكلتها على شاكلة أمة الأمم الكبرى أي التحديث الديمقراطي العصري للأمة، التي تتميز بكونيتها بقدر خصوصياتها ما وراء الدولة القومية ضمن إطار المشاريع الديمقراطية والتحول الديمقراطي، أي الأمة الديمقراطية مثلاً، إنما يعد وظيفة تاريخيةً واجتماعيةً ضرورية.
أما إجراء، تجديد وإصلاحٍ حقيقي، على الإسلام والأمة الإسلامية ضمن إطار التحول الديمقراطي، وإنقاذه من الحالة الأداتية، السلطوية الدولتية، الوظيفية الاستغلالية والفاتح الغازي والسلطوي الدموي لإسلام الخلافة والسلطنة وأداة الهيمنة العالمي، وترتيبه واستحداثه كأمةٍ عابرةٍ للدولة القومية ما وراء الدولة القومية، وديمقراطيةٍ مليئة بالمساواة والحرية؛ فيعتبر من أقدس المهام التاريخية والاجتماعية.
وعليه، فصياغة موقف أو منظومة فكرية، ورؤية للتحول الديمقراطي، مستندة وعاملة أساساً بقيم الديمقراطية والحرية والمساواة، وحضارتها الديمقراطية التي تعد دعامتها التاريخية في وجه حداثة النظام العالمي الرأسمالي، وركائزه المدنياتية التقليدية التي ترتكز إليها؛ تجسد الحقيقة الحياتية والمصيرية لحرية الوجود المجتمعي، والحقيقة، هي تعبير عن نيل الوجود المجتمعي حريته، وما يلزم لجعلها واقعاً ملموساً، هو العمل بإصرار على الإنشاء العلمي في حقيقة علم الاجتماع، إذ يستحيل على أية سياق نضالي أو حركةٍ أو منظومة فكرية أو تنظيم أو دولة أن يكون ناجح ومؤثر ومستدام، سواء على مر التاريخ أم في يومنا الراهن أو في المستقبل، إذا لم تنظم ذاتها ضمن حقيقتها، ماضية على درب الحياة الحرة التي لا يمكن الاستغناء عنها. ودمج تاريخ المجتمع الشرق أوسطي القديم قدم البشرية، مع القيم الاجتماعية للتحول الديمقراطي ضمن هذا الكم الهائل من الغنى الاجتماعي، والتصدي خصوصاً، لهيمنة نظام الهيمنة العالمي، وحداثتها(نمط حياتها)، التي لم تترك مساماً اجتماعياً؛ إلا وسربت فيه ذهنيتها وإرادتها وتلوثها هي في راهننا مع اتباع سلوك الدفاع الذاتي إزاءها، والنشاط على مسار إعادة الترتيب والهيكلة وفق الرؤية الديمقراطية؛ إنما يعد حاجة وبل هي أنبل وأقدس مهمةٍ على الإطلاق في الطريق الصحيح لأنها تلامس الواقع الحقيقي لشعوبنا ومجتمعاتنا وتفتح الطريق أمامهم للوصول للاستقرار والأمن والسلام.