في خضم الأزمات الي تعانيها المنطقة وشعوبها من فقدان الأمن والاستقرار وغياب الإرادة السياسية والمجتمعية التي تجسد التعبير الحقيقي عن مجتمعاتنا وشعوبنا، يتسأل البعض كيف السبيل لتجاوزها وبناء حياة مستقرة تتحقق فيها الحرية والديمقراطية ؟ وماهي القراءة الصحيحة للمؤثرات المحلية والإقليمية والعالمية في تشكيل الوعي المجتمعي الجمعي في ظل حالة الفراغ الفكري والسياسي والثقافي أو في حالة التقليد و الاستهلاك في ظل عالم إفتراضي يتم فرضه من قبل النظام العالمي عبر أدواته المختلفة.
منذ بداية القرن العشرين و مع المراحل الأخيرة لسقوط العثمانية البالية والمتخلفة عن زمانها والتي جثمت حوالي 600 سنة على صدور وعقول شعوب المنطقة ، دخل القوى المركزية للنظام العالمي بعد الحربين العالميتين الأولى والثانية إلى المنطقة وكان من متطلبات القدرة على التحكم بكل الجغرافيات و الشعوب التي كانت تحت الاحتلال العثماني وكذالك بالأتراك أنفسهم أو الأصح التحكم بكل شعوب المنطقة( الشرق الأوسط وشمال افريقيا) هو محاولة تقديم بنى فكرية ومادية للشعوب ونخبها وقواها الفاعلة.
وكانت الأفكار الإسلاموية والقوموية من أهم الأفكار وأدوات سياسة فرق_تسد والسبيل لتقسيم وتفتيت المنطقة وشعوبها وضرب النسيج الإجتماعي لمختلف الأمم وكذلك إضعاف القيم والمعايير المجتمعية وأخلاقيتها العالية، وظّن شعوبنا بعد تبعية زُمَر إنتهازية و سلطوية منها للنظم العالمية أن الرفاه والسعادة والحياة المثلى والعلمية تتحقق عبر تحقيق وانجاز الدول القوموية المصغرة و المقسمة لجغرافيات ولشعوب المنطقة وتاريخ مستمر من ألاف السنين و حمايتها والتمسك بها وتنظيم الحياة وفقها ، وكذالك عبر الدخول في التيارات الإسلاموية التي قدمت نفسها كممثل وإمتداد لمقدسات شعوبنا وأديانها وذاكرتها الحافظة لتراكمها التاريخي والمجتمعي والإنساني. وهي في الحقيقة، تمارس كل أنواع الخداع والتضليل واستغلال الدين للوصول إلى الحكم والسلطة بعيداً عن كل قيم وأخلاقيات الدين الحنيف.
وهنا كانت الطامنة الكبرى حيث بهذين الفكرتين أو التيارين تم تحجيم كافة الميادين الاجتماعية و أنسجتها وإضعافها إرادة مجتمعاتنا وشعوبنا، ورؤية كل التنوع والتعدد التي تمتاز بها الطبيعية والحياة على أنها غير مرغوب وغير مقبول وبل مهدد لما تم إصطلاحه الأمن القومي للدول القوموية التي تم إيجادهم كمؤسسات تابعة ومرتبطة بالنظام العالمي دون أي اعتبار لشعوب المنطقة وثقافاتها وقيمها ومصالحها. وأصبحت النمطية والأقصاء والألغائية والتهميش وخلق درجات ومستويات وبيروقراطيات مترهلة من أدوات ورؤى مطلوبة للحفاظ على السلطة في الدولة القوموية وكذلك في التيارات الأسلاموية(الأسلام السياسي) بمعتدليها ومتشدديها وبمرنيهم وأخضرهم وأسودهم.
ولو أخذنا تركيا وبعض دول المنطقة ونظرنا لسلطاتها سنرى كيف أن ماتعانيها من الأزمات الخانقة وكذلك عيشها الحروب والصراعات المختلفة في داخلها ومحيطها هي نتيجة حتمية لقدرة الفكر القوموي والاسلاموي في تشكيل نفسه كسلطة ممتدة من 1923 حتى الأن ، من الاتحاد والترقي والحزب الشعب الجمهوري القومويين والعلمانويون إلى العدالة والتنمية وأردوغان وإلى السلطة الحالية المشكلة من العدالة والتنمية والحركة القومية التركية الفاشية والعنصرية.
فالسلطة الحالية في تركيا وفي ظل أغترابها عن شعوب تركيا وجمعها بين القوموية الفاشية والاسلاموية العميلة والمضادة للمجتمع والمنطقة، أصبحت مركز للتوتر والاضطراب في المنطقة والعالم وبؤرة للإرهاب والمرتزقة ودعمهم.
ولم تكتفي السلطات التركية المتعاقبة في ذبح الشعوب داخل تركيا وقتلهم وتهجيرهم وإبادتهم كما حصل مع الأرمن والسريان واليونانيين والروم والبونتس وغيرهم و كما يحصل مع المعارضة الديمقراطية و الكرد في محاولة إبادتهم وأرتكاب العديد من المجازر بحقهم وسجن سياسيهم وقادتهم وناشطيهم ورؤؤساء بلدياتهم وحتى رميهم من الطائرات كما حصل مع عثمان شيبان وسيرفت تورغوت في منطقة وان في باكور كردستان (جنوب شرق تركيا) وكذلك قتل الدولة التركية القوموية لأكثر من 50 ألف كردي منذ 1984 م وأيضاً قتلهم 17 ألف كردي تحت اسم فاعل مجهول عبر الاستخبارات التركية و ادواتها الاسلاموية من حزب الله التركي وغيرهم .
ولم تكتفي كما قلنا بداخل تركيا بل إن السلطة التركية وكنتيجة لحملها الفكر القوموي والإسلاموي باتت أقرب إلى هتلرية جديدة ترى أن بأمكانها السيطرة على كل شعوب المنطقة وخصوصا العربية والكردية وكذالك البلقان وحول بحر قزوين وجنوب القوقاز والبحر الاسود وأخضاعهم لسلطانهم الجديد أردوغان.
وكذالك ما يحمله السلطات الإيرانية من القوموية الشيعوية و ماكان يحمله البعث في العراق و صدام الحسين و مايحمله البعث في سوريا كلهم حاملي لنفس الفكر المتأزم والمسبب للمشاكل وأن أختلف طرق تجسيدهم وأشكالها وتبعيتهم للنظام العالمي أو زيف إدعائهم بالضد من الراسمالية العالمية كما كان حتى أغلب حركات التحرر الوطني أو حتى أغلب التيارات اليسارية فكلهم يدورون في فضاء واحد مفروض ومتشكل من قبل الأفكار الجاهزة والمقدمة من قبل المفكرين الذين مهدوا لهيمنة النظام العالمي و لكل أنواع السلطات التي تتفرع وتنال الشرعية منها تلك التي تستغل وتقمع الشعوب والمجتمعات في المنطقة والعالم.
وأمام ما سبق وفي حالة الأزمة التي تعيشها منطقتنا وكذالك العالم وفي خضم عصر أنتشارالتكنولوجيا والعالم الأفتراضي و صعوبة تفادي المؤثرات والطاقات السلبية في تشكيل حلول مجتمعية تستند لوعي جمعي متوازن نابع من مصالح شعوبنا وقيمها، يبقى العيش المشترك والأعتراف المتبادل وقبول خواص الطبيعية والحياة من التنوع والتعدد كأحد السبل المهمة لإضعاف الفكر الوظيفي السلطوي من القوموي والأسلاموي الألغائي والغريب عن ثقافتنا و كذلك يبقى من النضالات المهمة للوصول إلى الحياة الحرة والديمقراطية التي تتحقق فيها الاستقرار والأمن وتضمن حقوق وخصوصيات كافة شعوبنا ومجتمعاتنا ضمن نظم ديمقراطية تحقق كرامة الأنسان وحريته.