الخميس 26 يونيو 2025
القاهرة °C

الكاتب الكبير محمد أرسلان علي يكتب : حرب الاثناعشر يوما نصر من رماد الهزيمة

الحدث – بغداد

إثنا عشر يوماً والعالم كان يحدق في شاشات التلفزة وهو يتابع تفاصيل الحرب الإيرانية والإسرائيلية. العواجل شغلت بال الكثير من المحللين والمتابعين لهذا الحدث الجلل. الكل مخوف والهلع هو سيد الموقف، جراء التهديدات المباشرة من قبل كِلا الطرفين في استخدام شتى أنواع الأسلحة وما يمتلكه، وخاصة كانت العيون متجهة على المفاعلات النووية الإيرانية ومحاولات تدميرها والاشعاعات التي ستصدر منها. كل ذلك كانت محاور نقاش وجدال ساعات من الكتاب والسياسيين والمحليين على شاشات التلفزة. وفي النهاية عادت الأطراف المتحاربة بعد انتهاء العرض الأول من المنازلة الكبرى. والكل يعتقد أنه ثمة منازلة نهائية بانتظارنا في المستقبل لحسم الأمر، ما بين مشروعين دينيين، كل طرف يرى الأحقية عنده في تسيّده المنطقة وفرض هيمنته عليها.

السؤال الهام المطروح بعد توقف الحرب هو لماذا تسعى الأنظمة الشمولية إلى تحويل الهزائم إلى انتصارات؟ إنها ظاهرة نفسية وسياسية متجذرة بعمق في طبيعة الحكم الاستبدادي، حيث يصبح الحفاظ على السلطة أولوية قصوى، حتى لو كان ذلك على حساب الحقيقة والواقع.

وهذا يطلب منا أن ندرس سيكولوجية الأنظمة المستبدةولماذا تحاول بناء النصر من رماد الهزيمة. حيث تتبع الأنظمة المستبدة، بعد تكبدها لخسائر عسكرية أو سياسية، استراتيجيات نفسية ودعائية محددة لتحويل مفهوم الهزيمة إلى انتصار، أو على الأقل إلى تعادل إيجابي. هذه الاستراتيجيات لا تستهدف العدو الخارجي بالضرورة، بل تستهدف بالأساس الرأي العام الداخلي، وذلك للحفاظ على شرعية النظام وقوته.

وتستخدم النظم المستبدة آليات عدة في ذلك وأهمها الآليات النفسية والاجتماعية وذلك بهدف السيطرة على السرديةومحاولة تزييف الوعي. حيث أن الأنظمة المستبدة تدرك أن بقاءها يعتمد على تشكيل وعي الجماهير. لذا، تقوم أجهزتها الإعلامية والدعائية بالمبالغة في إظهار إنجازات السلطة وتبرير أفعالها، وتحويل الهزائم إلى انتصارات.وكذلك تعتمد احتكار المعلومات، حيث يتم قمع أي معلومات تتعارض مع السرد الرسمي. وتتحول وسائل الإعلام إلى أبواق للنظام، تنشر الأخبار التي تخدم مصالحه فقط، وتصفي أو تشوه الحقائق التي قد تثير الشكوك. وتعمل الأنظمة ايضاً على الخطاب القومي والمبالغة، حيث يتم التركيز على الخطاب القومي والشعور بالوطنية، وتصوير الهزيمة على أنها مؤامرة خارجية، أو جزء من معركة أكبر ضد قوى الشر، أو “صمود أسطوري” في وجه “العدوان”. يتم المبالغة في تقدير إنجازات صغيرة أو رمزية، وتضخيمها لتظهر وكأنها انتصارات كبرى. والعمل على خلق عدو داخلي أو خارجي والاعتماد على نظرية المؤامرة. إذ، غالبًا ما تستخدم هذه الأنظمة نظرية المؤامرة لتفسير الهزائم. يتم إلقاء اللوم على “الخونة” أو “العملاء” أو قوى خارجية تسعى لتدمير الأمة، مما يصرف الانتباه عن الأخطاء الداخلية للنظام. ومن هذه السياسة أي من خلال خلق عدو مشترك (داخلي أو خارجي)، يتم توحيد الشعب حول القيادة، وتقديم النظام على أنه الحامي الوحيد للأمة في مواجهة الأخطار المحدقة.

النقطة الهامة أيضاً هي أن الأنظمة المستبدة تعمل على إعادة تعريف النصر وفق منطقها هي. وتعمل على خلق النصر المعنوي. حيث يتم تغيير مفهوم النصر من تحقيق مكاسب عسكرية أو استراتيجية ملموسة إلى “النصر المعنوي” أو “الصمود” أو “إفشال مخططات العدو”. على سبيل المثال، قد يتم تصوير عدم تحقيق العدو لأهدافه الكاملة (حتى لو كانت الهزيمة العسكرية واضحة) على أنه انتصار.

والثمن الباهظ لهذه الأدوات الاستراتيجية التي تعتمد عليها النظم المستبدة على المنظور الطويل هو تأجيل الإصلاح. حيث أن تحويل الهزيمة إلى “نصر” يمنع الأنظمة من محاسبة ذاتها وإصلاح أخطائها (مثل الفساد العسكري أو سوء التخطيط). وبنفس الوقت تعمل على تكريس الهشاشة، والتركيز على الخطاب بدلًا من الإنجاز الواقعي يؤدي إلى تراكم الضعف. وفي النهاية التضحية بالشعب. حيث يتم تسويق المعاناة الاقتصادية أو الخسائر البشرية على أنها “ثمن النصر”، مما يطيل أمد الأزمات.

استغلال العاطفة والخوف هي أيضاً أحد أهم الأدوات التي تستخدمها الأنظمة في تركيع شعوبها. حيث أن الأنظمة المستبدة تغذي الخوف من الفوضى أو الانهيار إذا لم يتم دعمها، مما يجعل الناس يفضلون الاستقرار الذي يقدمه النظام، حتى لو كان استقرارًا مصطنعًا. وبذلك تعمل على صناعة الكاريزما المصطنعة. وغالبًا ما تبني هذه الأنظمة “كاريزما” حول قادتها، تصورهم على أنهم لا يخطئون، أو أنهم قادة ملهمون يقودون الأمة نحو النصر، حتى في ظل الهزائم. ومن أجل خلق هذه القداسة، لا بدَّ أن يكون ثمة لعنة موجودة أيضاً. وهنا تتدخل الأنظمة على إسكات المعارضة من خلال القمع والترهيب ووضعهم في خانة “العمالة اللعنة”. حيث لمنع انتشار الحقائق البديلة أو الروايات التي تكشف عن الهزيمة، يتم قمع الأصوات المعارضة بقوة. السجون والتعذيب والرقابة المشددة هي أدوات أساسية للحفاظ على السيطرة. ولا ننسى تزييف التاريخ والذي من خلاله يمكن أن يصل الأمر إلى إعادة كتابة التاريخ لتتناسب مع الرواية الرسمية، وحذف أو تهميش أي أحداث لا تخدم مصالح النظام.

أمثلة تاريخية تمت معايشتها مثل حرب 1967 (النكسة). وعلى الرغم من الهزيمة العسكرية الساحقة، حاولت الأنظمة العربية (خاصة في مصر وسوريا) تحويل السردية إلى “مؤامرة كونية” أو “صمود أسطوري”، والتركيز على الخسائر التي تكبدها العدو، وتجاهل أو التقليل من حجم الهزيمة. وكذلك حرب 1973 (حرب أكتوبر/تشرين الأول)، على الرغم من المكاسب الأولية، لم تحقق الحرب الأهداف الاستراتيجية الكاملة، وانتهت بتدخل دولي. ومع ذلك، تم تصويرها على أنها “عبور عظيم” و”نصر مبين” أعاد الكرامة للأمة العربية، مما ساعد على تعزيز شرعية الأنظمة التي خاضت الحرب.

النصر الوهمي كأداة بقاء. حيث الأنظمة الاستبدادية لا تبيع الحقائق، بل تبيع الروايات والسرديات. تحويل الهزيمة إلى “نصر” هو آلية بقاء لضمان استمرار السلطة، حتى لو كان الثمن هو شلّ قدرة المجتمع على النقد والتطوير. النموذج العربي (1967–1973) والإيراني اليوم يؤكدان أن هذه الاستراتيجية قد “تنقذ” النظام في المدى القصير، لكنها تُعمق أزماته في المدى الطويل. الكلّ خاسر بالفعل، إلا أن الخاسر الأكبر هو الشعب، الذي يُدفع ثمن الوهم مرتين: مرة في ساحات القتال، ومرة في سجون الروايات الرسمية.

وما يتم معايشته في راهننا بعد توقف الحرب ما بين إيران وإسرائيل. حيث كل طرف يعلن انتصاره في هذه الحرب التي دمرت الكل من دون استثناء. فمن طرف هو نصر مبين بالنسبة لإيران، التي أجبرت الشيطانين “الأكبر والأصغر”، أمريكا واسرائيل، على قبول إيقاف الحرب. وذلك جراء القصف العنيف الذي تعرضت له الداخل الإسرائيلي بالإضافة لقاعدة العيديد في قطر. ولكن من طرف آخر احتفلت به إسرائيل أيضاً على أنه نصر تم من خلاله القضاء على البرنامج النووي والصاروخي الإيراني وكذلك قتل عشرات العلماء وضباط الصف الأول في القيادة الإيرانية. بالإضافة لحالة الدمار التي يفتخر بها كل طرف بما أوقعه في الطرف الآخر.

وبين ايران المنتصرة وإسرائيل المنتصرة، يطل علينا السيد ترامب المنتصر هو أيضاً، حيث عمل على تدمير ثلاث محطات نووية في ايران، وكان المايسترو الذي ينسق بين الطرفين المتحاربين، كي لا يخرج أي طرف عما هو مرسومومخطط له. ووفق منطقه بات يستحث جائزة نوبل للسلام.

بين كل هؤلاء المنتصرين يبقى الشعب الذي لا صوت له ولا متحدث باسمه في جعجعة الأسلحة وصوت الانفجارات وهلع التسرب الإشعاعي. كان الشعب والمدنيين في كِلا الطرفين هم من كان يدعي من قلبه كي تتوقف هذه الحرب العبثية والتي لا ناقة لهم فيها ولا جمل. وحدها هي الأنظمة الشمولية والمستبدة (دينية كانت أم قومية)، لا تعير أي اهتمام لشعوبها وكل همها هو استمرار سلطتها وهيمنتها. ولكن تتناسى هذه الأنظمة أن الحل الوحيد لا يمكن أن يكون عبر أزيز الرصاص وصوت الانفجارات، بل من خلال السلام وبناء المجتمع الديمقراطي والاحترام وبناء الثقة بين الشعوب.

ما نراه اليوم في الصراعات الإقليمية من إعلان كل طرف عن “انتصاره” على الآخر، حتى في ظل الخسائر المتبادلة، يندرج ضمن هذه السيكولوجية. في غياب محاسبة ديمقراطية حقيقية، لا تملك الأنظمة المستبدة ترف الاعتراف بالهزيمة، لأن ذلك يهدد أسس شرعيتها ووجودها. لذلك، يصبح التلاعب بالحقائق وصناعة “الانتصار” ضرورة قصوى للحفاظ على تماسك الجبهة الداخلية ومكانة القيادة. هذه السيكولوجية تضمن بقاء النظام، لكنها غالبًا ما تأتي على حساب الحقيقة والتطور المجتمعي، وتخلق شعوبًا تعيش في عالم موازٍ من المعلومات والادعاءات.

to top