الجمعة 3 أكتوبر 2025
القاهرة °C

الكاتب والمفكر السوري محمد أرسلان يكتب : منحونا الجولاني وأخذوا الجولان: تراجيديا السيادة في سوريا

الحدث – بغداد

يمثل انهيار نظام بشار الأسد في 8 ديسمبر 2024 لحظة تاريخية مفصلية، ليس فقط لإنهائه صراعاً دام اثني عشر عاماً، بل لكونه تزامن مع إعادة تشكيل دراماتيكية للخارطة الجيوسياسية السورية. ففي الوقت الذي كانت فيه قوات المعارضة تسيطر على دمشق، وتجبر الرئيس السابق على الفرار إلى موسكو، كانت القوات الإسرائيلية تستغل الفراغ الأمني والعسكري لتوسيع سيطرتها على المنطقة العازلة المتاخمة لهضبة الجولان المحتلة. هذا التزامن أفرز مفارقة تراجيدية: فازت المعارضة بالمركز السياسي للدولة (دمشق) لكن الدولة المنهارة خسرت جزءاً إضافياً من سيادتها الفعلية في نفس اللحظة.  

أن صعود القيادة الجديدة المتمثلة في رئيس السلطة المؤقتة أحمد الشرع (أبو محمد الجولاني)، لم يكن مجرد نتيجة لانتصار عسكري، بل كان جزءاً من تبادل جيوسياسي ضمني. حيث أن القوى الإقليمية والدولية سمحت للسلطة الانتقالية، التي يقودها فاعل من غير الدول ذو خلفية إسلامية جهادية سابقة (هيئة تحرير الشام)، بتأمين الحكم الداخلي في مقابل التخلي أو التغاضي استراتيجياً عن قضايا السيادة الخارجية الحساسة، وعلى رأسها قضية الجولان. هذه المفارقة تُلخصها مقولة “أعطونا الجولاني وأخذوا الجولان”، والتي تعبر عن تقايض للسيادة حيث يتم تسليم الأرض الاستراتيجية لضمان البقاء السياسي.  

بعد الانهيار مباشرة، وجد أبو محمد الجولاني (أحمد الشرع) نفسه أمام تحديات وجودية جديدة، تمثلت في الانتقال من قائد عسكري لجماعة مصنفة إرهابياً من قبل الولايات المتحدة، إلى رئيس فعلي لسلطة انتقالية تدير شؤون دولة منهارة. وضع الشرع نفسه كـ “وجه لسوريا الجديدة”، وألقى خطاباً في الجامع الأموي بدمشق تعهد فيه بحماية الأقليات والسعي للحكم الرشيد والمصالحة.  

يواجه الغرب ودول الجوار مأزقاً: فمن جهة، هناك حاجة ملحة للتعامل مع الواقع الجديد لتجنب تفاقم الأزمة الإنسانية، ومن جهة أخرى، هناك تحفظ عميق تجاه الخلفية الإرهابية للقيادة الجديدة. هذا المأزق يفرض شروطاً غير معلنة للقبول الإقليمي والدولي على السلطة الانتقالية.  

الاستنتاج التحليلي هو أن السلطة الانتقالية مجبرة على تقديم “عقود حسن نية” لتهدئة المخاوف الإقليمية. هذا الالتزام بإظهار الاستقرار والأمن وتجنب أي صراع إقليمي هو الثمن الذي تدفعه دمشق للحصول على إذن ضمني بالتركيز على البناء الداخلي. هذا الاستعداد للبراغماتية والتنازل عن المواقف القومية المتشددة هو ما يفتح الباب أمام تقبل الخسائر السيادية الخارجية (الجولان) كجزء من عملية ترسيخ الشرعية الداخلية.

تعد هضبة الجولان منطقة استراتيجية حيوية لسوريا، ليس فقط لأهميتها العسكرية، بل لكونها تضم مصادر مائية حاسمة تغذي نهر الأردن والحاصباني. احتل ثلثا الهضبة من قبل إسرائيل في عام 1967، وتم ضمها فعلياً في عام 1981، وهي خطوة لا يعترف بها المجتمع الدولي باستثناء الولايات المتحدة. قبل انهيار 2024، كانت المنطقة المتبقية خاضعة لاتفاق فك الاشتباك لعام 1974، والمعروفة بالمنطقة العازلة (UNDOF).  

كانت اللحظة التي فر فيها الأسد وسقطت فيها دمشق بمثابة نافذة فرصة جيوسياسية لإسرائيل. ففي 8 ديسمبر 2024، استغلت إسرائيل الفراغ الأمني والعسكري لغزو المنطقة العازلة في جنوب غرب سوريا، المتاخمة للجولان المحتل. كانت هذه العملية استكمالاً لحملة جوية مكثفة بدأت في أكتوبر، ولكنها اشتدت بشكل كبير في ديسمبر.  

تمكنت القوات الإسرائيلية من السيطرة على المنطقة العازلة بالكامل، والتي تقدر مساحتها بنحو 400 كيلومتر مربع. شمل التوسع السيطرة على مواقع حيوية مثل القنيطرة، خان أرنبة، سد الوحدة، والجزء السوري من جبل الشيخ. أقر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو بأنه أمر بالاستيلاء على هذه المنطقة فور سقوط حكم الأسد. هذا التوقيت لا يشير فقط إلى استغلال ظرفي، بل إلى عملية مخططة للاستفادة القصوى من “فراغ السلطة” الناتج عن انهيار النظام.  

كان الهدف الإسرائيلي المزدوج هو تصفية التهديد الاستراتيجي وتوسيع الرقعة الجغرافية. في الأيام التي تلت سقوط دمشق، كثفت إسرائيل هجماتها، مستهدفة بشكل منهجي المنشآت العسكرية الاستراتيجية السورية مثل المطارات، ومواقع إنتاج الأسلحة، وأنظمة الصواريخ في دمشق وحمص واللاذقية وطرطوس.

بالرغم من الإدانة الدولية للتوغل في المنطقة العازلة باعتباره انتهاكاً للقانون الدولي، إلا أن الرد الفعلي من القوى الكبرى كان محدوداً للغاية، مما يعكس أولويتها في منع الفوضى والتركيز على مفاوضات المرحلة الانتقالية في دمشق. بالنسبة للسلطة السورية الجديدة، كان الرد حذراً للغاية. فقد أعلن الرئيس الفعلي أحمد الشرع أن سوريا “تظل ملتزمة باتفاق 1974 ولا تسعى للصراع مع إسرائيل أو أي دولة أخرى”. هذا التصريح، الذي تزامن مع استمرار سيطرة إسرائيل للأراضي، يمثل اعترافاً ضمنياً بالواقع الجغرافي الجديد.  

إن تزامن صعود السلطة الانتقالية مع توسيع الاحتلال الإسرائيلي ليس مجرد مصادفة تاريخية، بل هو مؤشر على تفعيل صفقة جيوسياسية غير معلنة. يؤكد تحليل مؤسسة كارنيغي أن “تجاهل الجولان يشير إلى أكثر من مجرد أزمة سيادة”، بل يكشف عن “مقايضة ضمنية: التخلي عن الأرض مقابل الشرعية السياسية”.  

في هذه المعادلة، يتم التضحية بالقضية السيادية الخارجية لصالح الأجندة الإقليمية التي تهدف إلى “تثبيت نظام استقرار” تضمنه القوى الكبرى. إن خطاب الشرع الذي يعلن فيه التزام دمشق باتفاقيات فك الاشتباك وعدم رغبتها في الدخول في صراع إقليمي، بينما يتم ترسيخ الاحتلال، هو الثمن المدفوع للحفاظ على القبول الضمني لوجود سلطة انتقالية يقودها فاعل غير دولتي ذو خلفية إسلامية.  

لفهم لماذا وافقت القيادة الجديدة على هذا التبادل الضمني، يجب تحليل المنطق السببي الذي يحكم أولوياتها في مرحلة ما بعد الانهيار. حيث بالنسبة لسلطة ناشئة ذات جذور مثيرة للجدل وتدير دولة منهارة، فإن الأولوية القصوى هي تثبيت السيطرة الداخلية، ومنع انهيار الدولة إلى فوضى شاملة. إن الانخراط في صراع عسكري خارجي لاستعادة الأراضي، خاصة ضد قوة إقليمية كبيرة، يعتبر رفاهية غير متاحة أو تهديداً وجودياً للاستقرار الداخلي. هذا يفرض “صمتاً استراتيجياً” على قضية الجولان.  

وكذلك تتطلب استراتيجية الجولاني (الشرع) لإزالة تصنيف HTSكمنظمة إرهابية  إثبات أنها فاعل “دولة مسؤول” لا يشكل تهديداً إقليمياً. إعلان عدم السعي للصراع مع إسرائيل هو التزام قدمته دمشق لتهدئة المخاوف الأمنية الإسرائيلية والغربية. هذا الالتزام يسهل على الدول الغربية تقديم إعفاءات من العقوبات أو البدء في التعامل البراغماتي مع السلطة الانتقالية.  

لم يكن هدف القوى الكبرى، وخاصة الولايات المتحدة والغرب، بعد سقوط الأسد، هو استعادة السيادة السورية على كامل التراب، بل كان منصباً على منع ظهور “فوضى الجهاديين” بعد الانهيار، واحتواء النفوذ الإيراني، وضمان أمن إسرائيل. وفي هذا الإطار، كان القبول البراغماتي بوجود فاعل غير دولتي ذي جذور جهادية (الجولاني) في دمشق، يمثل تضحية بأحد مبادئ مكافحة الإرهاب، ولكنه تم تبريره باسم “استراتيجية الاستقرار”.

وبالتالي، فإن السماح لإسرائيل بتصفية المنطقة العازلة وتدمير القدرات العسكرية السورية المتبقية، كان جزءاً من “ثمن القبول” الذي دفعته السلطة الجديدة. لقد تبادلت دمشق الصمت الاستراتيجي على توسيع الاحتلال الخارجي مقابل فرصة لترسيخ سلطتها داخلياً، مما يؤكد الطبيعة المتقايضة لسيادة سوريا ما بعد الأسد.  

تؤكد الأحداث التي تلت سقوط نظام الأسد في ديسمبر 2024 على أن الساحة السورية أصبحت مسرحاً لتراجيديا جيوسياسية غير مسبوقة. ففي لحظة انتصار المعارضة وسقوط المركز، حدثت خسارة سيادية نهائية. لقد نال الجولاني “الحكم” الداخلي الهش في دمشق عبر حكومة تسعى للشرعية، بينما خسرت الأمة السورية “الأرض” السيادية في الجولان، الذي تحول إلى صفحة مطوية في تاريخ الصراع الإقليمي.  

يشكل القبول الضمني بخسارة الأراضي تحدياً خطيراً لشرعية السلطة المؤقتة على المدى الطويل. كيف يمكن لحكومة أن تدعي تمثيل السيادة الوطنية بينما تتنازل أو تصمت عن الاحتلال العسكري اللاحق لأراضيها؟ هذا الموقف، وإن كان براغماتياً في ظل انهيار الدولة، فإنه قد يؤدي إلى إضعاف الدعم الشعبي والسماح ببروز سرديات مضادة للشرعية في المستقبل. إن التنازل عن قضايا السيادة يهدد بتعميق حالة “السيادة الممزقة” التي ورثتها القيادة الجديدة.

والكل متأكد أن الجولاني (احمد الشرع) لم يصل لدمشق بإرادته وقواته المتطرفة، بل لعبت التفاهمات الإقليمية والدولية دوراً كبيراً في إيصال الجولاني إلى مشق. فإن القوى الإقليمية والدولية منحونا الجولاني، وأخذوا مننا الجولان. فيا ليت على هذه القوى وهي نصيحة مواطن فقير مفادها (خذوا جولانكم الجولاني-الشرع” وردّوا لنا جولاننا “الجغرافيا”).

to top