الثلاثاء 24 يونيو 2025
القاهرة °C

المفكر الكردي محمد أرسلان علي يكتب : مطرقة المماطلة وسندان الصبر: كيف يواجه أوجلان تسويف أردوغان؟

الحدث – بغداد

منذ بداية تشكل منطق الدولة والسلطة واعتلاء المستبدين عرشها، ولا زالوا ممسكين بسلاح الترغيب عبر التسويف والمماطلة أو الترهيب عبر الاعتقال والتهجير، لإدامة حكمهم واستمراريتها طالما هم على قيد الحياة. في وقت هم أنفسهم يعتبرون أنفسهم من الخالدين وأن الموت لن يعرف طريقه إليهم. هكذا كان فرعون حينما “طغى”، وأرسل الله عليه موسى وهارون. ولا زالت تراجيديا مسلسل الطغاة مستمراً حتى يومنا هذا وبنفس الأسلوب والأدوات والمنطق والنهاية أيضاً. وهكذا نرى أن التاريخ يكرر نفسه مرات ومرات ولا أحد من الطغاة يتعظ ويعتبر من قصص القرآن، وهذا ما يؤكد أن معظم الطغاة هم للقرآن حافظون ولكنهم غير مدركين له وهجروه، وهو ما أكده الله في محكم تنزيله العزيز: ﴿وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآَنَ مَهْجُورًا﴾، [الفرقان: 30- 34].

نداء السيد أوجلان الذي أطلقه في نهاية شهر شباط والموسوم بـ “السلام والمجتمع الديمقراطي”، والذي أراد من خلاله إيقاف مسلسل العنف المكرر والمستمر منذ عقود أربعة وأكثر. مع أنه ليست المرة الأولى التي سعى فيها أوجلان لوقف الحرب عبر مبادرات وقف إطلاق النار من جانب واحد منذ عام 1993 وحتى الآن. ومرّت شهور أربعة تقريباً على نداء أوجلان ولكننا نرى أن الحكومة التركية والمتمثلة بالسيد أردوغان تتقرب بحذر شديد وكأن الأمر لا يعني تركيا بالدرجة الأولى. ويحاولون عبر الحرب النفسية الخاصة زرع البلبلة والفوضى والاشاعات في عقول الناس وذلك عبر الاعلام المحلي أو الإقليمي والمطالبة بأن ينزع العمال الكردستاني السلاح وإن رغبوا فليذهبوا لإحدى الدول الأوروبية. مع العلم أن هذا الأمر لم يتم النقاش عليه لا من قريب ولا من بعيد. وحتى أن السيد أوجلان من خلال نداءه وكذلك العمال الكردستاني من خلال المؤتمر الثاني عشر الذي عقده بطلب من أوجلان، أعلن عن حلّ نفسه والانتقال من مرحلة الكفاح المسلح نحو النضال السياسي. ولم يقول أو يفصح أي طرف عن عملية ترك أو نزع السلاح. ولكنها تركيا التي تريد جرّ الناس لأمور ثانوية بدلاً من التركيز على الأمور الأساسية.

لطالما كانت المماطلة والتسويف أداة أساسية في ترسانة الأنظمة الاستبدادية. عندما ترتفع أصوات الشعوب مطالبة بالحرية والعدالة والكرامة، لا يلجأ المستبد دائماً إلى القمع المباشر والعنيف في البداية. بل يفضل سلاحاً أكثر دهاءً ومكراً: الوقت. من خلال تقديم وعود غامضة، وتشكيل لجان لا نهاية لها، وإطلاق حوارات شكلية، يسعى النظام إلى شراء الوقت، أملاً في أن يفتر حماس الشارع، وينقسم الشعب، ويحل اليأس محل الأمل.

يضع هذا التكتيك السيد أوجلان والعمال الكردستاني أمام معضلة وجودية: في هل يجب المضي في التصعيد والمخاطرة بزعزعة استقرار المجتمع وانزلاقه نحو الفوضى والحرب مرة أخرى، أم يجب التحلي بـ “الصبر من أجل بناء المجتمع الديمقراطي”، وإعطاء فرصة للحلول السلمية، مع المخاطرة بأن يكون هذا الصبر غطاءً لأردوغان ليعيد ترتيب أوراقه ويجهز لضربة قاضية؟

إن تسويف أردوغان بشكل عام وأزلامه في سوريا أيضاً يسيرون على نهجه في تقربهم من الاتفاق الذي تم ما بين الشرع والجنرال، وهو ليس مجرد رد فعل عشوائي، بل هو استراتيجية مدروسة بعناية تهدف إلى تحقيق عدة أهداف متداخلة. وأولها هو استنزاف طاقة الحراك الشعبي السلمي. حيث تعتمد الثورات والانتفاضات على الزخم والأمل. ومع مرور الأسابيع والشهور دون تحقيق أي إنجاز ملموس، يبدأ الشعور بالإحباط في التسرب إلى النفوس. ويبدأ الناس في التساؤل: “هل ما نفعله مجدٍ؟”، “هل نحن نضحي بلا طائل؟”. هذا هو اليأس الذي يراهن عليه أردوغان ليدفع الناس إلى قبول الأمر الواقع.

وكذلك اللجوء إلى الحوارات العقيمة، والدعوة تشكيل لجان وإلى طاولات حوار لا تملك أي صلاحيات حقيقية، ويحرص على إشراك شخصيات محسوبة عليه لتشتيت المطالب وتمييعها. الهدف هو إغراق الحراك الشعبي في تفاصيل إجرائية لا تنتهي، وتحويله من قوة ضغط في الشارع إلى أطراف متنازعة في غرف مغلقة. وبالتوازي مع المماطلة، تعمل الآلة الإعلامية للنظام على بث الفرقة والشكوك داخل الحراك الشعبي، متهمة قادته بالعمالة للخارج أو بوجود أجندات خفية. هذا التكتيك يهدف إلى كسر الثقة بين الشعب وقياداته، وتفتيت الوحدة التي هي مصدر قوته. حيث إن جوهر مماطلة المستبد هو تحويل الثورة من معركة “إرادة ضد إرادة” إلى معركة “صبر ضد زمن”. هو يعلم أن الزمن، إذا تُرك ليعمل لصالحه، سيؤدي حتماً إلى تآكل الإرادة الشعبية.

وثانيها: زرع الانقسام وتفتيت الصفوف عبر اللعب على عنصر الوقت الذي يشتريه النظام ويستخدمه بذكاء لشق الصف الواحد. يتم تسريب معلومات حول مفاوضات سرية مع طرف معين، أو تقديم تنازلات طفيفة ترضي شريحة من المجتمع دون أخرى. هذا يخلق حالة من انعدام الثقة بين القائمين على مرحلة السلام والأحزاب السياسية المعنية بالأمر، ويحول النقاش من “كيف نغير من عقليةالنظام؟” إلى “من منا على حق؟”.

وثالثها إعادة ترتيب القوة الأمنية والعسكرية والتي تتم خلف كواليس الحوارات والوعود، وتعمل أجهزة الدولة القمعية على مدار الساعة. يتم تعزيز المواقع الأمنية، وتحديد قادة الحراك الميدانيين لاعتقالهم في الوقت المناسب، ونشر شبكات من المخبرين، وتجهيز القوات لسيناريو القمع الشامل عندما يرى النظام أن اللحظة مواتية. وكذلك تغيير الرواية وكسب الشرعية الزائفة عبر استخدام النظام إعلامه الرسمي وآلته الدعائية لتصوير نفسه على أنه صوت العقل والحكمة، بينما يصور الطرف الآخر على أنهم مجموعة من الفوضويين أو العملاء للخارج، وأنه ثمة انشقاق بينهم ولا ينصتون لقائدهم. كل يوم يمر دون استجابة حقيقية للمطالب هو فرصة إضافية لترسيخ هذه الرواية في أذهان “الأغلبية الصامتة” والمجتمع الدولي.

بكل تأكيد أن السيد أوجلان يدرك كافة الألاعيب التركية الحالية والعثمانية القديمة، ويعلم جيداً كيف يتعامل مع هكذا شخصيات سلطوية وهمَّ لها سوى أنانيتها وفردانيتها السلطوية ولو على حساب المجتمع ووحدة البلاد. في مواجهة هذه الاستراتيجية، سيقول لنا أوجلان أنه ينبغي على الحركات الثورية والشعبية أن تتسلح بالصبر. الصبر قد يُفهم على أنه ضعف، والتصعيد قد يؤدي إلى كارثة. منطق “الصبر من أجل بناء المجتمع الديمقراطي”، حيث ينبع هذا المنطق من حس عالٍ بالمسؤولية الوطنية. يخشى الكثيرون، وهم على حق، من أن التصعيد غير المحسوب قد يؤدي إلى تجدد المعارك وفتح طريق الحرب، ويفتح الباب أمام تدخلات خارجية. هذا الصبر ليس جبناً، بل هو محاولة للحفاظ على بنية الحركة ومؤسساتها وتجنيب الأجيال القادمة مستقبلاً مجهولاً. وبنفس الوقت ثمة مخاطر للصبر السلبي، الخطر يكمن في تحول الصبر الاستراتيجي إلى سلبية واستسلام. عندما يرى النظام أن وعوده الفارغة كافية لتهدئة الشارع، فإنه لن يقدم أي تنازل حقيقي. يصبح الصبر هنا بمثابة ضوء أخضر للنظام للمضي قدماً في خطته لاستعادة السيطرة الكاملة، وتوجيه ضربته القاضية للطرف الآخر.

السؤال الذي يطرح نفسه في هذه اللحظة هو كيف يمكننا مواجهة التسويف وكيف نجبر المستبد على العمل والانصياع لمطالب الشعب والشروع في التحول الديمقراطي؟ لتجريد أردوغان أو المستبدين بشكل عام من سلاح الوقت، ينبغي على الحركات الثورية والديمقراطية أن تتبنى استراتيجيات تجمع بين الصبر الاستراتيجي والضغط المستمر والذكي. الهدف هو جعل تكلفة المماطلة أعلى من تكلفة الاستجابة للمطالب.

والنقطة الهامة الأخرى هي استدامة الضغط وتنويع أساليبه، وهنا يجب ألا يتوقف الضغط أبداً. بدلاً من المظاهرات المليونية المتقطعة، يمكن اعتماد أشكال متنوعة ومستمرة من العصيان المدني المتنوع. هذا التنوع يجعل من الصعب على النظام قمع كل شيء، ويبقي القضية حيّة في الوعي العام. والنقطة الهامة هي أن الحركة التحررية الكردستانية وعبر تجاربها في نضالاتها ضد تركيا تمتلك رصيد هائل جداً من التجارب المتراكمة والمتنوعة في كيفية الضغط على النظام التركي كي ينصاع للسلام. حيث أن الحركات الثورية عظيمة في إشعال الحماس في قلوب الشعب. بهذا ينبغي تشكيل لجان ميدانية وسياسية وقانونية وإعلامية واضحة، تعمل بشكل منسق وتتخذ قرارات جماعية. هذا الهيكل يمنع تشتت الجهود ويصعب على النظام اختراق الحراك أو شق صفوفه. ولا يمكن التغاضي عن أهمية الحرب الإعلامية وفضح المماطلة، ويجب إنشاء منصات إعلامية بديلة وقوية تفضح وعود النظام الكاذبة بشكل ممنهج. يمكن إنشاء “تقويم للمماطلة” يوثق كل وعد قطعه النظام والتاريخ المحدد لتنفيذه، وعندما لا يتم الوفاء به، يتم نشره على أوسع نطاق لإظهار عدم جديته.

والنقطة الهامة الأخيرة هي بناء أوسع تحالف ديمقراطي مجتمعي محلي واقليمي ودولي ممكن، ويجب ألا يقتصر الحراك على الشباب أو النخب، بل يجب أن يمتد ليشمل العمال والنقابات المهنية والتجار ورجال الدين وحتى الموظفين. وكذلك الاكاديميين والسياسيين والديمقراطيين والاعلاميين من مختلف الدول، وكلما اتسع التحالف، زادت شرعية المطالب وصعب على النظام استخدام القوة المفرطة ضد “الشعب كله”.

والعبرة هي كيف يمكننا تحويل الصبر إلى قوة؟ حيث إن المعركة ضد عقلية أردوغان في التسويف والمماطلة هي في جوهرها معركة إرادات ومعركة بناء مجتمع ديمقراطي على حساب الدولة القومية، وما بين سلطة الدولة وبين إدارة المجتمع. لا يوجد حل سحري أو طريق مختصر. المفتاح هو في تحويل “الصبر من أجل السلام والمجتمع الديمقراطي” من حالة انتظار سلبية إلى فترة من البناء والتنظيم والضغط الذكي. يجب على الشعوب أن تثبت لأردوغان وللعالم أنها ليست مجرد موجة غضب عابرة، بل هي مشروع مجتمعي وفلسفي ووطني متكامل ومستمر، يمتلك نفساً طويلاً وقدرة على التحمل تفوق قدرة النظام على المماطلة. حيث يعتمد هذا المشروع على تكامل الشعوب مع بعضها البعض لتحقيق الحياة في الأمة الديمقراطية على أساس التعايش المشترك بين كافة الاثنيات والمذاهب والطوائف والأعراق. عندما يدرك أردوغان أنه كلما مر يوم زادت قوة خصمه وتنظيمه، وليس العكس، عندها فقط سيبدأ في البحث عن مخرج حقيقي، وسيُجبر على الإنصات لصوت الشعبالتواق للحرية.

في نهاية المطاف، المعركة ضد تسويف المستبدين هي سباق ماراثون وليست عدواً لمسافة قصيرة. إنها حرب استنزاف نفسية وسياسية، لا ينتصر فيها الطرف الأقوى عسكرياً بالضرورة، بل الطرف الأكثر صبراً وتنظيماً وإبداعاً. إن الفرق بين الصبر الذي يؤدي إلى النصر والصبر الذي ينتهي بالهزيمة يكمن في العمل. فالصبر السلبي هو مجرد انتظار، أما الصبر الإيجابي فهو عمل دؤوب، وتخطيط مستمر، وتراكم للقوة بهدوء وثقة. وهو قبل كل شيء ثورة ذهنية تعمل على التحرر من الموروثات الماضوية التي تعيق تحرر الانسان والتشبث بوعي الحرية والديمقراطية.

عندما يدرك الشعب أن صبره ليس ضعفاً بل استراتيجية، وأن وحدته هي سلاحه الأمضى، وأن إبداعه قادر على تحويل كل عقبة إلى فرصة، عندها فقط يُجرد أردوغان من سلاح المماطلة، وإخراج الشعب من تحت مطرقة المماطلة، ويُجبر على الاستماع لصوت نداء السلام والمجتمع الديمقراطي الذي أطلقه السيد أوجلان، أو يواجه مصيراً لا يختلف عن مصير كل الطغاة الذين سبقوه.

to top