الحدث – بغداد
يطرح التساؤل حول إمكانية مقارنة نهاية حكم الشاه محمد رضا بهلوي والوضع الراهن للجمهورية الإسلامية في إيران نفسه بقوة، خاصة مع تزايد التحديات الداخلية والخارجية التي تواجهها طهران اليوم. ورغم أن التاريخ لا يعيد نفسه بحذافيره، إلا أن عقد مقارنة بين الحقبتين يكشف عن أوجه تشابه واختلاف جوهرية قد تساعد في فهم أعمق للمشهد الإيراني المعاصر.
إن وصول الإمام الخميني إلى طهران على متن طائرة فرنسية عام 1979 لم يكن مجرد حدث عابر، بل كان رمزا لنهاية حقبة وبداية أخرى، ويشير إلى تضافر عوامل داخلية ضاغطة مع متغيرات دولية سمحت بهذا التحول الدراماتيكي.
أوجه التشابه كثيرة وبذور السخط تتجدد. حيث يمكن رصد عدة نقاط تشابه بين العوامل التي أدت إلى سقوط الشاه والتحديات التي تواجه النظام الحالي، ومن أبرزها السخط الاقتصادي. حيث في أواخر عهد الشاه، ورغم الطفرة النفطية، عانت فئات واسعة من الشعب من التضخم والبطالة وتوزيع غير عادل للثروة. الفجوة بين طبقة ثرية مرتبطة بالنظام وعامة الشعب كانت آخذة في الاتساع. اليوم، تواجه إيران وضعا اقتصاديا أكثر حرجا بفعل العقوبات الدولية المشددة، وسوء الإدارة، والفساد المستشري، مما أدى إلى تدهور قياسي في قيمة العملة، وارتفاع معدلات التضخم والبطالة، وتآكل الطبقة الوسطى، وهو ما يغذي الاحتجاجات الدورية. وكذلك يمكن عدّ القمع وغياب الحريات السياسية عاملا مهماً. حيث اتسم نظام الشاه بالاستبداد، واعتمد على جهاز “السافاك” (الشرطة السرية) لقمع أي معارضة سياسية. لم يكن هناك مجال حقيقي للمشاركة السياسية أو حرية التعبير. في المقابل، ورغم وجود واجهة ديمقراطية متمثلة في الانتخابات، إلا أن السلطة الحقيقية تتركز في يد المرشد الأعلى والمؤسسات غير المنتخبة كالحرس الثوري. يتم قمع المعارضة بشتى أشكالها، وتفرض قيود صارمة على الحريات المدنية والاجتماعية، لا سيما على النساء والشباب، مما يخلق حالة من الاحتقان الشديد. والنقطة الثالثة المهمة هي القطيعة مع الشباب. حيث منذ السبعينيات، شعر جيل الشباب الإيراني بالاغتراب عن نظام الشاه الذي بدا لهم غربيا ومستلبا ثقافيا، بينما كانوا يتوقون إلى هوية أكثر أصالة. حاليا، يشعر جيل الشباب الإيراني الجديد، الذي لم يعرف سوى حكم الجمهورية الإسلامية، بقطيعة عميقة مع الأيديولوجية الرسمية للنظام. هم أكثر ارتباطا بالعالم الخارجي عبر الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي، وتطلعاتهم نحو الحرية الشخصية والانفتاح تتعارض بشكل مباشر مع قيم النظام الحاكم.وأهم نقطة هي وضع المرأة وفرض شكليات التدين عليها، مع أن بنية النظام مرنة في هذا الأمر بشكل كبير، إلا أنه يمكن للنظام في الوقت الحالي اتخاذ هذا الامر كذريعة لفرض سلطته على المجتمع من خلال المرأة. وما مقتل “همسا أميني“ والتي اشعلت ثورة في ايران إلا دليل على أن المرأة أكبر طبقة جاهزة للتغيير. طبعا مع وجود طبقة لا يستهان بها من النساء اللواتي رضين بأن تستمر حياتهن خلف الوشاح أو الحجاب الأسود الديني.
إن المقارنة بين نهاية عصر الشاه والوضع الحالي في إيران تكشف أن البلاد تقف بالفعل عند مفترق طرق حاسم. عوامل السخط الشعبي من اقتصاد منهار وقمع سياسي واجتماعي تتشابه بشكل لافت مع ما حدث في أواخر السبعينيات. ومع ذلك، فإن طبيعة النظام الحالي الأكثر تماسكا من الناحية الأيديولوجية والعسكرية، إلى جانب تشتت المعارضة، تجعل من الصعب توقع نهاية مشابهة لما حدث للشاه.
يبقى مستقبل إيران مفتوحا على كافة الاحتمالات، ولكن من الواضح أن استمرار الوضع الراهن على ما هو عليه يصبح أكثر صعوبة يوما بعد يوم، وأن النظام يواجه تحديا وجوديا لا يقل خطورة عن ذلك الذي أطاح بسلفه. وما الحرب الدائرة الآن سوى لكسر إرادة الطرف الآخر الذي لا يريد التنازل عن حقه في الهيمنة على المنطقة. فهذه الحرب بين ايران وإسرائيل لربما تتسع أكثر في قادم الأيام وتتدخل أمريكا والناتو لمساعدة إسرائيل، وفرض هيمنتهم على المنطقة ولو بالقوة وآخر التكنولوجيا العسكرية التي تم اختراعها والتي تفتقدها إيران.
بالنظر إلى تاريخ إيران عبر التاريخ، نرى أنه لم يستطع أحد احتلالها أو كسر هيمنتها إلا اليونانيين، حينما قام الاسكندر واحتل المنطقة، وكان هذا قبل الميلاد ويمكن اعتباره أول تدخل غربي في منطقة الشرق الأوسط. وكذلك دخول الإسلام إلى إيران بعد معركة القادسية، لكن الفرس استعادوا الهيمنة من خلال الخلافة العباسية بعد ذلك. ومنذ ذاك التاريخ وإيران بقيت امبراطورية ومملكة تُدير نفسها حتى راهننا بأسماء متعددة. ورغم أنها عاشت المدّ والجزر، إلا أنها بقيت قائمة كنظام له هيمنته على المنطقة، ويحسب له ألف حساب. وبكل تأكيد يمكننا القول إن تقاليد الدولة الإيرانية لا تقبل التحجيم إلى الحدود الدنيا بسهولة. بل حتى إنّ الملكية الإيرانية في العصر الحديث أيضا قاومت التحجيم إلى الحدود الصغرى أكثر من الجمهورية التركية أو الدول العربية التي قبلت التقسيم. فقد اتّخذت الثورة الإسلامية الإيرانية 1979 موقفاً مهماً إزاء نظام التوازن وتحجيم الدول القومية، التي خطّت حدودها المعنية بمنطقة الشرق الأوسط، إلى الحدود الدنيا. كما فرضت نفوذ ها منذ البداية ضد الهيمنة الإسرائيلية. ورغم قبول الجمهورية التركية والدول القومية العربية بشرعية نظام الدولة القومية، الذي مكّن من وجود إسرائيل، إلا إنّ الثورة الإسلامية الإيرانية –ورغم عدم ثباتها– لم تقبل بالوضع المرسوم كما هو. بل شرعت تبذل جهودها لتكوين هيمنةٍ مضادة. لذا، فالتوتر الملاحظ في راهننا بين إيران وإسرائيل لا يجري بين دولتين قوميتين وحسب. بل ويجري بين نظامي قوتين تعملان على بسط نفوذهما.
يمكن اعتبار إيران ثاني قوةٍ تعمل على بسط الهيمنة في المنطقة. وأعيد بناء الدولة الإيرانية، التي جلست على عرشها بضع سلالات، بعد الحرب العالمية الأولى كدولةٍ قوميةٍ حديثة، أفرزتها حسابات إنكلترا في الهيمنة. فإنكلترا التي حجّمت الجمهورية التركية وإيران في هذه الفترة، قامت بهيكلة وتأسيس كلٍّ منها كدولةٍ قوميةٍ عازلةٍ أمام توسع روسيا الاتحادية. أما سلالة الشاه رضا، فطبّقت منهاج حداثةٍ تقلّد الغرب، وتبتعد عن تقاليد الثقافة الإيرانية. وقد دارت المساعي للحفاظ عليها صامدة كنظامٍ تابعٍ لإنكلترا ثم لأمريكا، بل وحتى لإسرائيل. وقد بسطت أسطع صورةٍ دالّةٍ على ماهية الدولة التابعة الكامنة في الدول القومية الشرق أوسطية، مع “سلالة البهلوي” الأخيرة. فتلك الدول المرتكزة على عكّازة قوة العسكر والشرطة، قد أطيح بها بين ليلةٍ وضحاها، بمجرد أنْ رفعت القوى المهيمنة يد ها عنها. وهكذا كانت نهاية سلالة البلهوي.
ثورة عام 1979 الإسلامية الإيرانية هي ثورةٌ ثقافيةٌ بقدر ما هي سياسية. إذ لم تنتهلْ قوتها من “ثورة الكاسيت” كما تم تسميتها فحسب. بل واستقت قوتها الأساسية من الثقافة المجتمعية للشعب الإيرانيّ، والتي تكمن جذور ها في أغوار التاريخ. كانت الثورة في بداياتها ذات طابعٍ وطنيٍّ ديمقراطيّ. وكانت تستند إلى تحالفٍ فسيحٍ للقوى الوطنية الديمقراطية. أي إنّ الفضل في النصر يعود أساسا إلى تحالف الشعوب الإيرانية المختلفة، والذي نبع من التعاضد الفسيح للشرائح الوطنية من أبناء مختلف الشعوب الإيرانية، وفي مقدمتهم الشيوعيين والشيعة القوميين والكرد. لكنّ فريق العلماء الشيعة والشريحة الوسطى من التجار والبرجوازيين، والذين يتمتعون بتقاليد تاريخيةٍ واجتماعيةٍ أقوى في حقل الإدارة، أسّسوا هيمنتهم في غضون فترةٍ وجيزة، وسحقوا حلفاء هم الآخرين بلا رحمة. ورغم تحريف أرضية المقاومة الشعبية تلك للثورة على يد القادة والعلماء الشيعة، إلا إنه كان يشكّل في صلبه اختلافا يشذّ عن الحداثة الرأسمالية. وقد سعت الأوليغارشية الشيعية إلى استخدام هذا الزخم من الإرث المناوئ للرأسمالية، والذي يتسم بمعانٍ تاريخيةٍ وثقافيةٍ جدّ عظيمة، وتوظيفه كورقةٍ بيدها لشرعنة وجودها حيّال قوى النظام الرأسمالي الغربي.
ورغم طرح المزاعم على صعيد القول بالأغلب، إلا إنّ الأوليغارشية الإيرانية بدأت في راهننا بخوض صراعٍ ضد إسرائيل بشأن بسط الهيمنة على الشرق الأوسط. ونخصّ بالذّكر أنها تعمل على استخدام أنشطتها النووية كثاني ورقة ضغطٍ بيدها لمآربها هذه. كما تطلّعت التقاليد الشيعية إلى الهيمنة تاريخيا أيضا. فهي تسند ظهرها إلى إيران مهيمنةٍ لآلاف السنين، وتحكم قبضتها عليها كسلاحٍ بيدها، ولكنها تغالي من قوتها في ظلّ ظروف الحداثة الرأسمالية. إلا إنّ فرصة الأوليغارشية الشيعية الإيرانية في النجاح جدّ متدنية، في حال لم تصّبّْ تركيز ها على خيار حداثةٍ جذريةٍ في عصرٍ تعولم فيه النظام القائم إلى أقصاه. حيث تقوم بحسابات تشكيل حلفٍ منفردٍ بذاته. كما تتطلع إلى توظيف سوريا على زمن النظام السابق في توسيع التحالف الذي أبرمته مع تركيا. لكنّ كلّ هذه الحسابات لا قيمة لها على الإطلاق. وعلى غرار الدول القومية الأخرى في المنطقة، فإنّ أمام الدولة القومية الإيرانية أيضا طريق حلٍّ لقضاياها العالقة على محور ين اثنين. إذ تصبّ وعود الحلّ للمحور الأول في مصبّ الوفاق مع النظام القائم، تماما مثلما هو النظام الملكيّ. في حقيقة الأمر، فالأوليغارشية الشيعية جاهزةٌ لذلك. إلا إنّ النظام لا يقبل بها كما هي. لكنّ مفاوضات الوفاق الجارية ستنتهي –دون بدٍّ– لصالح القوى الرأسمالية المهيمنة، بالسّلم كان أم بالحرب. وحينها لن يبق من إيران إلا الجغرافيا القليلة وستعمل قوى الهيمنة الرأسمالية على تقسيمها لقبائل قومية متصارعة أو طائفية متناحرة. أما في المحور الثاني، فسيتمّ الانقطاع الجذريّ عن النظام، عندما يغدو حلّ القضايا العالقة في الأجندة. وهذا ما سيكوّن حلّ العصرانية الديمقراطية الذي لا ملاذ منه، في حال باتت الأوليغارشية الشيعية وقوى الهيمنة الغربية (وعلى رأسها إسرائيل) خائرة وعديمة الحلّ. الحل الذي طرحه السيد أوجلان في مرافعاته لخروج إيران من محنتها والمأزق الذي تواجهه في حربها مع إسرائيل ومن ورائها الناتو وقوى الهيمنة الرأسمالية، ينبغي عليها تمتين الجبهة الداخلية، والتي من خلالها فقط يمكنها اغلاق الباب أمام كم التغلغل الإسرائيلي في المجتمع الإيراني وتجنيده لهم وإمداده بالمعلومات. فلسفة الأمة الديمقراطية التي لا تعتمد لا على العصبوية القومية ولا التطرف والمغالاة في الدين والطائفة. حيث يمكن لكل مكونات الشعب الإيراني بمختلف مشاربهم العيش المشترك فيما بينهم على أساس أخوة الشعوب والتعايش السلمي وفق فلسفة الأمة الديمقراطية. البعيد عن الترهيب والوعيد والاعدامات التي تتم بحق الإيرانيين.