سليمان محمود
تحدّثتِ (الشاهنامة) عن أسطورة الملك (الضحّاك) و(كاوا الحداد)، فالملكُ الآشوري كان ظالماً شريراً، لذا فقد أصابتهُ لعنةُ امتناع الشمس عن الشروق؛ وعليه لم ينبت زرعٌ أو غذاء. كما أصابتهُ لعنةٌ ثانية حين أُبتليَ بمرضٍ غريب، فنبتت على كتفيه أفعيان، وحين تكونان جائعتين فإنه يشعرُ بآلامٍ شديدة لا تهدأُ حتى يُطعمهما دماغَي طفلين في كلِّ ليلة!
تمّتِ التضحيةُ بستةَ عشرَ طفلاً من أصلِ سبعةَ عشرَ من أطفال الحدّاد كاوا، لتُطعمَ أدمغتهم لأفاعي الملك الضحّاك. وحين جاء دورُ الطفلة الأخيرة، عمدَ كاوا إلى حيلةٍ، فذبحَ خروفاً وقدّمَ دماغهُ للملك على أساس أنه دماغُ ابنته.
نجحت خطّةُ الحداد، وفرّ بابنته إلى إحدى الجبال. وحين علمَ الآخرون بخطته عملوا بها وأصبحوا يرسلون أطفالهم إلى الجبال حيثُ يوجدُ كاوا. وبعد سنين عدّة تكوّنَ لدى كاوا جيشٌ من أولئك الأطفال الذين كبروا وتدرّبوا على القتال في الجبال، فقرّرَ أ، ينزلَ بهم إلى المدينة ويقتحمَ قلعةَ الملك الضحّاك، ويتخلّصَ منه، ويخلّصَ الشعبَ من ظلمه!
وهكذا قتلَ الحدّادُ كاوا الملكَ الضحّاك، وبنى ما بين النهرين مشعلاً، أوقدهُ ناراً بلغت عنان السماء، فطهّرتِ الهواءَ من شرّ الملك الظالم، وأشرقت بعد ذلك الشمسُ، وظهرَ النماءُ وعمّ الرخاءُ.
أساطيرُ أخرى يتضمّنها الأدبُ الكرديّ، في غالبها تروي هذه القصة، حيث تختلفُ فيها الفئاتُ العمرية بين أطفالٍ أو شباب أو رجال، وبعضها فتيات. ففي روايةٍ أنّ الملكَ(زحّاك) كان فاسقاً فاجراً، يؤتى إليه كلَّ ليلةٍ بفتاة، يقضي ليلته معها ثمّ يقتلها، ففرّ الجميعُ إلى الجبال خوفاً على بناتهم، حتى جاءَ دورُ ابنة كاوا، فتنكّرَ في لباس امرأةٍ وذهبَ بدلاً عنها، وهو يُخبّئُ مطرقةً في ملابسه، وحين صار في حضرة الملك أخرجَ مطرقته وقتلهُ، ثمّ أشعلَ ناراً، داعياً الفارّين إلى العودة، مبشّراً إياهم بالخلاص من الملك الشرير.
وفي روايةٍ أخرى أنّ(أزدهاك) الشرير قتلَ الملك العادلَ(جمشيد)، فاُبتلي بداءٍ عجزَ عنه الأطباءُ، فأوحى له الشيطانُ بمداواة المرض بمُخّي شابين، وكان (أرمائيل وكرمائيل) يقومان بتوفير تلك الأدمغة للملك، وحين أشفقا على الناس قاما باستبدالها بأدمغة نعاجٍ وأوحيا للشباب بالهرب إلى الجبال حتى تكوّنَ هناكَ جيشٌ بقيادة(فريدون) الحدّاد، وهو يقابلُ (كاوا) في رواية الشاهنامة، حيث كان قد قُطعَ رأسُ والده وولده، فقرّرَ القيامَ بثورةٍ ضدّ الملك، قادَ فيها الشبابَ ونزل إلى القلعة فاعتقلَ الملكَ وربطهُ بالسلاسل، ثمّ جرّهُ إلى الجبال ليموتَ ميتةً بطيئة وشنيعة، وهكذا خلّصَ الشعبَ منه!
ولقد تعددتِ التفسيراتُ التي وُضعت للأسطورة عموماً، وتنوّعت، وهي تذهبُ فيها مذاهب مختلفة. ويبدو أنّ الوصولَ إلى تفسيرٍ نهائي أمرٌ صعبٌ جداً، لأنّ الأسطورةَ نتيجةٌ لوضعٍ اجتماعيّ وفكري، هو غير وضع الذين يحاولون تفسيرها، فهي تمتلكُ بنيةً خاصّة ذات قوانين ووظائف، ترتبطُ بمرحلتها التاريخية، يصعبُ إدراكها في مرحلةٍ تاريخية لاحقة!
وإذا ما تتبّعنا ما يمكن أن نسميه(الاتجاه التاريخي) في تفسير الأسطورة هذه؛ هذا الاتجاه الذي ينظرُ إلى العالم الذي تقدّمه الأسطورة بوصفه عالماً حقيقياً، قامت الأسطورةُ بحفظه ونقله، ومن أمثلته تفسيرُ(يوهيميروس)، فلقد رأى في حوادث الأسطورة وقائعَ تاريخية، أبطالها ملوكٌ عظماءُ، كان لهم تأثيرٌ كبير في عقول الناس الذين تناقلوا سيَرهم أجيالاً وأضافوا إليها من خيالهم، ما بلغَ بأولئك الملوك مبلغَ الآلهة، فعبدهم الأحفادُ ناسينَ حقيقتهم الأولى!؛ يمكننا قراءةُ الكثير من الروايات في كتب التاريخ القديمة، والتي تتناول تاريخ وأصلَ ما ذكر في الميثيولوجيا الكردية عن عيد النوروز وكاوا الحدّاد. غير أنّ المفاجأة الكبرى يفجّرها الباحث الدكتور أحمد خليل، في مقالٍ له تحت عنوان: ” عيد النُوروز والمؤامرة على الملك الميدي أَزْدَهاك” وقد نشره على صفحته ودعا إلى التفكّر فيه الباحث مهدي كاكائي. المفاجأة التي تقلب كل حكايانا وقصصنا والتاريخ المشوّه الذي نتناقله جيلاً بعد جيل!
سأعرض الآن جزءاً من مادته وأضعها بين قوسين:
(الميد والفُرس):
قبل الميلاد بحوالي ألف عام كان الفرسُ والميد (أسلاف الكرد) شعبين متجاورين، وواقعين تحت احتلال امبراطورية آشور، وظهر في الميد أربعة ملوك:
ـــ الأول: دَياكو (دَهاكو) مؤسّسُ مملكة ميديا حوالي عام 727 ق.م، وثار على مملكة آشور ووقع في الأسر.
ـــ الثاني: خَشاتْرِيت بن دَهاكو، يسمّى (فَراؤوت/براؤرت) أيضاً، سيطر على بلاد فارس، وهاجم مملكة آشور، وقُتل في المعركة عام 653 ق.م.
ـــ الثالث: كَيْخُسْرُو بن خَشاتْرِيت، أسقط مملكة آشور عام 612 ق.م، وحرّر القسمَ الأكبر من بلاد أسلاف الكرد، وتوفّي عام 585 ق.م.
ــــ الرابع: أزْدَهاك بن كَيْخُسْرو، ولعلّ اسمه (أَزْد دَهاك) بمعنى (دَهاك الأزداني/اليَزْداني) نسبةً إلى الإله الآرياني (أزْدان= يَزْدان)، وكان صاحبَ مشروع إمبراطوري، فأوصل حدود مملكة ميديا إلى أفغانستان شرقاً، وإلى المحيط الهندي جنوباً، وإلى البحر الأبيض المتوسط.
كان أَزْدَهاك ملكاً طموحاً وشجاعاً وحازماً، ومتشدّداً في محاسبة المسؤولين على تنفيذ المهمّات، فأثار نقمة بعض الزعماء الميد بقيادة هارپاگ قائد الجيش الميدي، وتآمرَ هارپاگ سرّاً مع الملك الفارسي كُورش الثاني، ودفعه إلى الثورة على أَزْدَهاك عام 553 ق.م، فتصدّى له أَزْدَهاك، وخلال المعركة تظاهر هارپاگ وأتباعه بالهزيمة، بحسب الاتفاق مع كورش، فخسر أَزْدَهاك المعركة.
تراجع أَزْدَهاك بمن بقي معه من المقاتلين إلى العاصمة أَگْباتانا (هَمَدان)، وسلّح الشعب، وقاد المقاومةَ ضدّ الفرس والميد المتآمرين معهم، لكن المهاجمين احتلّوا أَگْباتانا عام 550 ق.م، ووقع أَزْدَهاك أسيراً في قبضة كُورش، ثم أرسله كُورش ليُسجَن في مكان بعيد بشمال شرقي إيران، وفي الطريق تُرك في الصحراء يموت جوعاً وعطشاً، وبذلك قُضي رسمياً على مملكة ميديا.
والمثير للانتباه أن هارپاگ زار أزدَهاك في السجن ليتشفّى منه، وحينما ذكر هارپاگ أنه قاد المؤامرة عليه، غضب أزْدَهاك جداً، وأنّبه قائلاً:
“إذنْ فأنت لست الأشدَّ لؤماً بين البشر وحَسْب، بل أكثرَ الرجال غباءً؛ فإذا كان هذا من تدبيرك حقّاً، كان الأجدر أن تكون أنت الملك، … وإذا كان لا بدّ لك من أن تُسلّم العرشَ لآخر غيرك، فكان الأجدر بك أن تقدّم هذه الجائزة لميدي بدلاً من فارسي، لكن الحال القائمة الآن هي أن الميديين الأبرياء من كل جُنْحَة غدوا عبيداً بعدما كانوا أسياداً، وأصبح الفرس سادةً عليهم بعد ما كانوا عبيداً عندهم” [تاريخ هيرودوت، ص 93]. وهذا دليل على مدى إخلاص أزدَهاك لشعبه ووطنه، ومدى غَيرته الوطنية ووعيه القومي.
في عمق المؤامرة:
في البداية تظاهر كورش بأن الحكم مشترك بين الفرس والميد، وعيّن القادةَ الميد المتآمرين وغيرَهم في مناصب عليا، وفي الوقت نفسه بدأ بتقوية النفوذ الفارسي في المملكة، وتصاعد نهجُ تفريس السلطة والثقافة والثروة في عهد ابنه الملك قَمْبَيز Gembêj، وجدير بالذكر أن قَمْبَيز كان طاغيةً، سفّاكاً للدماء، يُصاب بنوبات جنون، وأدّت سياسة التفريس إلى صحوة بعض قادة الميد والبدء بالثورات، وأبرزها ثلاث ثورات:
فشلت الثورات الثلاث، وقُتل قادتُها وأتباعهم بوحشيّة، وشدّد ملوك الفرس قبضتهم على ميديا، ونسبوا حضارة الميد إلى الفرس، وكان الملك قَمْبَيز قد أوصى قادة الفرس قُبيل وفاته؛ بألّا يسمحوا للميديين بإقامة مملكة ميديا مرة ثانية مهما كلّف الأمر، فشنّ الفرس على الميد حملة تشويه وتبشيع شاملة في مجالين:
ـــ المجال الديني: كان الميد أتباع الديانة اليَزدانية، ورفضوا دينَ النبي الميدي زَردشـت، فلجأ زَردشت إلى الحاكم الفارسي هَشْتاسْپ والد الملك دارا الأول، واعتنق هَشْتاسْپ وأتباعُه الزَّردشتية، واتّخذ الفرسُ الزَّردشتيةَ أيديولوجيا لمحاربة الدين اليَزداني بمختلف مذاهبه، ولمحاربة النفوذ السياسي الميدي، وشوّهوا سمعة رجال الدين اليَزدانيين (موغ = ماغ= مَجوس)، ونسبوا إليهم أعمال السِّحر والكُفر.
ــ المجال السياسي: بدأ ملوك الفرس عمليةَ تفريس المملكة سياسياً وإدارياً، وأصبح ذلك منهجاً سياسياً دائماً تنفيذاً لوصيّة الملك قَمْبَيز، وفي هذا الإطار تمّ تغييبُ تاريخ ملوك ميديا وأمجادهم، وتبشيع صورة الملك الميدي الآخير أَزْدَهاك.
وفيما يلي الخطوط العامّة للمؤامرة على أَزْدَهاك باختصار شديد.
ورد في تاريخ الفرس الأسطوري؛ أن بِيوَراسْپ اغتصب العرش من وريث شرعي يُدعى (فَريدُون)، وذات يوم ظهر إبليس لبِيوَراسْپ في زيّ طبّاخ ماهر، وقبّل كتفيه، فنبتت على كتفي بِيوَراسْپ حيّتان (تِنّينان= أژدِها Ejdiha)، وكانتا تؤلمانه، فظهر له إبليس في زِيّ طبيب، ونصحه بقتل شابّين كلّ يوم، وتغذيةِ الحيّتين بمخّيهما، وتضايق الفُرس من قتل أبنائهم، فثاروا على بِيوَراسْپ، وقاد الثورةَ الحدّاد گاوَه (گاوا)، وهو من أَصْبهان ( أَسْپان Espan، كانت مدينة ميدية)، وقُتل بِيوَراسْپ، وأعاد گاوا العرشَ إلى فَريدُون، واتّخذ الفرس ذلك اليوم عيداً باسم (نوروز(
.
ونعتقد أنه، في مرحلة لاحقة، دمج مؤرّخو الفرس بين شخصيتَي بِيوَراسپ الفارسي وأَزْدَهاك الميدي، ونسبوا قصّة الحيّتين إلى أَزْدَهاك، مستفيدين من الشبه اللفظي بين (أَزْدَهاك) و(أَژْدِها)، وفي الوقت نفسه نسبوا الثائر الميدي گَاوا إلى الفرس، وبتعبير آخر: إنهم عكسوا الأدوار، فجعلوا الملك الطاغيةَ ميدياً والثائرَ فارسياً، ودسّ المؤرّخون والأدباء الفرس هذه الرواية بصيغ متنوّعة في كتب التاريخ خلال القرون الثلاثة الأولى من العهد الإسلامي.
اللُّعبة الفارسية:
خلال قرون الاحتلال الفارسي حُرِم الكرد من معرفة تاريخَ أسلافهم الميد، وصدقوا ما دسّه مؤرّخو الفرس في كتب التاريخ حول قصّة أزدهاك وگاوا، وورد اسم گاوا في المصادر العربية بصيغة (كاوا)؛ لأن حرف (گ) غير موجود في الخط العربي، فكُتب بصيغة (ك)، وظلّ الكرد يحتفلون مع الفُرس في نوروز بحسب أحداث تلك الأسطورة الفارسية المختلَقة.
وفي أوائل القرن العشرين، ومع نهوض الوعي القومي الكردي، أحيا بعض المثقفين والساسة الكرد الاحتفالَ بعيد نوروز، واعتبروه عيداً قومياً وطنياً، واعتبروا أَزْدَهاك رمزاً إلى الطغيان، واعتبروا (كاوا) رمزاً إلى النضال ضدّ العبودية والطغيان، وخاصّة أن كردستان كانت قد قُسّمت بين إيران وتركيا والعراق وسوريا، وتعرّض الكرد لمختلف أنواع القهر والصهر، وبسبب قلّة المعلومات التاريخية حينذاك خَفيت عليهم اللعبة الفارسية الماكرة.
وجدير بالذكر أنه حينما أسقط العرب إمبراطوريةَ الفرس، وبقصد تشويه سمعة الحكم العربي، أعاد بعض مؤرّخي الفرس صياغةَ قصّة (أَزْدَهاك وكاوا)، وحرّفوا اسم أَزْدَهاك إلى (الضَّحّاك(، مستفيدين من التقارب الصوتي بين الكلمتين، وزعموا أن الضحّاك كان عربياً أصلُه من اليمن، وأنه قتل أباه الملك مِرْداس ليَحُلّ محلّه في الحكم، ونسبوا إليه كل ما نسبوه إلى الملك الميدي أَزْدَهاك، بل أكثر من ذلك.)
وبعد عرض الرأي السالف، أدعو كلَّ مهتم وقارئ وباحث في الميثولوجيا الكردية إلى التمحيص والمتابعة والحذر من ظلم التاريخ وتشويه المعتقدات.
وهنا أيضاً يمكنني تسليط الضوء على نقطةٍ هامة، ويمكنني أن أسمّيه الجانب السياسي لأسطورة أصل الكرد وكيفية تكوين النواة الأساس لصناعة المجتمع الكرديّ. ففي ثنايا هذه الأسطورة يُطالعنا ذلك الهاجس والدرس التاريخي البليغ لفهم (المخيّلة الجبلية الكردية) التي تتوجّسُ خيفةً من فكرة (السُلطة المركزيّة) بسلطانها الذي يحاولُ سلبَ حرية مواطنيه، ومن ثمّ الاقتيات على أكل جماجمهم وإطعامها إلى أفاعيه المُرعبة!
إنه ليس عبثاً أن تتحدثَ الأسطورةُ الكردية السياسية عن سبب نشأتهم وإرجاع أصولهم السُلالية إلى تلك الأسطورة، التي تصوّرُ كلَّ ما له علاقة ب(حاكمٍ يعبثُ بجماجم شعبه من جهة، وبشعبٍ التجأ إلى الجبال حفاظاً على حياته من طاغوت الحاكم والسلطة الجائرة من جانبٍ آخر.
ولعلّ هذه الصورة الأسطورية ل(نشأة وأصل المجتمع الكرديّ) هي وحدها القادرةُ، أو التي ستعيننا فيما بعد، على تفسير ظاهرة(النفور السياسي) لدى الكرد من أيّ فكرةٍ داعية للخضوع للدولة ومركزيتها ولسلطاتها الإدارية أو القانونية أو السياسية… باعتبار أنّ الخيالَ الكردي الاجتماعي السياسي لم يزل يخضعُ لسطوة أسطورة الحاكم الذي لا يتعاملُ مع الكرد اليوم إلاّ بالكيفية التي تعاملَ بها مع أجدادهم، عندما كان يصنع من جماجمهم طعاماً لأفاعيه السياسية المُرعبة.
وأياً كانت تلك الأساطيرُ والروايات، إلاّ أنّ صياغتها على هذا الشكل جاءت لتدغدغَ مشاعرَ الناس حولَ معنيي الخير والشرّ، وأنّ الحقَّ ينتصرُ في النهاية ضدّ الباطل. كما اُعتبرت هذه الرواياتُ بمثابة إلهامٍ ثوري للشعوب للتمرّد على الظلم والطغيان.
أسبوعين مضت
4 أسابيع مضت