يقال أن أولى التجمعات البشرية بأعداد متوسطة وكبيرة ومع ظهور الحاجة للإدارة وتنظيم الحياة، ظهر من يريد السيطرة على كد وتعب وجهد الأخرين، فكان تأمين المأكل والمأمن هو السبيل إلى التحكم و السيطرة على الأخرين وسرقة تعبهم ونهبها برضاهم، لكن مع مرور الأيام لم يعد كافياً ، وأصبح السيطرة على العالم الذهني للشخص ووعيه هو أهم وأكثر السبل فعالية ليس لإستمرار النهب وسرقة الإنسان فقط بل بجعله عبداً يفعل ما يطلب منه ويعمل مدى حياته وهو يتوسل إلى رضى سيده وكبيره.
ومع الأيام والسنين والقرون وتتالي أشكال وألوان العبوديات والسلطات والهيمنات و الإمبراطوريات و الحضارات وأختلافهم، كان من يمتلك وعي الحقيقة هو الذي ينتصر في معارك وجولات الحضارات ولعل إنتقال مركز الهيمنة من مشرقنا إلى الغرب من أوربا ومن بعدها إلى أمريكا يعبر عن فقداننا ومن بعدها أوربا لوعي الحقيقة حيث أن الحضارة المركزية وبثقاقتها التي ظهرت مجسدة ثقافة الدولة والطبقة والذكورية، تغير الجغرافيات حسب توفر الوعي وطاقة الذهنية التي تحتاجها نظم الهيمنة والمركزيات العالمية.
ونحن في عصر التقنيات والمعلومات كإستمرار لتدفق نهر جريان الحياة بشقيها المركزي والديمقراطي أصبح من يمتلك المعلومة الصحية والدقيقة وحق التصرف فيها والقدرة على إستخدامها هو من يمتلك مفاتيح المستقبل والحياة في قادم الأيام.
إن كان الوعي في جزء منه هو إدراك المرء لذاته وما يحيطه به كأساس لكل معرفة. ومن مكونات الوعي وبنيته لدى الأفراد هو المعرفة التي يحصل عليها الإنسان و موقفه منها وبالإضافة إلى السلوك الذي يجسد تلك المعرفة. ومن الجيد معرفة الوعي بانه عبارة عن تفاسيرنا للحياة ورؤيتنا لها ومنظومتنا الفكرية والذهنية التي تتجسد في تقرباتنا وتصرفاتنا من أي حدث أي في سلوكياتنا اليومية والحياتية التي نعيشها.
من المعروف في الفكر الإنساني أن الإنسان يولد كورقة بيضاء يتم الكتابة عليها وتشكيلها عبر العديد من المؤسسات منها مؤسسات التنشئة الإجتماعية المختلفة( الإسرة، الحضانة، المدرسة، الجامعة،…) إلى جانب المؤسسات الدينية(المسجد، الكنسية، المعبد،…) والمؤسسات الترفيهية والثقافية والرياضية وكذالك التجارية و مؤسسات المجتمع المدني والأطر المختلفة لتجمع طاقات المجتمع والناس و تفاعلهم وترابطهم مثل الأحزاب والجمعيات والنوادي والمنتديات والمؤتمرات بالإضافة إلى وسائل الإعلام ووسائل التواصل وضخ وقذف المعلومات على الأنترنت ومنصاتها المختلفة.
والكثير من مانعانيه ونعيشه في مجتمعاتنا ودولنا في المنطقة( الشرق الأوسط وشمال أفريقيا) هو نتيجة لعدم إمتلاكنا وعي حقيقي ومعاصر يعبر عن حقيقة مجتمعاتنا وقيمنا وتاريخنا وجغرافيتنا، وهذا نتيجة فقدان أغلب مجتمعاتنا لدوره في تربية أبنائه، حتى أصبحنا مواد خام في مصانع ومعامل الأخرين يفعلون بنا ما يشاؤون، يقسموننا ويحتلوننا ويستعبدوننا ونحن من الشاكرين والمتعاونيين معهم .
ولعل ما نعيشه من تزييف الوعي والفكر وقلب الحقائق هو نتيجة لتراكم تزييف كبير عبر عدة عصور حتى أصبحت الحرية الفردية والأنانية هي السائدة إلى حد إنكار المجتمع وفقدان الفرد إحساسه وواجباته تجاه حرية مجتمعه وإختلال التوازن اللازم بين حرية الفرد والمجتمع المطلوبة وبالتالي فقدان الوعي الجمعي الأخلاقي.
لكن من الهام الإشارة إلى بعض القوى التي تستهدفنا وبعض تزيفاتهم ومنها تركيا وسلطتها الحالية:
1_ تقوم تركيا حالياً بإحتلال مناطق من شمالي سوريا والعراق وليبيا وتسيطر بشكل مباشر على عواصم ثلاث دول عربية ( طرابلس، مقديشو، الدوحة) ولها نفوذ وتأثير في دول أخرى . ولها سياسة التغير الديموغرافي والتطهير العرقي لكنها تزيف هذه الحقائق وتقدم نفسها بغير حقيقتها وهناك من اهل المنطقة من أكل الزيف بعقولهم وقلوبهم حتى أصبحوا مرتزقة وإنكشاريين لأردوغان مثل قسم من معارضات ما تسمى الربيع العربي في عدة دول عربية وخصوصاً حركات الإسلام السياسي أو السلطوي الذين يرون أردوغان خليفتهم وسلطانهم رغم كل نفاقه وزندقته.
2_ قامت الدولة التركية الحالية بعد الحرب العالمية الأولى كبيدق للنظام العالمي على إبادة وإنكار الشعب الكردي الذي لولاه لما دخل ولا بقي الترك في الأناضول. وما تزال الحكومات التركية تصر على القضاء وإمحاء الكرد من الوجود و تفعله سلطات أردوغان وحزب العدالة والتنمية والحركة القومية التركية من قتل وتهجير وتدمير، تحاول تركيا تزييف ذالك والقول إن الكرد إخوتنا وقلب الوقائع وتحويل الكذب للصدق ، وهناك من الكرد مازالوا لديهم علاقات مع السلطات التركية ويقولون “أن أردوغان يفهم القضية الكردية جيداً”، ويصمتون أمام هجماته على الكرد ، في نفس الوقت التي لتركيا وسلطاتها عداوة وفوبيا من كل شيئ إسمه الكرد وكل كردي عندها أرهابي ومدان حتى يستسلم لأردوغان ويتخلى عن كرديته وكرامته وشرفه في نفس التوقيت الذي يسمع صوت طائرات ومدافع تركيا للقضاء على كل مكتسبات الكرد.
وأصبح هؤلاء القسم من الكرد وكذالك كما التنظيمات الإسلام السياسي أدواة وبيادق ومن مروجي ومسهلي تزييف الوعي ، حتى أصبحوا لايطلقون تسمية الإحتلال على إحتلال تركيا لعفرين وسرى كانيه (رأس العين)و كرى سبي (تل أبيض) ويحاولون بذالك خداع الشعب وممارسة التزييف.
3_من المهم الإشارة إلى تزييف وجود تركيا كدولة للعرق التركي على حساب باقي شعوب ميزوبوتاميا والأناضول والمنطقة وتزييف إتهامها للكرد ولمقاومتهم في حماية وجودهم ومطالبتهم بحقوقهم الطبيعة في الحرية وإدارة مناطقهم بالإرهاب في حين تركيا أكبر دولة إرهابية في المنطقة ، أردوغان ووزير خارجيته ودفاعه حولوا محاولاتهم الحثيثة للسيطرة على غاز ونفط شرق المتوسط وليبيا وجعلهم مناطق إحتلالهم بؤرة لضرب إستقرار المنطقة والعالم لزيادة أوراق ضغوطهم عن الحاجة ودعمهم للأرهابيين من داعش وللقاعدة والإخوان وجلبهم المرتزقة والإرهابين من مايسمى “الجيش الوطني السوري الإرهابي الإنكشاري” المرتبطين مع واجهة داعش السياسية ما تسمى ” الائتلاف الوطني السوري”، ومع كل هذا يقول أردوغان ويزيف الحقائق أن ليبيا هي ميراث أجداده وأن هناك أعداداً من الأتراك في ليبيا والكل يعلم أن الترك أتوا إلى المنطقة من حوالي جبال آورال التاي القريبة من الصين في القرن الثامن كجنود ومماليك للخلفاء العباسيين وللسلطان نجم الدين أيوب، وعندما رسمت مصر واليونان الحدود البحرية ووضعت حداً لمغامرات أردوغان قال أن هذا الإتفاق لا قيمة له وباطل وأن إتفاقه مع السراج هي الاساس علماً أنه ليس لتركيا حدود بحرية مع ليبيا و حكومة السراج لم يأخذ الشرعية من البرلمان الليبي الكيان الشرعي والمنتخب للشعب الليبي ومايفعله أردوغان هو تزييف ومحاولة الإستفادة من دوره الوظيفي في المنطقة لتمرير مشاريعه الخاصة والقفز فوق مشاكله الداخلية المتعاظمة.
ولعل من الأهمية الإشارة إلى الماكينة الإعلامية التركية وقنواتها ومنصاتها الموجهة لأهل المنطقة وبلغاتهم وإستعمالها القوى الناعمة لتزييف الحقائق وتقديم ماتريده بعد تغليفها بالبعد الديني وإستخدامها مقدسات شعوبنا، وتغلغلها مستفيدة من الحالات والظروف الصعبة والإنسانية كما يحصل في الكثير من الدول الإفريقية و ما حصل في لبنان فكان من التزييف والنفاق والعثمنة أن يقول وزير خارجية أردوغان للشعب اللبناني ولبعض من المزيفين إنكشاري أردوغان في العاصمة بيروت وعلى أنقاضها ومصيبة أهلها جراء الإنفجار (هذا الانفجار الذي يعتبر بداية لإعادة تنظيم لبنان وسوريا وتشكيلها السياسي كجزء من إستراتيجية عامة وشاملة للمنطقة حسب مصالح القوى المركزية) حيث قال مولود جاويش أوغلو” أن أردوغان سوف يقدم لكم الجنسية التركية” وكأن الجنسية التركية هي من يجب أن يكون لسكان المنطقة بعد كل مصيبة وحالة فوضى في تزييف واضح لامحالة لرغبته في السيطرة على الغاز والنفط على الساحل اللبناني.
ولعل ما وصلنا إليه في المنطقة في القرنيين الأخيرين كان بسبب تزييف الوعي الكبير الذي تم إصداره للمنطقة من مفهوم الدولية القومية النمطية والإحادية وكذالك إكذوبة المؤسسات الدولية ومفاهيم حقوق الإنسان والنظام الإقتصادي العالمي التي نقشت قواميسها حسب أهواء المنتصرين في الحرب العالمية الثانية والتي لاتقول شيئ وتلتزم بالصمت عن جرائم تركيا بحق شعوب المنطقة وبلى تحميها وتحمي ممارساتها مراعاة للمصالح الدولتية ويظل التزييف الأكبر إنتظار الحلول من هذا النظام العالمي الليبرالي الذي هدفه الربح الاعظمي، الذي دقت ساعات إفوله لكثرة أزماته.
من الممكن تجاوز الكثير من مشاكلنا وحل مجمل القضايا بعد تجاوز تزييف الوعي المتراكم والكذب والنفاق وخلق جسور التواصل وزيادة الثقة وتبديد المخاوف التي زرعها النظم المهيمن وتوابعهم الإقليمين من القومويون وحركات الإسلام السياسي والليبراليين وغيرهم ، وكذالك نستطيع تجاوز تزييف الوعي بالمعرفة الحقيقية وإمتلاك الوعي وبالمعلومة الدقيقة والمفاهيم الديمقراطية وبإرجاع المصطلحات لجوهرها وإزالة الشوائب والتشويش منها وعنها وليست بالمقدمة من الآخرين والجاهزة حسب رغبات السلطويين، ومن الافضل إمتلاك الرؤى التي تمتد إلى فهم الماضي وإستيعاب الحاضر ورسم المستقبل وإدراك أدوارنا وأبعادنا الإقليمية والإنسانية والتخلص من الفكر القوموي الإحادي وبذالك نصل إلى تصرفات وسلوكيات تحقق تكامل الافراد مع مجتمعاتها والمجتمعات مع بعضها و تجسد أبعادها الأخلاقية والسياسية وبذالك تتشكل الأرضية للتخلص من الإستعمار وادواته ومن الأردوغانيين ومرتزقتهم بما يضمن الأمان والسلام والإستقرار لمنطقتنا ودولهم والحرية لشعوبنا.