خلال عمل الألماني ماكس فون أوبنهايم في موقع تل حلف الأثري وذلك في الربع الأول من القرن العشرين, ساعده فريق عمل مكون من خمسمئة عامل ومصور وخبراء آثار خلال تلك الفترة, قام بعدها أوبنهايم بنقل معظم المكتشفات التي استخرجها من موقع تل حلف إلى برلين عبر القطارات والبواخر, والتي بلغ مجموعها خمسمئة قطعة أثرية تراوحت بين الأنصاب والتماثيل لـ آلهة ومخلوقات تجمع بين البشر؛ كالإنسان السمكة والرجال الثيران والأسود المجنحة وشكل أدمي برأس أسد حيث شكل مجموعها ستون تمثالاً؛ ووصل وزن بعضها إلى خمسة أطنان إضافة إلى أكثر من مئتي لوح صخري بارز والعديد من الأواني الخزفية والأختام وغيرها من اللقى.
عرض أبنهايم المكتشفات في متحفه الخاص الذي أقامه في مصنع قديم في برلين كان قد افتتحه في الثامن والعشرين من كانون الأول 1931م، إلا أن المتحف تعرض للقصف بالقنابل الفوسفورية خلال الحرب العالمية الثانية من قبل طيران التحالف ودمرت بالكامل.
أوصى أوبنهايم بجمع ما تبقى من أشلاء الآثار بعد القصف ومجموعها سبعة وعشرون ألف شظية في صناديق خاصة ومن ثم تخزينها في قبو متحف البيرغامون.
صنفت تلك القطع الصغيرة أو الشظايا في الأربعينات من القرن العشرين في خانة غير صالحة، ثم أعاد العلماء تصنيفها في الستينات نفاية لكنهم لم يتخلصوا منها إلى أن جاء عصر الكومبيوتر وفتح الباب أمام آفاق جديدة لإعادة تصنيف وفرز ولصق القطع الأثرية من خلال تطبيق تقنية السوفت وير.
شكلت الشظايا فقط ما مجموعه ثمانون متر مكعب من الحجارة الصغيرة, وضع تلك القطع المهشمة والشظايا على ثلاثمئة لوح خشبي بطول عشرين كم حتى يتمكن الحاسوب من التعرف عليها وتجميعها من خلال كثافة المادة واللون والحواف….
تولت الباحثة ناديا خوليديس بتكليف من مؤسسة أوبنهايم وتمويل من متحف البيرغامون بالإشراف على عملية تجميع الشظايا في تماثيل منذ عام 2001 م، واستغرق هذا العمل الماراثوني قرابة عشر سنين وبزمن قُدِّر بـ خمس وعشرون ألف ساعة عمل.
كلفت مغامرة تل حلف كما يقول العلماء نحو خمسة ملايين دولار وافتتح المعرض في الثامن والعشرين من كانون الثاني 2011 في متحف برلين.
بالعودة إلى قصة حياة مكتشف حلف ومتحفها, نجد أنه ولد أوبنهايم في مدينة كولن الألمانية عام 1860م، في كنف عائلة ارستقراطية لأب صيرفي, درس القانون وأتقن العديد من اللغات من ضمنها اللغة العربية, شغف بالشرق الذي زاره للمرة الأولى عام 1886م ، عندما حل بالمغرب وتلته زيارات إلى العراق فمصر قبل أن يعين دبلوماسياً في مكتب القنصلية الألمانية في القاهرة عام 1896م.
ترك العمل الدبلوماسي بسبب حبه الشديد للتنقيب والآثار والكشف والمغامرة بعد سنين من العمل, كذلك تخلى عن أسلوب حياته الارستقراطية وانتقل إلى تل حلف الذي ربط كل حياته بالعمل فيها والكشف عن أثارها كما وهب كل ثروته لمؤسسة خيرية أنشأها هو بنفسه لدعم أعماله بشكل خاص والبحث العلمي بشكل عام وكان شعاره في الحياة يحيا الشموخ والإباء والأخلاق.
توفي أوبنهايم عام 1946م، بعد قصف متحفه بثلاث سنوات وكان قد أوصى بأن ينقش على قبره الكلمات التالية: هنا يرقد بحماية الرب رجل أحب العلم والشرق والبادية وتل حلف.