الحدث – القاهرة
لقد تم إعلان النداء التاريخي وكان له تأثيراً كبيراً تجاوز التوقعات بكثير، فبَعد ماراثون مكثف دام 52 عاماً، تم الدخول في مرحلة بداية جديدة بميلاد 27 فبراير/شباط 2025، وتم التمهيد لطريقٍ جديد بالكلمات التالية: “هذه ليست نهاية، بل بداية جديدة”.
وَلْنذكر من الآن أن التقلبات السياسية تطورت بعد نداء السلام والمجتمع الديمقراطي، فالديناميكيات المجتمعية وخاصة المجتمع الكردي سوف يتحول تدريجياً إلى نظام الحضارة الديمقراطية من خلال تأثيراته الإقليمية والعالمية، فقد أظهرت المراحل المجتمعية التاريخية أن كل وحدة مجتمعية تتوافق مع النسيج السوسيولوجي للمجتمعات وتمنحه الأمل، حيث تمكنت من حماية نفسها وأصبحت منبعاً لميلاد حضارات جديدة من خلال ترسيخ وجودها وتزايد عولمتها.
لا شك أنه يجب قراءة نداء السلام والمجتمع الديمقراطي مع المجلدات الخمس الأخيرة من مرافعات القائد آبو، فبهذا تتحول مرافعات القائد آبو إلى وسائل أكثر ملموسة، حيث توجد في أساس الفلسفة التأسيسية لهذه الوسائل خلفية تاريخية وسوسيولوجية وعلمية وفنية ودينية وفكرية، ولهذا السبب، قامت العديد من الأوساط اليوم بقراءات ضيقة محدودة ونمطية وسطحية، وأصدرت أحكاماً مسبقة دون فهم، لأنها لم تقيم التطورات بذهنية سوسيولوجية المجتمع-التاريخي.
إن فكر القائد آبو ليس نظرية ثابتة جامدة، بل هي نظرية متطورة باستمرار، ومتحولة، ومتداخلة مع الممارسة العملية، وفي الواقع، ينبغي أن ننظر إلى هذا الأمر بطريقة شاملة من البحث عن الحرية المطلقة المعبَّر عنها في شخصية القائد آبو منذ صغره إلى يومنا هذا، ولا يمكن لأي قوة أو مانع أو تخلف أو وسيلة أن تمنعه من سعيه نحو الحرية أو تبطئ من سرعته. وعلى الرغم من أن كل التطورات كانت ضده، إلا أنه لم يتوقف ولو للحظة، ولم يتردد، ولم يشكِ، ولم يستسلم، ولهذا السبب، أولئك الذين يحاولون حصره وتقييده في قالب معين، أو لا يفهمونه بشكل تام، أو يسلطون الضوء فقط على أجزاء معينة منه، لم يتمكنوا من فهم جوهره، وبالتالي فإن القائد آبو ليس شخصية سياسية وعسكرية فحسب، بل هو أيضاً مفكر، مثقف، وساعٍ نحو الحرية بشكل مطلق، وشخصية عملية، ولهذا السبب فإن مشاريعه لا تستند إلى التوازنات السياسية الراهنة أو إلى نماذج النظام الكلاسيكي أو إلى طريقة التفكير الهرمي، بل تستند إلى تحولات المجتمع التاريخي، فأولئك الذين لا يستطيعون استيعاب هذا التعمق وهذا المنظور، إما يستسلمون للأنظمة القائمة أو يظلون عالقين في مثالية منفصلة تماماً عن التحولات التاريخية والسوسيولوجية، وبالتالي لا بدّ من قراءة نداء السلام والمجتمع الديمقراطي وفهمه ومناقشته مع المرافعات بحيث يكملان بعضهما البعض، فمن الضروري تناول مفهوم السلام والمجتمع الديمقراطي، مع المجلد الخامس من المرافعات.
قبل أن نعرض وجهات نظرنا المختصرة بشأن نداء السلام والمجتمع الديمقراطي والمرافعات معاً، من الضروري توضيح بعض المواضيع المتعلقة بالمرحلة.
تقدم مسار العملية والأسس القائمة عليها
إن جوهر النداء هو نداءٌ لإعادة الهيكلة والتحول والتغيير، التي سوف تتم بتغيير بعضهما البعض بشكل متبادل وستكون مصدراً التحول الاجتماعي، إذ أنّ هذا النداء هو اقتراحٌ لتحولٍ يتضمن إعادة بناء حزب العمال الكردستاني ووضع النضال السياسي الديمقراطي في المقدمة بدلاً من النضال المسلح، أي فتح قنوات السياسة الديمقراطية، وهذا يعتمد على التزام الدولة بتوفير البيئة التي يمكن فيها تنظيم وتطوير الهوية والاعتقاد والثقافة والحريات.
بمنظورٍ ما، إنه نداء من شأنه الاستجواب والتحقيق في سياسات النمط الأحادي والمركزية والإنكارية التي تتبعها الجمهورية وإعادة هيكلتها وتحولها بشكل كامل، أي أنّ جوهر المسألة ليس إيقاف الكفاح المسلح فحسب، بل أيضاً قيام الدولة بمواجهة نهجها الإنكاري المتمثل بفرض النمط الأحادي ورفضه، وبالتالي فإن “الحل/الفسخ” بمعنى ما، هو رد ضد نهج النمط الأحادي للدولة.
مرحلة التغيير وفق باراديغما الحداثة الديمقراطية
لقد تطور حزب العمال الكردستاني تحت تأثير نموذج الاشتراكية المشيدة على مستوى النظرية والبرنامج والاستراتيجية والتكتيكات، وكانت الركيزة التنظيمية والنضالية لحزب العمال الكردستاني تستند إلى مفهوم المركزية وحزب الطليعة وإلى عمليةِ نضالٍ تتخذ العنف أساساً لها. وعلى الرغم من هذه الحقيقة، إلا أن حزب العمال الكردستاني كان له جوانب فريدة، وكانت عملية إعادة البناء والتغيير والتحول مستمرة، بغض النظر عن الحرب والمراحل التي تمر به، وما يقصد بأن هذه العملية منفصلة عن هذه المرحلة، هو أنّ حركة الحرية قامت بتحول مستمر بالتوازي مع التغيير الداخلي وفقاً للعصر والفترات الجديدة. ففي عام 1986، كان تركيزه الأيديولوجي على تحليلات حرية المرأة يتجاوز مفهوم الاشتراكية المشيدة، وكذلك نهجه لموضوع الدين سوسيولوجياً، يتجاوز النهج المادي الفظ، وكلاهما مؤشران أساسيان على الحاجة إلى تجديد الاشتراكية، إذ تم التعامل مع المرحلة التي بدأت بوقف إطلاق النار في عام 1993، باعتبارها تغييرات وخطوات لعملية التغيير، وتم تجسيد ذلك في مؤتمر حزب العمال الكردستاني الذي عُقِدَ في عام 1995، أما بعد عام 2000 فإن تغيير حزب العمال الكردستاني لبنيته التنظيمية ونهجه النضالي الموجودان آنذاك، وفقاً لنظام الحداثة الديمقراطية، وعمليات تغيير البرنامج والاستراتيجية خطوة بخطوة وما تلاه من حل حزب العمال الكردستاني، يُعتَبَر ذروة عمليات التغيير هذه، لكن لم تنجح محاولات حزب العمال الكردستاني في تحويل نفسه إلى استراتيجية الحداثة الديمقراطية ووسائلها النضالية بشكل كامل، وعمليات التغيير والتحول هذه لم تودِ إلى أية نتيجة بسبب التصفوية الداخلية والعقبات الموجودة أمام السياسة الديمقراطية وغياب القائد آبو عن الإدارة، وبالتالي على الرغم من أن عملية إعادة بناء حزب العمال الكردستاني والعملية السياسية الديمقراطية متداخلتان ومتشابكتان، إلا أنهما ليستا بوضع جديد، بل على العكس من ذلك، هناك خلفية أيديولوجية ونظرية عميقة وخبرة عملية وراء منظور التحول هذا، حيث ينبغي النظر إلى عمليات إعادة بناء حزب العمال الكردستاني باعتبارها نتيجة حتمية للتحولات التاريخية والسوسيولوجية والفلسفية والأيديولوجية، وبالتالي وفقاً لمبادئ الباراديغما الجديدة، فإن عملية إعادة البناء والتغيير في حزب العمال الكردستاني هي حركة داخلية وضرورة وجواباً للعصر الجديد، فلا يمكن أن يحدث هذا التغيير إلا في ظل قيادة القائد آبو بشكلٍ عملي.
علاقة الكرد-الترك في السياق التاريخي
إن معرفة كيفية تشكل علاقة الكرد-الترك على مدى ألف عام من التاريخ، سوف تمنحنا منظوراً توجيهياً بشأن اليوم. قبل كل شيء، لقد تم تشكيل هذه التحالفات على أساس الاتحاد الاجتماعي الطوعي والمصالح المشتركة، حيث بدأت المرحلة الأولى من هذا التحالف مع دخول الترك إلى الأناضول، ونتيجة لهذا التحالف المشترك الذي تم تشكيله ضد بيزنطة، أدى إلى هزيمة بيزنطة، وفي هذه النقطة واصل الكرد وجودهم من خلال الحفاظ على إداراتهم الذاتية داخل النظام القائم، أما المرحلة الثانية فهي عهد ياووز سليم. إن أساس الإمبراطورية العثمانية يعتمد على تطور تحالف الكرد-الترك، ففترة الإمبراطورية العثمانية مدانة إلى التحالف الذي تم إنشاؤه، حيث نجح الكرد هنا أيضاً في تطوير إداراتهم الذاتية وأصبحوا تحت الحماية.
المرحلة الثالثة هي فترة تأسيس الجمهورية، وهي مرحلة النضال التحرري الوطني الذي تطور في الأناضول ضد القوى التي قسمت الأراضي العثمانية بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية، إنها مرحلة تحالف الكرد-الترك التي أسسها أتاتورك (مصطفى كمال) في مؤتمري سيواس وأرضروم، وليس في أنطاليا أو إزمير، والتي تعتبر القاعدة التأسيسية للجمهورية. إن علاقات الكرد-الترك في المراحل الثلاث هي اتحاد سوسيولوجي واستراتيجي ومصير مشترك أكثر من أن تكون اتحاد سياسي، فخلال فترة تأسيس الجمهورية، تم إنكار استراتيجية منح إدارة ذاتية للكرد والعيش معاً على أساس المساواة من خلال صيغة الدولة-القومية التي تخلق النمط الأحادي والمركزية والتجانسية؛ وبذلك بدأت مرحلة الانهيار والفساد المعروفة، أما الآن يشاهد فترة عتبة تاريخية جديدة، والتي نسميها المرحلة الرابعة، حيث أن المرحلة التي نمر بها مع عملية إعادة تصميم الشرق الأوسط، تشكل المرحلة الرابعة من هذه العملية، فإن فلسفة إعادة تأسيس وانتقال المرحلة الرابعة هذه تعاني من أزمة خطيرة للغاية، لأن الكرد لا يشاركون فيها. إن هذه الروح التي واجهت وتجاوزت كل المراحل في العمليات السوسيولوجية التاريخية، تتعثر في مواجهة العصر الجديد، وقد وصلت إلى مستوى من شأنه أن يكون مصدراً لكل الأزمات ويؤدي إلى انهيار الدولة.
تاريخياً؛ تضررت علاقات الكرد-الترك بشكل عام في القرنيين الماضين وبشكل خاص في القرن 20 من النظام الرأسمالي الذي طوَّر القوموية والنمط الأحادي والدولة-القومية والصنعوية والربح المفرط. وكنتيجة لسياسة النمط الأحادي والتجانس، التي تطورت بعد مرحلة الجمهورية، فإن الممارسات مثل الإنكار والقمع والإقصاء والعداء والقيام بالتفكيك والتصفية بالإبادة السياسية والثقافية والجسدية، خلقت جدراناً عقلية وروحية ومادية بين الشعوب، وخاصة مع التحالف الكردي، لكن إعادة بناء وإحياء هذه العلاقات الهشة والمتضررة، والتي أقيمت من خلال الروابط التاريخية، تعتمد على الاحترام المتبادل للهوية والاعتقاد والتنظيم الذاتي للشعوب وتطوير نظام أكثر ديمقراطية، فلا يمكن إصلاح هذه الروح ومواجهة عملية إعادة تصميم الشرق الأوسط معاً إلا من خلال احترام الحقوق التاريخية للشعب الكردي، ولذلك فإن المنظور التاريخي الذي يطرحه القائد آبو لا يذكرنا بالتحالفات الماضية فحسب، بل يشرح لنا أيضاً كيفية إلغاء التباعد الكبير المتمثل بالإنكار وكيفية إعادة تأسيس هذا التحالف من الناحية السوسيولوجية ونقله إلى المستقبل.
إعادة التفكير في المجتمع الديمقراطي من جديد
الدولة-القومية والفيدرالية والاستقلال الإداري
على مر التاريخ، كانت السلطة-الدولة موجودة في أشكال مختلفة من الإدارة، وقد تحولت الهياكل مثل الممالك والإمبراطوريات والسلالات والإمارات والإقطاعيات إلى أشكال من الدول-القومية والفدراليات والاستقلال الإداري في العصر الحديث، ولكن هذه التغييرات لم تغير منطق الإدارة بشكل أساسي، حيث يتم تنظيم المجتمع وتوجيهه ومراقبته دائماً بوساطة هيكل إداري، ومن خلال تجديد نفسه باستمرار بهذه الأشكال، استطاعت السلطات أن تحافظ دائماً على جوهرها على الرغم من الظروف المتغيرة، فهذه الأشكال ليست نماذج إدارية فحسب، بل هي أشكال مؤسسية لعقلية الدولة أيضاً. لا شك أنه كان لنضال الشعوب تأثير كبير في مرونة الأنظمة الدولتية، ولكن لا يمكن القول أنّ الشعوب والمضطهدين قد تمكنوا من التحليل والتغلب على عقلية السلطة-الدولة. تمت مناقشة مسألة كيفية إدارة المجتمع ذاتياً من خلال هيئات وأشكال موجودة دائماً ولها طابع أحادي، سواء في نضال الاشتراكية أو في النضال الوطني والطبقي والثقافي، وبالتالي تمت عرقلة تطور أشكال بديلة للإدارة.
إن نماذج الدولة-القومية والفيدرالية والاستقلال الإداري هي أشكال الإدارة التي نشأت من الأنظمة السياسية خلال القرنين الماضين، ولم يتم التفكير كثيراً في خيارات أخرى سوى هذه النماذج، وبالتالي فإن هذه الأشكال هي أشكال مؤسسية للسلطة، أي تجسيداً لعقلية الدولة-القومية بشكل مختلف، فالقاسم المشترك بين هذه النماذج هو أنها تعتمد على تقاسم الإمكانات والسلطات، وحماية النظام، وسيطرة أقلية وطبقة ما، وإدارة المجتمع من قبل مجموعات حاكمة معينة، من خلال تهميش شكل المشاركة المباشرة في الديمقراطية وديناميكيات الإدارة الذاتية. سواء كانت دولة-قومية مركزية أو فيدرالية، فإن جميعها تتشكل أساساً داخل تشكيلات الدولة ولا تعكس بشكل مباشر قوة التطور الداخلي للمجتمع الديمقراطي.
إذن؛ يدافع القائد آبو عن النماذج الإدارية المختلفة التي يمكن أن تتطور بعيداً عن هذه الأشكال، استناداً إلى سوسيولوجية المجتمع التاريخي، ففي إطار استراتيجية الحداثة الديمقراطية، والحضارة الديمقراطية، يريد تطوير نموذجه الخاص بشأن الإدارة الديمقراطية المتوافقة مع سوسيولوجية المجتمع التاريخي، إنه يريد تطوير أشكال الإدارة الذاتية الموجودة في إطار قانون التطور الداخلي للمجتمعات، وتكييفها مع العصر الجديد، وبالتالي يريد تطوير الوسائل الأكثر نقاءً لتحقيق هذا الهدف في هذا الصدد، ولكن خلال القرنين الماضيين، وخاصة في الربع الأخير من القرن الماضي، كانت الحركات الاجتماعية ومَطالبها تميل عموماً إلى البحث عن حلول ضمن هذه الصيغة.
السبب الرئيسي وراء ذلك هو أن العقلية التي تتخذها الدولة كأساس، كانت مهيمنة لفترة طويلة من الزمن، فالتيارات الوطنية والقومية سعت إلى الحصول على خياراتها السياسية المطلقة في هذه الصيغ، لذا كانت القدرة على تصور أشكال بديلة للإدارة محدودة، وبالتالي فإن الهياكل مثل الاستقلال الإداري والفيدرالية تقدمان عموماً شكلاً من أشكال الإدارة من خلال حصر هويات أو مجتمعات معينة ضمن إطار محدود، لكن المجتمعات ليست مجرد هياكل ثقافية أو أثنية، بل هي هياكل متعددة الأبعاد وتحتوي على مجموعة واسعة من الفروقات، ويجب أن تكون نماذج الإدارة أيضاً متوافقة ومكافئة لهذه الحقائق، لذلك فإن تحليلات وتفسيرات المجتمع ذات الطابع اللاهوتي والطبقي والليبرالي والثقافي لا تحتوي على سوسيولوجية المجتمع التاريخي، ولهذا السبب إن نماذج الحلول الناتجة عنها لا تشكل علاجاً.
نظام الإدارة-الذاتية الديمقراطية.
لقد تشكلت باراديغما القائد آبو على أساس العقلية الديمقراطية، إذ أن الانعكاس الملموس لهذه العقلية هو نظام الإدارة-الذاتية المنظمة، وتعتمد الإدارة-الذاتية على مشاركة المجتمع في عملية الإدارة بديناميكياتها الداخلية. لقد تشكل مفهوم المجتمع التاريخي من خلال وجود هذه الإدارة-الذاتية، وكلما تطورت قدرة المجتمع على إدارة نفسه ذاتياً، كلما ضعف تأثير عقلية السلطة، لأن السلطة ليست مؤسسة أو هيكلية دولة فحسب، بل هي ظاهرة متجذرة في العلاقات الاجتماعية والوعي والعادات أيضاً، لذلك فإن بناء العقلية الديمقراطية وآليات الإدارة-الذاتية هي في مسار تحولٍ مستمر.
إنّ المسألة الأساسية هنا ليست قبول أو رفض نموذج إدارة جاهز، بل كيفية تطوير المجتمع لنموذج الإدارة الخاص به بما يتماشى مع ديناميكياته الخاصة، أي أنّ الإدارة هي تعبير داخلي عن التنظيم الاجتماعي وليست ظاهرة “خارجية”، فلا يمكن بناء مجتمع ديمقراطي إلا من خلال إنشاء أجهزة إدارته-ذاتياً والمشاركة المباشرة في عمليات صياغة القرار دون الاعتماد على هياكل مركزية ذات النمط الأحادي، وبالتالي فإن أشكال الإدارة-الذاتية يجب أن تتجاوز الأشكال والهيئات التي تديرها سلطة خارجية، وأن تقوم المجتمعات بتحديد كيفية تنظيمها لنفسها من خلال تطورها الداخلي، فلا يمكن للمجتمع الديمقراطي أن يُبنى إلا إذا قام بإنشاء أجهزة إدارته-الذاتية، وشارك بشكل مباشر في عمليات صياغة القرار دون أن يكون تابعاً للدولة والسلطة والهياكل المركزية. إن التحليل الشامل لواقع المجتمعات وصياغة شكل إدارتها يتطلب تخطّي أشكال الدولة الموجودة، ولهذا السبب فإن القائد آبو لا يرى النماذج مثل الاستقلال الإداري أو الفيدرالية كحلول، لأنها لا تلبي بمعنى شامل الديناميكيات الأساسية والتطور الداخلي للمجتمع الديمقراطي، وإلا فإن القائد آبو لا يعارض كُليّاً سبلاً مثل الفيدرالية والاستقلال الإداري.
يؤكد القائد آبو أنه ليس من المنطق القضاء على جميع هياكل الدولة دفعةً واحدة، بل إنه يؤكد على ضرورة تنظيم الإدارة-الذاتية للمجتمع وعملية النضال، ولهذا السبب، ومن أجل المرحلة الانتقالية، يمكن الاستفادة من نماذج الإدارة التي تضعف المركزية، وتشجع الإدارات المحلية، وترفض النمط الأحادي وتعتمد على التنوع، لذا يقترح القائد آبو أن يتم القيام بالبحث والدراسة حول الآليات التي تشجع مشاركة الشعب بشكل مباشر في الإدارة وأنظمة الإدارة المحلية في أوروبا، فعلى الرغم من أن مثل هذه النماذج لا تمثل الإدارة-الذاتية الديمقراطية تمثيلاً تاماً، إلا أنها قد تعمل كشكل انتقالي من حيث إضعافها للمركزية ولأحادية النمط، وتطويرها للديمقراطية المحلية.
النماذج الأوروبية للإدارة المحلية والإدارة-الذاتية
يتحدث القائد آبو في ندائه للسلام والمجتمع الديمقراطي، عن الاستقلال الإداري وينتقده، حيث تُعتبر الهياكل الإدارية إحدى الوظائف الأساسية للدولة، ولذلك فإن المفهوم الإداري هو الأساس المباشر والخميرة الأولى والامتداد الأول للدولة، إذ تعتمد الهياكل الإدارية على وسائل أخرى للحفاظ على حقوقها الهيمنية والسلطوية. يظهر الاستقلال الإداري كهيكل إدارة ويرتكز على تقاسم موارد الدولة وحمايتها، كما يعتمد الاستقلال الإداري على التوجيه الخارجي وليس على المشاركة الديمقراطية والتحول الداخلي للمجتمع، وغالباً ما تكون الحرية والتنظيم الذاتي للمجتمعات محدودة في ظل الاستقلال الإداري، حيث يظل الاستقلال الإداري مقتصراً في الغالب على الإدارة والمستوى الإداري، مما يحد من التأثير المباشر للإرادة المجتمعية والمشاركة الديمقراطية، وبالتالي فإن الاستقلال الإداري والإدارة-الذاتية الديمقراطية لا يحملان نفس المفاهيم والمعاني، فالإدارة-الذاتية الديمقراطية تشير إلى المجال السياسي للديمقراطية المحلية، وبالتالي إلى المجتمع الديمقراطي، أي أنّ الإدارة-الذاتية الديمقراطية هي التطبيق المباشر للديمقراطية التشاركية، فالوحدات والمؤسسات والمجالس التي تنشأ من الديناميكيات الداخلية للمجتمع تفعّل مراحل صنع القرار بحرية، دون أن تخضع لسلطة هرمية، لكن في الأساس، ينظر القائد آبو إلى الإدارة-الذاتية باعتبارها جهازاً حياً للمجتمع التاريخي، ويراها كـ بنية متجددة باستمرار ومرنة وديناميكية، إنها نظام يسير وفق الطبيعة الاجتماعية ويخلق كل الآليات التي يحتاجها، بالتالي فإن الإدارة-الذاتية هي وسيلة لإعادة المجتمع إلى طبيعته الحقيقية من جديد، ومن أجل تحقيق هذه الغاية، تعمل على تطوير آلية مرنة وديناميكية وقادرة على التكيف مع الظروف المحلية، لذلك، فإن الوسائل الموجودة لا تحتوي على البنية اللازمة لتلبية هذا الغرض، إذ يمكن الاستفادة منها ولكن لا يمكن أن تكون الأساس.
إن الإدارة-الذاتية ليست نموذجاً إدارياً، بل هي مسألة وعي اجتماعي ومشاركة عملية، وإذا لم يعتاد المجتمع على آليات المشاركة الديمقراطية المباشرة ويفهمها ويستوعبها، فإنه لن يتمكن من التخلص من تأثير الهياكل السلطوية، فبعض نماذج الإدارة المحلية الموجودة في أوروبا تشجع على زيادة مشاركة الشعب في صنع القرار، وهذا يوفر مجالاً عملياً لتطور العقلية الديمقراطية. في حين أن الإدارة-الذاتية تُعتَبر هدفاً نهائياً، فمن الضروري استخدام بعض النماذج الانتقالية لوصول المجتمع إلى ذلك الهدف، علماً أن هذه النماذج ليست حلولاً نهائية، إنما الأمر الأساسي هو فتح مجال ديمقراطي للمجتمع كي يكتسب القدرة والوعي والإرادة للمشاركة في إدارة المجتمع لذاته بشكل مباشر، فإن الجملة السحرية في هذه النقطة هي “فتح المجال الديمقراطي” للمجتمع، كما أنّ الشيء الوحيد الذي يعمل من أجله القائد آبو في الوقت الراهن هو الجهود الرامية إلى “فتح فجوة” داخل نظام الدولة، وخلق “مجال حر” للمجتمع، إذ يبذل جهوداً هائلة للتغلب على الإنكار الصارم وفتح “مجال” للباراديغما، حيث أنّ الإجابة التي تحمل أدق معنى على السؤال حول ما يريد القائد آبو فعله؛ هو فتح المجال نظرياً وعملياً، بغض النظر عن اسمه وهيكله وشكله، فمن الضروري التركيز بشكل أساسي على هذا الأمر والقيام بإتمامه على أكمل وجه، وإلا فإن نماذج الإدارة المحلية الأوروبية ليست وسيلة نهائية، فمن خلال اتخاذ هذه النماذج كمراجع، يصبح من الممكن تكييفها مع ظروفنا وتطوير مساهماتنا، حيث توجد في نماذج الإدارة المحلية الأوروبية، أنظمة إدارية تعتمد على المشاركة الديمقراطية، وتنظم وتلبي احتياجاتها الاجتماعية الخاصة، وتتمتع بالاستقلال في الشؤون السياسية والاجتماعية، وتحدد نظام الولاية/المحافظة من خلال الانتخابات.،ولهذا السبب يقترح القائد آبو نماذج إدارة مختلفة لإيجاد حل للقضية الكردية في إطار باراديغمي وخلق مجال لها، والأهم هو فتح مجال ديمقراطي للمجتمع داخل النظام.
بما أن الأنظمة السلطوية والدولتية لن تختفي بين ليلة وضحاها، فالحل الأمثل هو قيام المجتمع بخلق مجالات ديمقراطية داخل الأنظمة القائمة باستخدام قوته الذاتية، كما يمكن النظر إلى المحور في هذا النهج باعتباره استراتيجية “التحول من الداخل”. كلما تم فتح المجالات الديمقراطية، كلما طور المجتمع من قوة إدارته وتنظيمه وخبرته وتعبيره، وكلما قلل من نفوذ عقلية الدولة والسلطة، ففي نهاية المطاف يمكنه بناء أنظمة إدارة بديلة خاصة، كما أنّ الطريق إلى إعادة المجتمع إلى طبيعته الحقيقية من جديد هو العمليات الديمقراطية التشاركية، والتي من خلالها يصبح المجتمع واعياً، منظماً، ويكتسب الخبرة والمعرفة، ويطور التضامن الاجتماعي، ويخلق الأفراد الأحرار ويكتسب الخبرة لإدارة أنفسهم، فالنقطة المهمة هنا هي أن فتح مجالات الدمقرطة لا يعني إضفاء الشرعية على الدولة، والقضية الأساسية هنا ليست إصلاح الدولة، بل ضمان تخطي المجتمع لاعتماده على الدولة من خلال تطوير قوته الذاتية، ولهذا السبب، إذا كانت نماذج الإدارة المحلية الأوروبية تعمل على زيادة المشاركة المباشرة للمجتمع وتقييد وظائف الدولة، فهي مهمة من حيث فتح مجالات الديمقراطية، ولكن الهدف النهائي هو الإدارة الذاتية للمجتمع.
إن الإدارة-الذاتية ليست مفهوماً مجرداً، بل على العكس من ذلك فهي التجسيد الملموس والعملي للمجتمع الديمقراطي، حيث كانت الإدارة-الذاتية المجتمعية موجودة قبل وجود الدولة، وكانت المجتمعات البشرية تعيش وتدير نفسها بلا دولة لآلاف السنين، ومن هذا المنظور فإن الدولة ليست ضرورة، بل هي شكل من أشكال الإدارة التي تتطور ضد الإدارة-الذاتية، وبالتالي تشكل الإدارة-الذاتية جزءاً لا غنى عنه من المجتمع الديمقراطي، فبعدم وجود الإدارة-الذاتية، يصبح المجتمع مجرد شيء يتطلب الحكم عليه، ولا يمكن للمجتمع الديمقراطي أن يكون كياناً قادراً على تشكيل إرادته واحتياجاته ومستقبله إلا من خلال الإدارة-الذاتية، علماً أن الإدارة الذاتية كالكائنات الحية، أي في حالةِ تغيرٍ وتحولٍ مستمر، فصيغتها هي الكومونات والمجالس ومؤتمرات الشعب، لذلك يتم تنظيمها من القاعدة إلى القمة، بدءاً من القرى والأحياء وصولاً إلى المدن، حيث تتم عمليات صنع القرار بمشاركة الشعب بشكل مباشر، وهي أيضاً قدرة المجتمع على تنظيم حياته في الجوانب السياسية والاقتصادية والصحية والدفاعية والتعليمية والخدمية والثقافية من خلال تنظيم الكومونات والمجالس والتعاونيات والأكاديميات ومؤتمرات الشعب التي تتجلى وتتجسد في الديناميكيات الداخلية للمجتمع، وبالتالي الإدارة-الذاتية ليست مجرد شكل من أشكال الإدارة، بل هي عملية ينظم بها المجتمع نفسه ويتم فيها التغير والتحول باستمرار من الرأس إلى أخمص القدمين، ومن هذا المنطلق، من الضروري أن نتصور بأن الإدارة-الذاتية هي الشكل العملي لمفهوم المجتمع الديمقراطي.
لا يقتصر القائد آبو الإدارة-الذاتية على الإدارات المحلية فقط، إنما يتم تقييمها على أساس نظام مرن وأفقي وشامل يبدأ من الأسفل نحو الأعلى، فالكونفدرالية الديمقراطية هي نموذج تكون فيه المؤسسات الديمقراطية المحلية والإدارات-الذاتية والوحدات الذاتية مترابطة مع بعضها البعض مثل الشبكة، إلى جانب الحفاظ على التنظيم الداخلي لدى كلٍّ على حِدة، ولذلك فإن الإدارة-الذاتية ليست مجرد أن تدار منطقة ما ذاتياً، بل هي نظام يمكن للمجتمعات من خلاله اتخاذ قراراتها الخاصة، بدءاً من المستوى المحلي، وبالتالي فإن المجلس-الكومونة والمنظمات المؤسساتية التي يتم تنظيمها على أساس مفهوم الإدارة-الذاتية والديمقراطية المحلية، والتي يتم التعبير عنها بإرادة الديمقراطية التشاركية، جميعها تستطيع أن تعبر عن نفسها بمفهوم الإدارة-الذاتية الديمقراطية.
يقول القائد آبو أنه إذا تم حرمان المجتمع من الإدارة-الذاتية فلن يتمكن من أن يصبح أمة، لأن الإدارة-الذاتية ليست شرطاً من شروط الوجود السياسي فحسب، بل أيضاً شرطاً للوجود الاجتماعي، وإذا كان المجتمع يفتقر القدرة على تأسيس إدارته الذاتية، واتخاذ القرارات، وتشكيل مستقبله، فسوف يكون محروماً ليس فقط من أن يكون أمة، بل أيضاً من أن يكون مجتمعاً، حيث أن وضع الكرد في الماضي واضح جداً في هذا الصدد، فقد حُرِّمَ الكرد تاريخياً ليس فقط من حقهم في أن يصبحوا أمة، بل أيضاً من حقهم في الحفاظ على وجودهم ككيان مجتمعي، والسبب الأساسي وراء ذلك يتعلق بعدم قدرتهم على الإدارة وعلى تنظيمهم الذاتي، لكن اليوم وضع الشعب الكردي مختلف جداً، فـ مع عملية التسييس التي تم تحقيقها نتيجة النضال المكثف، بدأوا في التنظيم ليس فقط من أجل أن يصبحوا أمة، بل أيضاً من أجل أن يصبحوا أمة ديمقراطية، وهذا التنظيم لم يتشكل بالهوية السياسية فحسب، بل تم تشكيلها بالإدارة-الذاتية السياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والدفاع الذاتي.
وجود المجتمع الديمقراطي والمجال السياسي
إن مقترحات الحل القائمة على عقلية الدولة-القومية والقومية المتطرفة لم تقدم حلاً منسجماً مع سوسيولوجية المجتمع التاريخي، لأن الحلول المبنية على النزعة القومية والثقافية أدت إلى التمييز والتضاد والاستقطاب والهيمنة بدلاً من توفير بنية قائمة على المساواة والشمولية، من شأنها أن تبقي المجتمع متماسكاً، كما أصبحت نماذج الحلول هذه مصدراً للأزمات والتوترات والصراعات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لأنها لا تأخذ ديناميكيات المجتمع وتنوعه وبنيته المتعددة الطبقات والأبعاد بعين الاعتبار، ومن الممكن تناول الحل وتعريفات النظرة الثقافية ضمن هذا النطاق أيضاً، إذ أنّ النظرة الثقافية تُعرِّف وجود فروقات تاريخية واجتماعية واقتصادية وسياسية وبنيوية لشعب ما من خلال التراث الثقافي فقط، وبالتالي فإن النظرة الثقافية قد اختزلت المشاكل الأساسية التي تواجه شعب ما في خصائصٍ مثل الهوية واللغة والفولكلور والأساطير، وتجاهلت الثراء البنيوي والتاريخي والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والدفاع الذاتي والإداري، وبناءً على ذلك، ووفقاً للمنظور الثقافي هذا، فإن مشاكل الشعب الكردي الذي هو من أقدم شعوب مزوبوتاميا، قد تم إيجاد حل لها في تركيا، ففي الواقع، إن حزب العدالة والتنمية وأردوغان يقولان على الدوام أنهما قاما بإيجاد حلٍ للمشكلة الكردية ولم تعد هناك مشكلة قائمة.
إن الحقيقة الأساسية لذاك القول هي النظرة الثقافية المعزولة عن حقيقة المجتمع التاريخي، فلو كان إيجاد حل لمسألة الشعب الكردي ممكناً فقط من خلال حقوقهم في اللغة والهوية، فهناك دروس اختيارية في المؤسسات التعليمية والقناة التلفزيونية الكردية (TRT6) في تركيا، علماً أن هذه المؤسسات لا تتمتع بأية ضمانات قانونية أو دستورية، وفي هذا الصدد، يريد نظام الدولة-القومية في تركيا تحقيق سياسة الإنكار التي لم يتمكن من تحقيقها بفرض سياسة النمط الأحادي وسياسية التجانس اللتان استمرتا قرابة قرن من الزمن، من خلال سياسات النزعة الثقافية. إن سياسة الدولة التركية في تقليص حقيقة الشعب الكردي إلى مجرد حقوق ثقافية من خلال فصله عن بنية المجتمع التاريخي، لم تنجح مع النهج الأخير للقائد آبو، وأساساً القائد آبو يريد إيقاظ الشعب الكردي من خلال اتخاذ بعض الإجراءات ضد هذا الأمر، فكان ينبغي للأكاديميين الترك والكرد في تركيا على حدٍّ سواء أن يكونوا على دراية بهذا الوضع، ولكنهم يعيشون وكأنهم عُميان، لذا لا يمكن اختزال الحقوق التاريخية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والسياسية وحقوق الإدارة-الذاتية لشعب ما وفق وجهات نظر وحلول النزعة الثقافية، وبالتالي أصبح من الضروري نقد المنظور الثقافي والتخلص من تأثيره، بدلاً من تقليص حقوق شعبٍ أو مجتمعٍ إلى مجرد حقوق ثقافية، كما أنه من الضروري النظر إليها في سياق المسائل التاريخية والسياسية والاقتصادية والمسائل المتعلقة بالدفاع-الذاتي والإدارة-الذاتية والعلاقات الاجتماعية.
لقد انتقد القائد آبو في ندائه للسلام والمجتمع الديمقراطي، النظرة الضيقة المحدودة والسطحية والثقافية، بما في ذلك النظرة الليبرالية وما بعد-الحداثية والطبقية وتعريفاتهم، تجاه الشعب الكردي، كما عبّر عن ضرورة النظر إلى الشعب الكردي في سياق علاقات المجتمع التاريخي، ضمن الأبعاد الاقتصادية، السوسيولوجية، الجماعية، أبعاد الدفاع-الذاتي، الإدارة-الذاتية والثراء البنيوية.
من الواضح أن نداء السلام والمجتمع الديمقراطي لم يتم فهمه بشكل كامل نتيجة النهج الضيق المحدود والسطحي والتقليدي. خلافاً لما يُعتَقَد؛ يتناول القائد آبو التعبير عن أبعاد كامل حقوق الشعب الكردي بطريقة جذرية، بدءاً من الحق في حرية التعبير واحترام الهويات وصولاً إلى البنية الاجتماعية والاقتصادية، وقد تم إعداد الأرضية اللازمة للتعبير الحر عن الهويات ولتتمكن كل شريحة من خلق ثرائها البنيوي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي والدفاع-الذاتي والإدارة-الذاتية، كما أن القائد آبو جعل هذه العملية ممكنة ومضمونة بفضل وجود المجتمع الديمقراطي والمجال السياسي، ولذلك أكد على ضرورة أن يكون لكل شعب وهوية مسار تحرر ذاتي ضمن بنية المجتمع الديمقراطي، إذ يحدد القائد آبو أهمية الحقوق الثقافية باعتبارها أساس الديمقراطية، لكن الاختلاف في هذه النقطة يتعلق بتعريف الحقوق الثقافية باعتبارها المجال الذي تعبر فيه المجتمعات والشعوب عن هويتها وحرياتها، فالحقوق الثقافية لا تعني الاعتراف بالهوية فحسب، بل تعني أيضاً ضمان الحقوق الاجتماعية والسياسية والتاريخية والاقتصادية والإدارة-الذاتية والدفاع-الذاتي والحقوق بكل أبعادها.
في الواقع، يؤكد القائد آبو، في سياق المجتمع الديمقراطي، أن المجتمعات أو كل شرائح المجتمع لها الحق في أن تدير نفسها اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً، وإنْ أردنا التعبير عن ذلك بطريقة مختلفة، فهو الحق في الإدارة-الذاتية الديمقراطية الثقافية، وهذا يشكل الحد الأدنى من شروط الديمقراطية، وبالتالي هذا يعني وحماية الهويات وتطويرها والتعبير الحر عنها وإنشاء هياكل إدارة-ذاتية ديمقراطية، وبالتالي فإن الحد الأدنى من شروط الديمقراطية هو الاعتراف بالحقوق الثقافية للمجتمعات وتمثيلها سياسياً، وهذا يعني الإدارة-الذاتية من خلال الجمع بين وجود المجال السياسي والحقوق الثقافية، ففي إعلان القائد آبو عن السلام والحل الديمقراطي، اتخذ الاحتياطات ضد وجهات النظر الثقافية، وعارض تجاهل الهياكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للشعب الكردي، لذلك أراد أن تتم معالجة هذه الحقوق ليس فقط بأبعادها الثقافية ولكن أيضاً بأبعادها السياسية والاجتماعية، من خلال إبقاء المجتمع الديمقراطي والمجال السياسي في المقدمة، وكنتيجة؛ دافع القائد آبو عن نهجٍ يتوافق مع البنية التاريخية والاجتماعية للمجتمعات، كما اقترح حلاً سياسياً للتحرر من خلال الحقوق الثقافية.