دراسة حول فن الرسم عند الفراعنة
خلّد الفراعنة أنفسهم كبناة حضارة إنسانية لا يزال أثرها وسحرها متواصلين إلى اليوم. وربما مصدر السحر الأبرز للحضارة الفرعونية لا يتوقف عند حدود التطور العلمي الكبير الذي بلغوه، بل مصدره الأساسي الآثار الخالدة التي تركها الفراعنة والتي تعتبر شواهد فنية راسخة على عظمة حضارتهم، ومن ذلك فنون الرسم التي أبدعوا فيها بشكل لافت كما يبيّن كتاب “فن الرسم عند قدماء المصريين”.
تعد دراسة “فن الرسم عند قدماء المصريين” لأستاذ الفنون القديمة والأثري الإنكليزي وليم هـ. بيك عن فن الرسم في مصر القديمة، أول دراسة من نوعها ليس في اللغة العربية فحسب بل في تاريخ الفنون الإنسانية عامة، وذلك وفقاً لعالم الآثار المصري الدكتور أحمد قدري، الذي راجع وقدّم هذه الدراسة الصادرة عن مكتبة الأسرة وبترجمة مختار السويفي.
ويشكل هذا المؤلف تحليلاً يتعرض لتطور تجربة الإنسان القديم في مصر في سعيه نحو أسلوب فني مميز في الرسم، كما أنه يبيّن العلاقة العضوية بين التطور التاريخي والثقافي العام لهذا الإنسان وبين التشكيل الخطي والجمالي لفن الرسم والذي وصل إلى مشارف درامية في التعبير يمكن أن تعدّ انعكاسا لواقع حضاري لعب فيه الفنّ والفنان، خاصة الرسام، دوراً رائداً مميزاً في تأريخ الفن الإنساني.
فن الرسم
يرى وليم أن أي إشارة إلى الفن المصري القديم، تستحضر إلى الذهن فورا تلك الصور التي يكمن فيها قدر كبير من العظمة والتماثل، والتي تبدو وكأنها استبعدت تماما أي رؤية شخصية للفنانين الذين أبدعوها. وذلك مثلما نشير إلى الحضارة المصرية القديمة، فتحضر إلى الذهن فوراً مجموعات من الإنشاءات الضخمة كالأهرام والمعابد والمقابر.
ومع ذلك، فإن المتذوق والمدقق في الأعمال الفنية من نتاج مصر القديمة، يمكنه أن يلمح نوعاً من الخروج عن التقيّد بالقواعد الرسمية. وقد ينبع في نفس المتذوق إحساس متخيل ما، إلى البحث عن الشواهد التي تؤكد له رؤيته الخاصة لما كان يدور في ذهن الفنان المصري القديم أثناء انغماسه في التعبير الفني. وهكذا كلما تعمق المتذوق في دراسة الفن المصري القديم والثقافة المصرية القديمة بصفة عامة، فإنه يعثر على مؤشرات لا حصر لها تدل على حرية الفنان المصري في التعبير عن فهمه المتعمق للطبيعة وإحساسه بما فيها من بهجة وجمال.
الفن الذي تتولد منه الفنون الأخرى
ويؤكد الباحث أن فن الرسم لم يكن يعتبر فنّاً مستقلاً قائماً بذاته لدى قدماء المصريين طبقاً لمفهوم فن الرسم المستقل الذي نعرفه في عالم اليوم. بل كان يعتبر عملا تحضيرياً لفنون أخرى هي التصوير والنحت والعمارة. وربما لهذا يعتبره غالبية علماء الإيجيبتولوجي فناً أقل أهمية من الفنون الأخرى التي عرفتها ومارستها مصر القديمة. ومع ذلك فلا يجب إساءة تقدير فن الرسم عند قدماء المصريين على هذا النحو، بل يجب النظر إليه باعتباره الفن الأب الذي تتولد منه هذه الفنون الأخرى. فالمصريون القدماء رسموا الاسكتشات على الأسطح الصخرية والأسطح الخارجية للأواني في زمن ما قبل التاريخ وقبل اتحاد الوجهين القبلي والبحري ونشأة الدولة المصرية، حتى بدأ الانبعاث الحقيقي لفنون التصوير والنحت والعمارة.
ويشير إلى أن الطريقة التقليدية الموحدة التي تحكم فن الرسم المصري ظلت سائدة ومطبقة طوال جميع مراحل التاريخ المصري الفرعوني، وأن الفن المصري كان ذا بعدين اثنين، وكان يقوم بصفة أساسية على فكرة الخط المرسوم. وعندما نتأمل في أعمال التصوير أو النقش المنحوت والتي لم يكملها الفنان المصري القديم لسبب أو لآخر، نجد أن المعالم الخارجية لمثل هذه الأعمال قد تحددت بالخطوط المرسومة. بل وحتى بالنسبة لأعمال النحت المصرية القديمة ذات الأبعاد الثلاثة كانت لا يمكن أن تبدأ إلا بتحديد معالمها عن طريق الرسم المبدئي على الأسطح الثلاثة للكتلة.
مراحل التطور
يؤكد وليم أن أصول فن الرسم في مصر القديمة ترجع إلى فترة ما قبل التاريخ. فمجتمع الصيادين الذين كانوا يعيشون على أطراف ومشارف وادي النيل وفي صحراء الصعيد والنوبة السفلى في أواخر العصر الحجري القديم منذ نحو 15 ألف سنة، تركوا رسومهم على أسطح الكتل الصخرية في تلك المناطق، مثلهم في ذلك مثل مجتمعات العصر الحجري القديم التي كانت تعيش في مناطق أخرى من العالم.
ويشير إلى أن مصريي العصر الحجري القديم رسموا صوراً عديدة لحيوانات مختلفة مثل: الزرافات والأفيال والظباء الجبلية والغزلان والوعول الجبلية والسحالي والحيات والتماسيح. كما رسموا عملية الصيد، حيث يظهر فيها الصياد ومعه قوسه وسهامه أو وهو ينصب فخاخ الصيد للإيقاع بالحيوانات التي يتربص بها. ومن المحتمل أن مثل هذه الرسوم كانت تتعلق بأغراض سحرية بقصد نجاح الصيد ووفرته.
وفي حوالي نهاية الألف الخامسة قبل الميلاد، بدأ سكان وادي النيل يستقرون في القرى ويمارسون الزراعة، ويستعملون أدوات جديدة مثل القدور الفخارية والأواني والمناجل وحبات الخرز المستخدمة في الزينة. ومع ذلك فحتى بداية الألف الرابعة قبل الميلاد لم نعثر على القدور أو أي نوع من الأواني الفخارية عليها أي تشكيل يمكن إدراجه تحت اسم فن الرسم.
ويكشف وليم أنه بعد بداية الألف الرابعة قبل الميلاد، بدأت في الظهور على الأسطح الخارجية للقدور والأواني الفخارية المصقولة والتي تأخذ غالبا اللون الأحمر، أشكال عبارة عن تكوينات من الخطوط البيضاء المتوازنة والمتعارضة. وقد ظهرت هذه الرسوم في عصر ما قبل الأسرات، وفي الحضارة المسماة حضارة العمرة أو حضارة “نقاده الأولى”. وفي هذه القدور والأواني التي عثر عليها ويرجع تاريخها إلى تلك الفترة، نلاحظ أن الزخرفة كانت تأخذ غالبا الشكل الهندسي بالإضافة إلى محاولات بدائية لرسم “موتيفات” حيوانية أو نباتية، خصوصا محاولات رسم أشكال تمثل بعض الحيوانات المعروفة التي كانت تعيش في وادي النيل المصري، كالأسماك وأفراس النهر والتماسيح والعقارب. ومن المؤكد أن هذه الاسكتشات والرسوم البدائية كانت البدايات الحقيقية لطرق الرسم التقليدية التي ظهرت وتطورت خلال التاريخ المصري القديم وحتى ظهور المسيحية في مصر وما أدت إليه من تطورات فنية.
ويضيف أنه في حوالي منتصف الألف الرابعة قبل الميلاد ظهرت حضارة أخرى سميت حضارة “جزرة” أو حضارة “نقاده الثانية” وهي أكثر تطورا من الحضارة السابقة. وقد ظهر هذا التطور واضحاً في ما عثر عليها من المصنوعات الفخارية والخزفية “السيراميك”. وكانت الزخرفة المرسومة على أسطح تلك المصنوعات أكثر تطوراً حيث ظهرت عناصر فنية جديدة، كما أصبح رسم التكوين الفني الذي يمثل الجسم البشري أكثر استخداما وظهورا. وكان الرجال أو الآلهة الذكور يمثلون بأكتاف عريضة وأرداف نحيلة. أما النساء أو الآلهة الإناث فكن يمثلن بأرداف عريضة ورؤوس كبيرة، ومعظمهن كن يرفعن أذرعتهن إلى أعلى، الأمر الذي قد يفهم معه أنهن كن يؤدين رقصات دينية طقسية.
ويرصد وليم أهم العناصر الفنية التي شاع رسمها بكثرة، فهي المراكب النيلية التي كانت ترسم بعناية وتفصيلات عديدة تتضمن إبراز المجاديف والكبائن والنواويس المُنشأة على أسطح تلك المراكب بما فيها من ركاب وبما تعلقه على صواريها من رايات وشارات.