الحدث – القاهرة
يبدو أنّ الخيط الرّفيع بين العالم الافتراضي والواقعي قد قُطع واشتبكت الأمور إلى حدٍّ لا يمكنُ التّفريق بينهما، ويصعب معه تمايزهما، ففي هذا العصر الذي شهد أكبرَ حملات هجرةٍ ولجوء ونزوحٍ، لعلّنا نجد أن أكبر هجرة شهدتها البشرية على الإطلاق هي الهجرة من الواقعيّ إلى الافتراضي، والسّكن في وسائل التّواصل الاجتماعيّ.
وعندما تغدو هذه الوسائل وطنًا جديدًا فمن الطّبيعي أن تحدث اهتزازتٌ عنيفةٌ تتجاوز السّطح إلى الأعماق في الوضع الإنسانيّ والبنية الاجتماعية، لا سيما بعد أن ارتفع عدد مستخدمي منصّات التواصل الاجتماعي بنسبة 29 % في العامين الأخيرين حيث زاد العدد عن 2.5 مليار شخص في قفزة تشير إلى أهمية هذه الشبكات بالنسبة لحياة الكثير. وقد كشفت إحصائيّات الرّبع الأخير من عام 2016 أنَّ عدد مستخدمي هذه المنصات بلغ 2.6 مليار مستخدم وهو ما يمثل 70 % من إجمالي مستخدمي الانترنت في العالم البالغ عددهم 3.4 مليار شخص في وسائل التواصل الاجتماعي التي هيَ الأكثر انتشارًا على شبكة الانترنت؛ وذلك لما تمتلكه من خصائص تميزها عن المواقع الإلكترونية، إذ مثّلت ثورةً حقيقة في عالم الاتصال، وأصبحت أفضلَ وسيلة للتّواصل بين الأفراد والجماعات، ومن هذه الشبكات والوسائل المستخدمة في الوطن العربي ” فيسبوك، واتس آب، يوتيوب، انستغرام، وتويتر”.وهذه الوسائل تعمل على تطوير ذاتها دومًا بما يخدم فكرة التّواصل، فأتاح البعض منها إجراء المكالمات المصوّرة وتبادل مقاطع الفيديو ومشاركة الملفّات والتّواصل والتّفاعل بين الجمهور والمتلقّي. وتعد المرأة من أهم الشّرائح المستفيدة من وسائل التواصل هذه، بل المستخدمة لها والمدمنة عليها ربما وقد وصلت نسبة استخدام النساء لهذه المواقع 30% حسب ما أصدر مركز المرأة العربية للتدريب والبحوث. قد حطّمت وسائل التواصل الاجتماعي الكثيرَ في أعماق النساء، وأحدثت شروخًا في أرواحهنَّ ليس من السهل على الإطلاق ترميمها أو ردم تصدّعاتها، كثيرةٌ هي التّصرفات التي قد تؤذي من حيث لا نشعر، ومنها ما أدمَنه عددٌ من النّساء في التّباهي بحميميّة الحياة الزوجيّة وعرضِها في الفضاء المفتوح بطريقة المناكفاتِ اللّطيفة أو الغزل الفجّ علنًا في الصّور والتعليقات والحوارات المفتوحة للجميع، أو في المنشورات التفاعليّة الأسريّة بين مجموعة من الشّقيقات بطريقة تُظهر الحياةَ بسعادةٍ طافحةٍ لا همّ فيها.وهذا يؤدّي بالكثيرات إلى حالة من التذمّر الدّاخلي من الزوج الذي لا يفصح عن مشاعره جيّدًا، أو لا يُخرج مشاعره خارج دائرة البيت ويبقيها حبيسة الجدران، كما يؤدّي بها الأمر إلى النّفور من أفراد أسرتها المنهمكين في أعمالهم المنشغلين عنها، وهي تظنّ أن الصّورة الدائمة لحياة أولئك المتباهين هي ما سطّروه على صفحات وسائل التّواصل.
كما تتكرّس هذه العقد من خلال متابعة صفحات المتفاخرين بأفعالهم وإنجازاتهم ومثاليّتهم الفارهة،فمثلا/ فتاة تبلغ من العمر 33 عامًا تقول: “إنها تتابع صفحات هؤلاء الناجحين أو “مدّعي النجاح” فتزداد حزنًا على نفسها التي لا تملك من القدرات ما تجاريهم فيه، مما يسبِّب لها إحباطًا ويأسًا يُقعدها عن فعل شيء، وتدخل بعدَ كلّ جولةٍ من المتابعةِ والتفكيرِ في حالة من الاكتئاب الشّديد، وقد يصل بها الأمرُ إلى الدخول في موجاتِ بكاءٍ شديدةٍ وطويلة وغير مفهومة، وشعورٍ سلبيّ تجاه ذاتها الفاشلة“. أمّا أضافت إحداهن أنها لا تستطيع تطبيق الصورة المثاليّة الجميلة التي ترسمها مواقع التواصل لعدد من الشخصيات التي تتبعها معيشيًّا وفكريًّا. يجبُ أن نُعزز ثقتنا بأنفسنا وأن نسعى إلى أن نكون أنفسنا لا غيرنا، فاستنساخ الذات من الآخرين ليس نجاحًا، بل النجاح أن نعرف ذواتنا بحق، ونرسخها في الحياة الواقعية والافتراضية على حد سواء.
ونعتقد إذا كان العالم الافتراضي أتاح للكثيرين فرصة استعراض العضلات الوهميّة، والتّفاخر بالإنجازات الوهمية والاستكثار من صفاتٍ وأفعالٍ لا تعدو كونها ضربًا من الخيال إلا أنه في المقابل هناك نماذج ناجحة ومتألّقة تستحقّ المتابعة والتفكّر في خطِّ سيرِ نجاحها من أجل اقتفاءِ أثرِها للوصول إلى النَّجاح، إلا أنَّها أقلُّ بكثيرٍ مما نتوقَّعه. من المهمّ جدًّا أن نبحث عن النَّماذج الحقيقيّة الناجحة، ونتفكَّرَ في أسباب نجاحهَا، ونعمل على تطبيقها مع قناعتنا بأن الله عز وجل خلق الناس مختلفين في القدرات والأنماط، وهذا من نعم الله على البشرية من أجل تحقيق التكامل فلا ينبغي أن نسعى للتّطابق مع الآخر بل ينبغي أن نكتشف مواطن الإبداع فينا، ونعزّزها ونطوّرها.