الثلاثاء 24 ديسمبر 2024
القاهرة °C

دكتورة رشا غانم تكتب : نظام الحكم في الإسلام “عبقرية أبو بكر وعمر، والشيخان نموذجا”

الحدث – القاهرة

عبقت ذاكرة التاريخ الإسلامي بعدد من الشخصيات الخالدة  كان لها أعظم الأثر  في الأحداث الجليلة التي مرّت بها الأمة الإسلامية ،فنرى اهتماما شديدا بشخصيتين كريمتين هما:(أبوبكر،وعمر) تقديرًا لمكانتهما،واستجلاءًا لما استبان من أسس وقواعد نظام  الحكم الإسلاميفي عهد خلافتهما،وقد كان لكتابة العقاد وطه حسين عنهما مذاقا خاصا تميزا به ، حينما كتبا عن أبي بكر وعمر تأثرا كل التأثير بلغة الدراما والحوار وصناعة القصة والرواية فكان حديثهما تصويرا مشوقا لكل ما تعلّق بسيرتهما ،وبالأحداث الجلل التي عاشها  المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت العسير  بدءا من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى تولى أبو بكر الخلافة ومن بعده عمر باعتبار “أن القرآن الكريم لم ينظم للمسلمين أمر الخلافة ،ولا توارثها،وأن النبي لم يترك وصية أجمع عليها المسلمون،ولو قد فعلها لما خالف عن وصيته أحد من أصحابه ،لا من المهاجرين ولا من الأنصار()

ولكن ألسنة الرواة  أطلقت  كثيرا من الروايات عن الخلافة  رواها عنهم المؤرخون من غير تحقيق أو تمحيص ” () والأغلب كما يرى  العقاد “أن أمر اختيار خليفة رسول الله قد وقع منهم جميعا موقع المفاجأة ،التي لم يتدبروا فيها إلا بعد وقوعها،ولم يبرموا فيها الرأي على نحو من الأنحاء قبل اجتماع الأنصار بسقيفة بني ساعدة” ()

وعندما عرفا بالأمر أبا بكر وعمر خرجا إلى السقيفة على غير اتفاق قديم بينهما”()

وقد أبان طه حسين أن هذا الاجتماع “همّت فيه الأنصار أن تؤمر سعدا ، وحين حاورهم أبو بكر وصاحباه ،فهنالك رشّح  أبو بكر للأنصار عمر أو أبو عبيدة ،وكره هذان أن يتقدما عليه فأسرعا إلى بيعته وتبعهم الأنصار ()

والمهم أن أبا بكر وصاحبيه قد أقنعوا الأنصار في يسر فلم ينصرفوا عنهم إلا وقد بايعوا لأبي بكرولو قد كان الأنصار حراصا على الحكم ،والاستئثار بالسلطان لما أتيح لأبي بكر وصاحبيه أن يقنعوهم في ساعة من نهار ()

وعندما نتحدث عن نظام الحكم في الإسلام  فقد صارت بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم وانقطاع الوحي شريعة الله الخالدة هي الحكم وتعد البنية الأولى من نظام الحكم الإسلاميفالله هو الحاكم وهو المُشَّرع وهو المُحلل والمُحرم، وشريعة الله يجب أن تكون الحاكمة والمنظمة لحياة الناس قال تعالى: (إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) ()

حيث تحكم بين الناس حكاما ومحكومين ولم تحدد الشريعة طريقا معينا لاختيار الحاكم ، وإنما تركت ذلك لجماعة المسلمين ، فهي التي تختار الحاكم وهى التي تراقبه وتحاسبه إن جار . وإذا كانت البيعة هي الركن الأساسي للخلافةفالواقع أن القرآن لم يشرع نظاما لاختيارالخلفاء ،وأن السنة كذلك لم تشر إلى هذا النظام ،وإنما تعوّد المسلمون نظام البيعة أيام النبي وبما أنه كان يوحى إليه ،فلم يكن يبايع عن نفسه ،وإنما يبايع عن الله الذي أرسله أولا،وعن نفسه بعد ذلك ،أما بيعة الناس للخلفاء فهي عقد بينهم وبين هؤلاء الخلفاء”()

وهذا العقد يوثق بأن تكون الأمة هى مصدر السلطات وهذه الدعامة الثانية من نظام الحكم الإسلامي فسلطة الأمة التي تجعل االخلافة بالبيعة والعقد والاختيار،والتي تجعل لها الحق في مراقبة الحاكم ومحاسبته عندما قال أبو بكر”إن أحسنت فأعينوني،وإن أسأت فقوموني”() وقال أيضا: أطيعوني ما أطعت الله ورسوله فإن عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم ()    

فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ومن هنا  دبّر أبو بكر وأصحابه كل ما يُحمد تدبيره بعد قيامه بالخلافة؛ لتوطيد أركانها ،وحماية الإسلام غوائل عصيانها،والتمرد عليها،وجهدوا أن يفرقوا كل اجتماع يخشون مغبته على وحدة المسلمين”()

كانت الأمة في نظام الحكم الإسلامي هي التي تختار حاكمها ، وتراقبه وتناصحه ، وتحاسبه ، وتملك وحدها عزله إن حاد عن الطريق السليم ، فالحاكم وكيل عن الأمة يستمد سلطانه منها ، أو هكذا ينبغى أن يكون الحاكم في المجتمع االإسلامي؛ لأن الأمة هى صاحبة السيادة في الدولة الإسلامية فسلطة الدولة سلطة مدنية مرجعها الأمة .

وعندما نتطرق لمفهوم الخلافة نجدها “حمل الكافة على مقتضى النظر الشرعي في مصالحهم الدنيوية والأخروية الراجعة إليها() ، فصلاح الدنيا والآخرة للأفراد في النظام الإسلامي” يقوم على نظام حكم يقوم فيه الخليفة مقام سيدنا محمد-صلى الله عليه وسلم-في تصريف أمور الأمة وتدبير شئونها لما فيه مصلحتها في الحياتين الأولى والآخرة” () وعلى سبيل المثال عندما استخلف أبو بكر عمر في مرضه الذي توفى فيه ولكنه لم يطمئن على وصيته حتى استشار نفرا من أصحاب رسول الله ثم أمر عثمان أن يسأل جماعة المسلمين أتبايعون لمن في هذا الكتاب؟ فلما قالوا نعم اطمأنت نفس أبي بكر وأرسل إلى عمر ونصح له ووصاه ،وكل ذلك لم يلزم المسلمين طاعة عمر” “()

لأنه لو رفضته الأمة ولم تبايعه لاختير غيره وبايعوه باعتبارها مصدر السلطة.

كما يمثل مبدأ الشورى أساسا ثالثا من نظام الحكم الإسلامي حيث يعد  من أهم مقومات نظام الحكم في الإسلام وقاعدة أساسية من قواعده،ثابتة بالقرآن والسنة وإجماع الأمة، وهو حق للأمة وواجب على الخليفة، والتفريط به يؤدي إلى عزله.وجعل الله الشورى نفقة ينفق المسلم والمسلمة لمصلحة المسلمين مما عنده من عقل وعلم ومعرفة وأدب وحكمة وفن كما ينفق الرجل من ماله على الضعيف المستحق.

وقال تعالى:(وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) ()

وقد أقام عمر نظاما للشورى على أحسن ما يقام عليه في زمانه فجمع عنده نخبة الصحابة للمشاورة،والاستفتاء، وجعل موسم الحج للمراجعة والمحاسبة،واستطلاع الآراء في أقطار الدول …وكان يستشير جميع هؤلاء ،كما أنه لم يلتمس الرأي عند أهل الحنكة والخبرة وكفى ،بل كان يلتمسه عند أهل الجدة والنشاط ممن يناقضون أولئك في الشعور والتفكير فكان إذا أعياه الأمر المتعضل دعا الأحداث لحدة عقولهم”()

وتعد ميزة رائعة امتاز بها عمر مما يدل على فطنة وذكاء وحكمة طبعت فترة حكمه.

واطنب العقاد في وصفه بقوله:”وإنه لإلهام في فن الاستشارة لا  يلهمه إلا صاحب

رأي أصيل فمن الرأي الأصيل أن يخبر الإنسان كيف يستعير آراء المشيرين”()

وإذا كانت حكومة  الخلافة لم تقرر الديمقراطية ()على أساسها العصري

المعروف بيننا فهي بلاريب- قد أبعدت مبادىء الأوتوقراطية،ومبادىء الثيوقراطية،ومبادئ الأليجاركية ومبادئ  حكومة الغوغاء”()

وقد تأسست الدولة الإسلامية في خلافة أبي بكر لأنه “وطّد العقيدة ،وسيّر البعوث،فشرع السنة الصالحة في توطيد العقيدة بين العرب بما صنعه من حروب الردة،وشرع السنة الصالحة في تأمين الدولة من أعدائها بتسيير البعوث،وفتح الفتوح،فكان له السبق على خلفاء الإسلام في هذين العملين الجليلين”()

وقد حافظت الدولة الإسلامية في عهد أبي بكر وعمر على التوازن الدقيق بين ممارستها لسلطانها الذي تمثل في اختيار الحاكم ومراقبته والتشاور معه وبين الطاعة والتوقير ،وغلق أبواب الفتن،وعندما أفرطت الأمة في إحساسها بسلطانها ،وفرطت في توقي الفتن ،وقع ما وقع من قتل عثمان ،والخروج على علي ،وما تلاه ذلك من محن”()

وخير مثال على ذلك من سيرة الصديق بعثة أسامة التي نستنبط منها ملحما خامسا من نظام الحكم في الإسلام وهو مبدأ الطاعة الملمح الرابع لنظام الحكم الإسلامي  حيث كانت العنوان الأول لسياسة عامة في الدولة الإسلامية،هي في ذلك الحين خير السياسات كان قوامها كله طاعة ما أمر به رسول الله ،وكانت الطاعة مناط السلامة،وعصمة المعتصمين  من الخطأ الأكبر في ذلك الحين،…طاعة أو لا شىء ،فإن بقيت الطاعة فقد بقى كل شىء”()

الإسلام أوجب على الرعية أن تطيع ولي الأمر ما دام مطبقا للشريعة الإسلامية حاكما بينهم بالعدل ولا يأمرهم بمعصية، وإلا فإذا اختل شرط من هذه الشروط فلا طاعة له عليهم ،فالطاعة دعامة من دعائم الحكم في الإسلام، وقاعدة من قواعد نظامه الأساسي.

أما عمر فقد ندر في الدولة الإسلامية نظاما لم تكن له أوَّلية فيه…فافتتح تاريخا،واستهل حضارة،وأنشأ حكومة،ورتب لها الدوواين ،ونظم أصول القضاء،والإدارة،واتخذ لها بيت مال …فوضع دستورا لكل شىء ،وتركه قائما على أساس لمن شاء أن يبنى عليه”()   فكانت الطاعة له واجبة ليتحقق كل تقدم وازدهار للمجتمع الإسلامي.

وينظر الإسلام إلى العدل وهو الملمح الخامس من أسس الحكم ،وقد ألح القرآن الكريم في طلبه وجعل القيام به هدف الرسالات السماوية بعد الإيمان بالله الواحد، قال تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ) ()              

وكان أمير المؤمنين عمر مثالا  للعدل، فالعدل كان مظهرا من مظاهر خوفه من الله،وإحضاره نفسه حساب الله عز وجل ،وتحرجه من أن يصنع أشياء لا لشىء إلا لأنه يكره أن يسأله الله عنها يوم القيامة ومن أجل ذلك هابه الناس” ()

فقد كان عمر شديد الحرص على صيانة مال المسلمين يصونه من نفسه أولا فلا يأخذ منه إلا قوته،وقوت أهله وكسوته،ويصونه من عماله فيراقبهم في إنفاق المال أشد المراقبة”() لأن بتحقيق العدل لا يكون فيهم عاجز متروك ولا ضعيف مهمل ولا فقير بائس ولا خائف مهدد .

وتعد “الوحدة ملمحا سادسا من نظام الحكم الإسلامي ظهرت بصورة مشرقة في حروب الردة حيث”كان أمانها على الإسلام أن المرتدين متفرقون لا تؤلف بينهم وحدة معلومة المقاصد في السياسة،ولا في الدين،وأنهم هددوا المدينة بجموع البادية ،فأثاروا فيها سليقة الدفاع ،ووحدوا بين صفوفها وهي موشكة أن تتصدع بين الشيعوالأهواء،فعلم أهل المدينة كما علم أهل مكة أنهم مهددون  بجائحة من البادية لا يطمئنون بعدها إلى مصير،وهبّوا يتعاونون ويتكاتفون لاتقاء الجائحة””() 

فالوحدة  سبب رئيس من أسباب انتصارتهم الساحقة على المرتدين .

نظام الحكم في الإسلام كان له دعائم وأسس قويمة  ،وهي تستمد دستورها من كتاب الله وسنة رسوله وكل أساس مرتبط بتطبيق الأسس الأخرى فالشورى والطاعة ،والعدل، والوحدة، دعائم ترتبط ارتباطا وثيقا  بتطبيق شرع الله ، ومصدر السلطة الذي يتمثل في الأمة .

to top