على كل مثقف أو كاتب أو سياسي أن يعرف جوانب وخصائص القوى أو المجتمع الذي يخاطبه أو يتعامل معه حتى يتجنب الأخطاء الاستراتيجية المصيرية التي قد تؤدي إلى كوارث للمجتمع أو القوى التي ينتمي إليها أو يؤثر فيها، أما إذا اقتنع بالمظهر أو بما يتم الترويج له فذلك هو الخطأ الأكبر والطامة الكبرى، فكم من أشخاص أو قوى ارتكبت أكبر الجرائم ثم عملت على تبييض صفحتها بالدعاية أو الترويج لعكس ممارساتها وأفعالها، والتاريخ الحقيقي هو السجل الذي يمكن الرجوع إليه لتقييم شخص ما أو قوة ما. والتعرف على الذهنية الحقيقية لتلك القوى هو الأهم، لأن الذهنية هي التي تتحكم بالأفعال والممارسة العملية، وعند التعرف على الذهنية التي هي منطلق الممارسة يمكننا تفسير الممارسة العملية ودوافعها وبالتالي التعامل معها سلباً أو إيجاباً. ومعرفة الذهنية ممكنة من خلال التعامل والتعرف على الكتاب والمثقفين المقربين من السلطة ومناهج التدريس.
تركيا بزعامة أردوغان باتت قوة إقليمية فاعلة في الشرق الأوسط سلباً أو إيجاباً، فما هي ذهنيتها ودوافعها؟ وكيف يجب التعامل معها؟. وعلينا أن نعلم أن الذهنية التي تعمل بها الفاشية التركية ليست وليدة اليوم، بل لها جذورها التاريخية المتوارثة بالإضافة إلى ممارساتها خلال الاستعمار العثماني ومرحلة جمهورية تركيا، وما تقوم به تركيا اليوم ليس سوى ثمرة ما زرعته في ذهنية أجيالها أو الذين يتحكمون في سياسة البلاد في الوقت الراهن.
الأتراك يذكرون في مناهجهم أن أجدادهم قَدِمُوا إلى الشرق الأوسط منذ القرن العاشر بعد سنوات القحط والجفاف الذي حل بهم في آسيا الوسطى التي تتشابه مع صحراء الجزيرة العربية، ولا يذكرون أنهم كانوا فيها قبائل متناحرة على الماء والكلأ بعيدون عن أي شكل من أشكال الحضارة، ولا يذكرون أن ميزوبوتاميا التي تعرضت لغزوهم كانت تحيا حضارة عصرها نتاج ثقافة شعوبها وعلاقاتها المجتمعية، وأن القبائل التي سبقت ذابت فيها نتيجة للعلاقات المجتمعية المتطورة؛ بينما السلاجقة والعثمانيون والمغول الذين كانوا أفخاذاً لهم لم يذوبوا بل فرضوا على الشعوب منطقهم.
المغول لم يقبلوا حضارة المنطقة ولم يقبلوا بالإسلام عقيدة مثل أغلبية شعوب المنطقة فانتهوا، أما السلاجقة فقد استطاعوا مزج ثقافتهم التي تعتمد الغزو والتدمير والقتل مع الإسلام الشيعي ومارسوا كل أفعالهم المتوارثة من أجدادهم تحت غطاء نشر الدين الإسلامي الشيعي، بينما العثمانيون تبنوا المذهب السني ومارسوا كل أفعالهم من قتل وإبادة ونهب وسلب تحت غطاء الإسلام السني بما في ذلك القضاء على أبناء عمومتهم السلاجقة الشيعة. والتركمان الذين نراهم مشتتين في الشرق الأوسط هم الذين استطاعوا النجاة من المجازر العثمانية أو (زوائد سيوفهم) كما يحلو للأتراك تسمية بقايا الشعوب التي أبادوها.
نظراً لأن الأفواج القادمة من آسيا الوسطى لم تكن منسجمة مع شعوب ميزوبوتاميا لا ثقافياً ولا اجتماعياً ولا تاريخياً واجهت مقاومة عنيفة وعدم الاستقرار، ولهذا لجأت إلى الإسلام ليس إيماناً به أو تقبل المبادئ الإسلامية وإنما وسيلة للتواصل والقبول وفتح السبيل أمام استغلال الشعوب واستعبادها بدلاً من احترام الشعوب وثقافاتها وتراثها. بينما تقاليدهم تقدس القائد والعسكري الظالم مهما كان ظلمه إذا كان منهم؛ أما قادتهم فقد أجادوا كافة أساليب المكائد والتحايل وبث الفتنة في المجتمع للحفاظ على قيادتهم.
فنظرة واحدة إلى الأرشيف العثماني يكفي للاستدلال على ما أوردناه، فلم يتم الاعتناء بأي معلم مقدس لدى المسلمين في الحرمين الشريفين، ولم يحتمل أي من السلاطين العثمانيين زيارة الحرمين وإنما أجادوا استغلال المسلمين وذبحهم باسم الإسلام والمذهبية فبهذه الحجة استطاع العثمانيون القضاء على السلاجقة لأنهم شيعة.
وتاريخ السلاطين مليء بمكائدهم للوصول إلى السلطنة أو الاحتفاظ بها، فمنهم من ذبح العديد من أخوته ومنهم من ذبح أباه أو أخاه وسلالته، ويقال أن محمد الفاتح المؤسس ذبح سبعة عشر من أخوته خوفاً من التآمر.
الجيش العثماني الذي يسمى بالإنكشاري تألف من أبناء ضحايا العثمانيين، فعند غزوهم لأي بلاد أو مدن كانوا يقتلون الآباء والمحاربين ويخطفون الأطفال لوضعهم في مدارس عسكرية بحيث ينشأ الطفل بعيداً عن كافة المقاييس والأخلاق المجتمعية ولا يعرف تاريخه أو انتماءه. ولا يعرف سوى السلطان أباً والدولة العثمانية أماً والإخلاص لهما، بالمقابل يسمح له بفعل ما يشاء دون حساب بحيث كان الجندي الإنكشاري يذبح الشخص في الشارع أمام أنظار الناس لبث الرعب دون أن يحاسبه أحد…. كانت هناك وحدة خاصة في مقدمة هذا الجيش تسمى “وحدة المجانين” وكانت تغزو أي منطقة أو قرية أو مدينة تمهيداً لوصول الجيش الإنكشاري. هذه الوحدات تشبه داعش في يومنا الراهن. فعند غزو القاهرة تم ذبح ثمانية آلاف شخص في يوم واحد عام 1517، وكذلك فعلوا بكل المدن التي مرَّوا بها من مرج دابق وصولاً إلى مصر.
وبمراجعة مقتضبة للتاريخ تكشف كل هذه الحقائق. ومرتبة الباشا تعني القائد العسكري، وكان لكل إقليم باشا يرتبط بالسلطان مباشرة والشرط في مقام الباشا أن لا يكون من أهل الإقليم كي لا تكون له قاعدة شعبية يعتمد عليها للخروج ضد السلطان في أي يوم من الأيام ، وبذلك يكون الباشا مثله مثل الجيش الإنكشاري يرى السلطان أباً والدولة العثمانية أماً ليرى بقاءه ووجوده مرتبط بهما.
النظرة العثمانية إلى الشعوب الأخرى هي نظرة استعلاء، وكل الشعوب يجب أن تبقى خانعة للباشا وللسلطان وتدفع له الضرائب المقررة دون أي اعتراض، وعندما استَشْرَتِ الأفكار القوموية في السلطنة العثمانية وانتشرت أفكار الاتحاد والترقي وتركيا الفتاة، بدأت الطبقة الحاكمة تتمثل أفكاراً شبيهة بالنازية وهي أن “العنصر التركي هو الأعلى وما على الشعوب الأخرى إلا أن تكون خدماً لها”. وعندما يذكر هتلر في كتابه “كفاحي” أنه يرى في مصطفى كمال أتاتورك قدوة له فلن يكون مستغرباً. وانطلاقاً من هذه الرؤى أبادوا الأرمن والبونتوس والسريان والروم (يسمونهم العرب باليونانيين)
بينما نظرتهم إلى الكرد هي أنهم متوحشون ويجب أن يبقوا في جبالهم إلى أن يذوبوا في البوتقة التركية، وأما العرب فهم قبائل متخلفة صحراوية خانوا العثمانيين، ولكن الله رزقهم بالبترول وهم لا يستحقون ذلك فيجب الاستيلاء على هذه الثروة بأي وسيلة كانت. والتمعن فيما يمارسه الترك من سياسة وأقوال ينطقون بها يكفي للاستدلال على ذلك.
الذين يتحكمون في سياسة تركيا اليوم هم ورثاء كل ذلك التاريخ والثقافة من “الأتراك البيض” الذين لا ينتمون إلى أولئك الذين قَدِمُوا من آسيا الوسطى وإنما من أولئك الذين أصبحوا أتراكاً بحكم تعامل آبائهم وأجدادهم مع العثمانيين لأجل مصالحهم، وورثوا منهم الأساليب والمكائد التي تمكنهم من التحكم برقاب المجتمعات والشعوب، فلم يحاربوا يوماً بجنودهم بل يستخدمون الشعوب. فتوَسُّعُ الدولة العثمانية نحو الشرق كان ثمنه دماء الكرد، وتوسعها في شرق أوروبا كان ثمنه دماء السلاجقة وأطفال الروم الذين ذبحوهم، وغزْوِهم لغرب أوروبا كان ثمنه دماء الأمازيغ وعرب شمال أفريقيا، وهكذا تأسست الدولة العثمانية وانهارت مع صحوة الشعوب في بدايات القرن العشرين، وآخر سلطان شهير في الدولة العثمانية كان السلطان عبد الحميد.
في يومنا رئيس الدولة التركية أردوغان لا يكتم إعجابه وتبعيته للسلطان عبد الحميد، ويرى أن جمهورية تركيا التي أسسها مصطفى كمال أتاتورك هي استثناء في التاريخ التركي ويجب التخلص منها لإكمال مسيرة عبد الحميد، كما أن كل المعاهدات الدولية التي أدت إلى تقليص العثمانية لاغية أو يجب التخلص منها لأنها بمثابة أغلال للتركي الجدير بقيادة العالم والتحكم بالشعوب والأوطان وثرواتها.
نعم هذه هي الذهنية التي نتعامل معها وتشكل خطراً على الشعوب جميعاً لأنها لا تقبل بالعيش المشترك للشعوب على هذا الكوكب، فإما أن تكون خانعة أو تحت رحمة سيف السلطان.