رائعة يلماز كوني.. من السجون التركية إلى السعفة الذهبية
593
4 سنوات مضت
إذا كان فيلم “قطار منتصف الليل” للبريطاني آلان باركر، الذي يروي حكاية الشاب الأميركي بيلي هايز يكشف حالة الرعب التي يعيشها نزلاء السجون التركية، بصرف النظر عن طبيعة قضاياهم، فإن رائعة يلماز كوني “الطريق” تذهب خطوة أبعد وتكشف الواقع المأساوي للسجناء ليس فقط داخل الزنازين بل وخارج أسوارها.
الثقافة الكردية قاومت القمع والتهميش، عبر التعبير عن معاناة أبنائها، وبطريقة قاربت الملحمية كما هو الحال في فيلم “الطريق” (يول) للروائي والسينمائي الكردي يلماز كوني (1937 ـ 1984)، الذي تمكن من إنجاز شريط روائي امتدت كتابته من زنازين السجون التركية حتى وصلت شاشات مهرجان كان في فرنسا حيث نال السعفة الذهبية باقتدار، وفي سابقة تستحق بذاتها، صناعة فيلم يروي ظروف إنجاز هذا الفيلم.
الرياح وصية الكردي
ليس أمام من انتهى لتوه من مشاهدة روعة وهول “الطريق” الذي عُرض عام 1982 إلا استحضار ما قاله درويش لبركات “يا ابني الحُرّ! يا كبش المتاه السرمديّ. إذا رأيتَ أباك مشنوقا فلا تُنْزِلْهُ عن حبل السماء، ولا تُكَفِّنْهُ بقطن نشيدك الرَّعَوِيَّ. لا تدفنه يا ابني، فالرياحُ وصيَّةُ الكرديِّ للكردي في منفاهُ، يا ابني.. والنسورُ كثيرةٌ حولي وحولك في الأناضول الفسيح”.
“الطريق” هو عبارة عن خمسة طرق وعرة، خمسة مصائر فجائعية لخمس شخصيات كردية، أغلبها ينحدر من عمق ذلك الريف البائس الذي تحكمه علاقات إقطاعية متخلفة. يغادر كل واحد من هؤلاء الرجال السجن بصفة شرطية ومؤقتة، ولمدة أسبوع واحد، من أجل زيارة أهله، وفق القوانين الجزائية التركية القاضية بمنح هذا “الامتياز” لمن قضّى ثلثي مدة عقوبته.. وهذان “الثلثان” قد يعنيان عقدين أو أكثر من الزمن، خصوصاً للمساجين السياسيين أي أن “المتمتع” بهذا الامتياز سيقف عند مصير مجهول وغير متوقع لأفراد أسرته طيلة فترة حبسه ثم إن عودته إلى السجن بعد هذه “المكافأة” المشروطة، أشد مرارة ورهبة من أنه لو ظل محبوساً.
هذا بالإضافة إلى السجن الأكثر قسوة، والذي يكافئ بزيارته لمدة أسبوع، وهو سجن المجتمع المثقل بالتقاليد البالية والمكبل بالأعراف الجائرة مما يجعل “الطريق” واحدة وإن اختلفت المصائر والنهايات لشخصيات يلماز كوني، في فيلمه الذي ينضح شعرية قاتمة في جماليات حزينة ومرعبة، يصنعها الواقع وتخوضها أرواح قلقة ومتمردة.
أما الاحتمال الأكثر انتساباً للمجهول في قصة السراح المؤقت لكل شخصية من شخصيات هذا الشريط الحابس للأنفاس، فهو أن “ينجو” الواحد من رعب مصيره في الخارج بالعودة إلى السجن.. إن الواقع هو الجدار الأكثر فتكاً ووحشة من السجن.. وهو ما عبّر عنه كوني، في فيلمه الذي حمل عنوان “الجدار”.
لا يكاد الواحد من هؤلاء السجناء الطلقاء ينتبه إلى المدة التي قضاها في السجن إلا بعد أن يقف عند ما آلت إليه الأحوال والمصائر لدى أفراد أسرته أو من تبقى منهم أثناء سراحه المؤقت طيلة ذلك الأسبوع المشؤوم من تلك الحرية المزعومة، وكأن بضعة الأيام التي سيقضيها خارج جدران السجن هي بمثابة العقوبة المضافة، إذ لم تزد الأمور إلا بؤساً وتعقيداً، فهذا سيد علي يفاجأ أن والده قد تزوج من امرأة ثانية وزوجة أبيه أنجبت ولداً وهو لا يعلم ثم تخبره والدته بأن زوجته زينة قد جلبت لهم العار بعد امتهانها الدعارة مما يضطر الوالد إلى أخذها إلى القرية. وبعد أن يسلك سيد، طريقا ثلجية وعرة تسببت في عجز حصانه عن مواصلة السير فيجد نفسه مضطرا إلى قتله، يصل القرية لملاقاة زوجته مع ابنها فيجدها محبوسة في زريبة المواشي في انتظار قدومه وغسل عاره بيديه حسب أعراف القبيلة، لكن سيد يلين قلبه ويسامحها بعد أن تزينت له قبل قتلها برضاها. وفي طريق العودة، تلاقي الزوجة نفس مصير الحصان فتتجمد من البرد، ولم تنفع معها جلدات الزوج بغية إنقاذها، في مشهد درامي أخاذ. تموت الزوجة في أحد المستشفيات بعد أن حملها الزوج على ظهره مسافة طويلة تحت الثلج.
أول مرة يظهر اسم كردستان في فيلم سينمائي
أما الشخصية الثانية في الفيلم فهي كردي من ديار بكر، اسمه محمد صالح، سجن بسبب ضلوعه في عملية سرقة أحد محلات المجوهرات وهو متزوج من أمينة ولديه ولد وبنت صغيران وزواجه تم دون تسجيل رسمي في الدولة، محمد صالح يحب زوجته وهي تحبه، لكن أهلها لا يطيقونه لأنه متهم بتخاذله وعدم دفاعه عن شقيق زوجته الذي قتلته الشرطة أثناء عملية السطو. يتمكن محمد صالح من العودة بزوجته إلى القرية رغم عدم موافقة أهلها، وفي طريق العودة يضبطه المسافرون في القطار متلبساً بممارسة الجنس مع زوجته في إحدى المقصورات فينهالون عليه ضرباً. وبعد أن ينقذه العمال يدخل شقيق زوجته عربة القطار ويطلق الرصاص على الزوجين فيموتان ويبقى مصير الطفل مجهولاً.
عمر، كردي من قرية تابعة لمدينة أورفا. تظهر على الشاشة كلمة كردستان في إشارة إلى وصول أحد أبطال الفيلم إلى المنطقة التي يسكنها الكرد في تركيا. وتجدر الإشارة إلى أن هذه هي المرة الأولى التي يظهر فيها اسم كردستان في فيلم سينمائي. عمر يحب إحدى بنات قريته، لكنه يلتزم بالزواج من امرأة شقيقه الذي قتلته الشرطة وأنكر التعرف إلى جثته بسبب خوفه من نفس المصير. وهو من أكثر المشاهد تأثيراً في الفيلم، ذلك أن الكرد يضطرون في مثل هذه المواقف إلى كتم آهاتهم وإخفاء دموعهم.. وهو ما يذكر بمقطع من قصيدة للشاعر الكردي لقمان ديركي يقول فيها “نحن الذين قُتلنا، ومُنعت أمهاتنا من البكاء علينا فارتدين زهور البراري”.
أمام هذا الكم الهائل من الإحساس بالقهر، يضطر عمر إلى الالتحاق بصفوف المقاومة الكردية في الجبال تحت زغاريد النساء، وذلك في رسالة تقول للسلطات التركية: أنتم الذين بدؤوا بالظلم والقهر والقتل.. ولولا ذلك لما حاربناكم.
أشباح السجن بقيت ماثلة في أذهان شخصيات الفيلم فترة هذا الإفراج المؤقت، فهذا مولود، شاب من عائلة ميسورة يحاول بعد عودته للإجازة إقناع خطيبته بالزواج، لكن أهل الفتاة يماطلون مما يضطر إلى الذهاب إلى بيوت الدعارة، وهناك تطلب منه المشرفة على خدمة الزبائن، الذهاب إلى الغرفة رقم 4، لكنه يرفض، لأن ذلك الرقم يذكره برقم المهجع الذي يقبع فيه في السجن ويفضل الذهاب إلى الغرفة رقم 11.
أما عن السجين يوسف، فينطبق عليه قول العامة “أجت الحزينة لتفرح ما لاقت مطرح” إذ وفي غمرة نشوته وفرحته بالإجازة ولقاء زوجته وإهدائها طيراً مسجوناً داخل القفص يضيع التصريح فيتم القبض عليه مجدداً قبل الوصول إلى البيت ويتم إدخاله إلى سجن جانبي من أجل التأكد من روايته رغم محاولته ومحاولة صديقه مولود الإفراج عنه كونه يرافقهم في السجن وحصل على إجازة الخروج لمدة أسبوع.
لم شمل العائلة السينمائية الكردية في دول عديدة
كل هذه الأحداث التي تتلاعب بأقدار شخصيات “تحب الحياة ولكنها لم تستطع إليها سبيلا”، تدور تحت أزيز الطائرات حينا، وصمت الحزن والتوجس حينا آخر. وجوه مكفهرة، أطفال كبار ويدخنون، حياة قاسية وفقيرة، لكنها مليئة بالدموع والمعزوفات القادمة من عمق الأوجاع.. ألم يقولوا: الغناء ديوان الكرد. وأنشد أحد شعرائهم “تعودنا الحياة متجهمين والموت مبتسمين”.
هذا الفيلم الذي وقع تهريب مخطوط كتابته ومخرجه من خلف قضبان السجون وعبر الحدود، وأنجز بطريقة تشبه الخيال السينمائي، هو بمثابة حجر الزاوية في بناء صناعة سينمائية كردية اللسان والهوى والمزاج، إذ ومن خلاله تأسس مهرجان السينما الكردية في برلين سنة 2002 على يد محمد أكتاش وبولانت كوجاك. وكانت غايته لم شمل العائلة السينمائية الكردية في دول عديدة، وتعديل الكفة لصالح الفن والثقافة بعد أن طغت عليهما السياسة وعصبياتها.
“الطريق” فيلم يهتم بالتفاصيل والأحاسيس الإنسانية الدقيقة قبل الشعارات التعبوية، وإن كانت أحداثه تدور على خلفية سياسية كما أنه لم يهمل الجماليات البصرية واللغة التشكيلية القائمة على دقة اختيار الألوان والزوايا، وكذلك الموسيقى التصويرية.
وفي هذا الصدد، يقول يلماز كوني، الذي استعان بشريف غورن، لتنفيذ الإخراج بسبب وجوده في السجن “كنت أعلم مسبقا بأني لن أقوم بإخراج بعض أفلامي بنفسي بسبب وجودي في السجن، لهذا السبب قررت إضافة الكثير مني ومن أفكاري وتخيلاتي وصوري وتصوراتي التي تزدحم في رأسي فاضطررت إلى كتابة ديكوباج تكنيكي فني تفصيلي دقيق مع جميع الملاحظات الضرورية المهمة للإخراج والحوار والموسيقى، بالإضافة إلى تعليمات مكثفة وواضحة عن الديكور والألوان والملابس وحتى نوع العدسات التي يجب أن تستخدم”.
وعن علاقة كوني بالسجن الذي شكل عقدة بالنسبة للكثير من سجناء الرأي في تركيا وغيرها، فما ينفكون يكتبون عنه حتى جعلوه هدفا ومنطلقا للعديد من أعمالهم، يقول كوني “لم أكن أريد أن أكتب مذكرات السجن أو عن السجن إلا لأنني لم أتمكن أن أتجاهل هذا الواقع المأساوي فكان فيلم “الطريق” الذي يبدأ من السجن ويذهب إلى خارجه أي إلى السجن الكبير، سجن المجتمع وصعوبة الحياة وقساوتها. ثم تبعته بعد أن حصلت على حريتي بفيلم ‘الجدار’ الذي يعود بنا إلى داخل السجن حيث تدور أحداثه كلها تقريبا في السجن”.
ونظرا لظروف عمله واستحالة تصويره في تركيا وفي سجن حقيقي، قام كوني ببناء سجن تركي في قلب أوروبا لتخليد تلك الشخصيات وفضح الواقع المزري الذي تعيش في غياهبه عبر المآسي التي رأيناها سواء في فيلم “الطريق” أو فيلم “الجدار”.
من “اسمي كريم” إلى “سيد خان” أرقام قياسية في المشاهدة
منذ السابعة تنقل يلماز بين مهن كثيرة فعمل في قطف الفواكه وحمالاً وبائعاً للجرائد ثمّ عاملا عند قصاب.. قبل أن يصل إلى العالمية
في عام 1959 مثّل يلماز فيلمه الأوّل “الأيل الأحمر” ومن ثم فيلم “أبناء هذا الوطن”. وفي ذلك الوقت يحصل على لقبه الفنّي يلماز كوني، أي يلماز الجنوبيّ، كاسم مستعار كتب به سيناريو أحد أفلام المخرج المميّز عاطف يلماز.
في الثلاثين من عمره أضاف كوني اختصاص الإخراج السينمائيّ لمهنته كممثل وسيناريست. وفي الوقت الذي لم يحظ فيلمه الأوّل “اسمي كريم” بأيّ نجاح يذكر، فإنّه سرعان ما حقق فيلمه الثاني “سيد خان”، في العام التالي 1968، الأرقام القياسيّة في المشاهدة، حيث شاهد الفيلم ما يقارب من ثمانية ملايين مشاهد. وفاز بالجائزة الثالثة لأفضل فيلم في مهرجان أضنة السينمائيّ 1969 بينما فاز كوني بجائزة أفضل ممثل.
ومنذ ذلك العام، وتحديدا منذ عام 1970، لمع نجم كوني كأحد أفضل المخرجين السينمائيين، مجسّدا الوضع الاجتماعي المزري للبلاد في موجة جديدة للسينما التركيّة، ضمّت إلى جواره مخرجين من أمثال أردن كيرال وثريّا دورو وزكي أوكتان وعمر قاوور وشريف غوران.. حيث جعلوا اسم السينما التركيّة، منذ عام 1980، يسطع نجمه في المحافل الدوليّة بقوّة.
الجدير ذكره أن السيناريست يلماز كوني قد حصل على 17 جائزة سينمائية أهمها السعفة الذهبية من مهرجان الأفلام السينمائية عن فيلمه الأشهر “الطريق” عام 1982.